نسيم الخوريللإجابة عن هذه الأسئلة، يفترض التذكير بالمفاتيح الخمسة اللامعة التي كانت تبدو بين أصابع الرئيس الأميركي بوش وهو يقرع أبواب الشرق الأوسط، وغيرها من دول العالم، ونعني بها: الدمار الشامل، الإرهاب، التهريب الدولي وتبييض الأموال، الديموقراطية والحرية ومسألة النظم السياسية في الكرة الأرضية.
وإذا كانت هذه المفاتيح معلّقة بحبل غير معقود من دول حاولت أنظمتها أن تُدخل فيه أعناقها مزهوة حلقات تلو حلقات، فإن الشعوب لم تخرج قطعاً إلى الشوارع في دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت وطهران ومجمل العواصم العربية والإسلامية الأخرى لتحيّة أميركا، بل استلّوا إمّا السبحات المعقودة على الصلاة كما على المقاومة والسلاح والرفض، بهدف فكّ تعويذة العولمة من حول عنق الكرة، ولأنّ أخطاراً خمسة أخرى كانت تبدو أمامهم بالفطرة، ترشح من أميركا التي راحت تمدّ بها بلاط «النظام الدولي الجديد» وهي: القوة العسكرية المحصورة بالحكم الامبراطوري الأحادي، الاستيلاء على النفط، حماية إسرائيل بالرغم من بلوغها الستين وهي تسبح في دماء الفلسطينيين ودموع العرب، منع أي قوّة عظمى من الظهور، العبث بالقيم والأديان والحضارات الأخرى لمصلحة القيم الأميركية.
إذاً، مقابل الحدود الخمسة للنجمة الأميركية، هناك خمسة حدود أخرى، يسهل إدراكها في تقفّي الخطى العسكرية للحزب الديموقراطي الأميركي بين أفغانستان والعراق وإيران وكوريا الشمالية، وهي بدت واضحة أساساً في «دليل التخطيط العسكري» الذي وضعه بول وولفويتز أساساً بعد انقضاء الحرب الباردة (1991)، مركّزاً فيه هذه النقاط الخفيّة لاستراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية، وطارحاً بغداد وبيونغ يانغ أهم خطوتين فيه وأولهما لامتحان القوة الأميركية.
وعندما تسرّبت وثيقة الدليل، حرص البيت الأبيض، آنذاك، على إعادة صياغتها، مسقطاً منها مبدأ حصر القوة بأميركا، وكانت الخطوة الأولى لقيادة جورج بوش الأوّل حرب تحالف الـ33 دولة على العراق لإخراجه من الكويت، معلناً بذلك قيادته للعالم الجديد.
هكذا استمرّ عدد كبير من الباحثين وأساتذة الجامعات يضعون خططهم وأفكارهم لرسم السياسة الأميركية، علماً بأنهم كانوا خارج الإدارة في عهد بيل كلينتون، وقد تكتّلوا كما هو معروف باسم «المحافظين الجدد»، وكانوا على ارتباط وثيق بـ American enterprise institue أي معهد المشاريع الأميركية. وقد باتت أسماؤهم معروفة؛ خرج بعضهم من البيت الأبيض مستقيلاً مشوباً بالندم والخطيئة، وأبرزهم جيمس وولسلي (المدير الأسبق للاستخبارات الأميركية)، ريتشارد بيرل، دوغلاس فيث، إيليوت أبرامز، وولفويتز، إيرفنغ كريستول، مايكل لادين، وتشبّث البعض الآخر إلى اليوم بفلسفة هذا المعهد وعلى رأسهم ديك تشيني وإيليوت أبرامز ووليام كريستول وراندي شونينمام. وهذان الأخيران يلازمان المرشح الجمهوري جون ماكين الناري المزاج بالرغم من تقدّمه في السن، ويدفعانه من موقع المحافظ الواقعي إلى المحافظ المتطرف الذي يصل إلى تقديس علاقته بإسرائيل، وهما يحلمان معه بمواصلة فرض القوة العسكرية في حلّ مشكلات العالم، وإخراج روسيا من مجموعة الثماني الكبار، ولربّما شنّ الحرب على إيران ومحاصرة الصين كدولة عظمى متقدّمة تهدّد فرادة الولايات المتحدة الأميركية كدولة عظمى وحيدة في الألفية الثالثة كما يتطلعون!
يُعدّ هذا المعهد من أهم مراكز الأبحاث الاستراتيجية في الولايات المتحدة الأميركية، وهو فاعل في رسم السياسات الأميركية منذ أنشأه لويس براون في عام 1943، ومعروف عنه طول باعه في إيصال الباحثين فيه إلى السلطة. وقد أسّس هؤلاء الباحثون المحافظون، بالتعاون مع شركات النفط الأميركية ومصانع الأسلحة الضخمة في أميركا، منظمتهم التي لا تتوخى الربح، وتعمل على جعل أميركا قائدة العالم، وتغيير الأنظمة غير المرغوب بها في العالم، والسيطرة النهائية على منابع الطاقة، وعسكرة الفضاء، إلى ما هنالك من عناوين كبرى واسعة جاءت بعنوان: «الزمن الأميركي الجديد».
ولهذا كان من الطبيعي قراءة هذا الاعتداد الدولي الأميركي، وهذه العناوين الكبرى في تطلعات باحثيها ومفكّريها، وخصوصاً المحافظين منهم الذين يُعدّون كلّهم من أتباع ليو شتراوس، الصديق الحميم للويس براون صاحب المقاولات Entreprise السياسية الأميركية المشار إليه.
من هو شتراوس؟
يهودي، أستاذ جامعي، ترك ألمانيا النازية إلى أميركا (1940)، وراح يحاضر في جامعة شيكاغو، ويشرف على أطروحات الدكتوراه في الميادين الفلسفية. وقد أسّس لفلسفة ألصقها اسمه أي «الشتراوسية» بفضل طلابه الذين تحمّسوا كثيراً لأفكاره/ فلسفته التي منها يرشح الفكر والسلوك الأميركي المعاصر، الذي نعاينه تباعاً في منطقتنا وفي العالم.
ما هو مختصر تعاليم شتراوس؟ ثلاث نقاط:
1ـــ يعيد شتراوس الاعتبار للفلسفة بمعانيها التقليدية، بعدما كادت تفقد رونقها وعظمتها أمام ضحالة «فلسفة الحداثة». فالأفكار الخاصة بالحداثة طوباوية، لذا فإن تخليص الفلسفة من براثن الحداثة التي فتحت نوافذ المعرفة للعاديّين من البشر وقلّلت من شأن الفلاسفة، يكون في دفع الفلسفة مادةً كبرى في تكوين القرار السياسي: الفلسفة سياسية أساسها القوة.
2ـــ الدين هو ملاط المجتمعات وعقيدتها، وخصوصاً العسكرية منها. ولا يجازف الناس بأرواحهم إلاّ إذا كانوا موعودين بالجنّة، ولا إشاعة للأخلاق والأفكار خارج دوائر العقيدة الدينية، لذا يدين شتراوس الفكر العلماني الذي دمغ طموح البشر منذ نابليون، وأورث الفردانية والليبرالية التي تعزّز المعارضة وتؤدي إلى ضعف المجتمعات. وليس الدين للحكّام والمفكّرين بل هو للعامة من البشر، وهو الأداة في تهشيم الشعوب وتقاتلها وإلهائها عن الأفكار الأخرى.
3ـــ لا مكان للأخلاق في السياسة، بل للخداع والكذب وفنون المراوغة والتسويف. وتقتصر الحقيقة على النخبة الباحثة الحاكمة بمبدأ أنّ القوي يحكم الضعيف. ولا تؤول السياسة إلى خواتيمها النبيلة إلاّ بجرّ القادة إلى الدخول في محور الشرّ والاستغراق فيه.
يخرج جورج بوش أو يستعدّ للخروج من البيت الأبيض معلّقاً بحبله مجازر هائلة وأموالاً طائلة تدخل الجيب الأميركي وجيب حزبه، فتعوّض الحرج من التواءات السياسة التي اعتمدها في نهش الشعوب، بل تؤهل حزبه أكثر للانتخابات التي قد لا تباعد كثيراً بين الجمهوريين والمحافظين في مستقبل السياسة في العالم، لكنها سياسة سبق له أن دمغها بالقول بيهودية الدولة الإسرائيلية التي سنفهم أبعادها الخطيرة في المستقبل، والتي سيتوّجها بعودته إلى المنطقة، مشاركاًَ إسرائيل احتفالها الستيني.
جاء في كتاب «أميركا بين الحق والباطل: في شرح القومية الأميركية» لأناتولي ليفن، زميلنا في كامبردج، أنّ العالم قد يتطلّع بحنين نرجسي إلى بوش في ما لو انتخب جون ماكين رئيساً لأميركا. لماذا؟
لأن سياسة أميركا مختومة بخاتم ليو شتراوس، ولأنّنا كعرب نقرأ لنقرأ لا لنفعل، ولأن أساتذة الجامعات في بلادنا يستلّون السبحات وراء لقمة الخبز، مع أنّ مدننا باتت مرتعاً للجامعات الأميركية والأوروبية.

* أستاذ جامعي