strong>إسكندر منصور *تحفظّي على «اتفاق الدوحة» ليس لأنّ موقفي أقرب إلى السعوديّة في «حربها الباردة» مع قطر، وليس لأني لا أودّ أن تقطف قطر ثمار جهدها؛ أو لأنيّ أحترم الأصول الدستوريّة كما «يحترمها» سمير جعجع الذي أعلن تحفّظه على انتخاب العماد سليمان «احتراماً» للدستور؛ أو لأنيّ أرى بيروت وقفاً مطوَّباً لآل الحريري؛ أو لأني أرى الأرمن ليسوا بلبنانيين كما أوحى رجل الثقافة والحوار المسيحي ـــ الإسلامي الدكتور رضوان السيّد، وكما كان قد أوحى قبله الرئيس أمين الجميّل؛ أو لأنيّ لا أحب أن يشعر الصوت المسيحي اللبناني بدور فاعل في العمليّة الانتخابيّة كما أراد العماد عون؛ أو لأني ضد الحوار و«العيش المشترك» آخر هوايات وليد جنبلاط. إني أتحفّظ لأن هذا الاتفاق أولاً وأخيراً هو صاعق الانفجار المقبل. فالأزمات الإقليميّة ليست إلى زوال، ومدى تأثيرها في الأوضاع الداخليّة اللبنانيّة رهن بمدى صلابة الوضع الداخلي اللبناني أو هشاشته. واتفاق كهذا لا يشيع مناخاً من المناعة المضادة للتفتّت، بل يفسح المجال للقوى الإقليميّة والدوليّة للتسلل عبر الطوائف، مما يعرّض وحدة البلد، التي هي أصلاً هشة، للخطر. إنّ هذا الاتفاق ليس إلاّ محاولة لإعادة إنتاج نظام سياسي أثبت، ليس فقط فشله مرة تلو المرة، بل آثاره المدمّرة على الوطن. هكذا كان الميثاق، وهكذا كان «اتفاق الطائف»، وهكذا سيكون «اتفاق الدوحة». إذاً فلنعتذر سلفاً من أولادنا وأحفادنا. لقد أورثنا آباؤنا مزرعة لا وطناً، وقرّرنا بملء إرادتنا أن نورث أولادنا وأحفادنا مزرعة لا وطناً. نحن اللبنانيين نحترم الأمانة والحفاظ على لبنان بأن يكون مزرعة كأمانة في عنقنا وحافظنا عليها بدمائنا. «اتفقوا» فتقاتلنا و«نتفق» فيتقاتلون.
هذا لا يعني أن اللبنانيين غير مسرورين من إنجاز «اتفاق الدوحة». لقد كانوا يصّلون نهاراً وليلاً ليصل الزعماء «المستقلون» إلى أي اتفاق. اللبنانيّون مسرورون من الاتفاق، وحقهم أن يكونوا مسرورين. كانوا يخشون البديل؛ قالوا لنا إنّ البديل ليس سوى لبنان الساحة، وشاهدنا خلال الأسبوع التاريخي ما جرى في بيروت والجبل والشمال والبقاع، وربما كانت النار على وشك الانتشار في كل بقعة وقرية وحي وبناية وزاروب في لبنان.
استغل أمراء الطوائف تعب اللبنانيين وقرفهم وحزنهم وتوقهم إلى الهدنة ولو لسنة، لشهر، لأسبوع، ليوم وحتى لساعة، لكي يدفنوا موتاهم ويتدبروا أمر مسنِّيهم و ليهدِّئوا صدمة أطفالهم، فلبّوا دعوة أمير قطر ليمرروا الاتفاق الجديد، وفي أحسن الأحوال قل المُسكِّن. هكذا أوحوا إلينا بأن البديل هو لبنان الساحة، ونسوا أو تناسوا أن لبنان الوطن لا الساحة هو البديل المطلوب.
قالوا إنهم كانوا يتحاورون في غرف الشيراتون من أجل لبنان، حيث كان العرق يتصبّب من جباههم بالرغم من المكيّفات المتطورة من كثرة المناورات والرحلات المكوكيّة بين الطوابق. كانوا يسهرون الليل يجمعون ويطرحون الأرقام. سنّي ناقص شيعي زائد مسيحي مقسوم على درزي مضروب بالأرثوذكسي ناقص أرمني... والنتيجة «زي ما هيّي». لم يكونوا يتحاورون بشأن قانون جديد عصري يليق ببلدهم للانتخابات، بل كانوا يترشّحون ويرشِّحون ويؤلّفون اللوائح ويتحالفون ويجرون الانتخابات بعينها ويعلنون النتائج. لم يغمض لهم جفن قبل أن يعرف كل فريق نتائج الانتخابات. كانوا يحاربون نعاسهم ليشهدوا ولادة الفجر الجديد. حقاً كل من طلب العلى سهر الليالي. ما هكذا يكون الحوار من أجل لبنان. ما حصل حوار لتحسين شروط المحاصصة، وهذا ما يعرف بحوار التجّار، بينما المطلوب حوار من أجل وطن حقيقي ومواطنة حقيقيّة ونظام انتخابي عصري، هذا هو حوار الأحرار.
عادوا إلى لبنان. عادوا إلى مربعاتهم الأمنيّة رافعين إشارات النصر. يوهمون اللبنانيين بأن المنتصر هو لبنان، وأنّ القضية ليست قضيّة أفراد، بل مصلحة لبنان كانت نصب أعينهم وفوق كل مصلحة. كأن لبنان لم يكن له مصلحة في الاتفاق بين اللبنانيين منذ شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين. أين كانت مصلحة لبنان خلال السنتين الماضيتين؟ يصرّحون بأنه لا مفر من الحوار و«العيش المشترك» بيننا وبين الطائفة الشيعيّة/ المسيحيّة/ الدرزية /السنيّة الكريمة (دائماً يلزقون صفة الكريمة بعد ذكر اسم أي طائفة أخرى للدلالة على احترام الآخر والقبول بالآخر، وانتمائهم إلى مدرسة ما بعد الحداثة).
ما الذي حصل ليهبط الحل فجأة. لماذا وافق الموالون (لمن؟) على إعطاء الثلث الضامن/ المعطِّل ووافق الحريري على تقسيم بيروت؟ ما سر هذه الـ«قطر» جامعة «الأضداد» والأقطاب؟ فقط للتنويه: قطر على علاقة جيدة مع السعوديّة وإيران وسوريا وإسرائيل والموالاة والمعارضة.
قيل لقد «طويت صفحة العزل والتهميش للمسيحيين... بعد 18 سنة من التهميش». ربما طويت صفحة تهميش الطائفة المسيحيّة وعزل الطائفة الشيعيّة، ولكن بدأت (أصلاً لم تتوقف) صفحة تهميش المواطن اللبناني. من يعترف أصلاً بوجود مواطن لبناني؟ لا أحد يعترف باللبناني كمواطن حر. وجوده من وجود طائفته، وعلاقته بالدولة تمرّ من خلال علاقته بالطائفة ومؤسّساتها. هذه هي الدولة الطائفيّة التي ترفض وتتنكّر لوجود مواطنين خارجين عن الطوائف وخارجين على الطوائف. فيا أخي المواطن، غيّبوك و همّشوكَ في الدوحة. أعلنوها سراً وعلانية. لا اعتراف بالمواطن، ولا صلح مع المواطن ولا تفاوض مع المواطن. نعم للطائفة الممثل الشرعي والوحيد للذين يقطنون في لبنان. فيا أخي المواطن: لنردد مع محمود درويش «كم كنت وحدك... كم كنت وحدك». العلمانيّون لم يكونوا هناك في قطر. لم يمثلهم أحد. لم توجه أصلاً لهم الدعوة. ليس لهم مكان أو زاروب معيّن يسكنون فيه فيصبحون طائفة لها الحق بأن تمثّل. مكامن «ضعفهم» أنهم في كل مكان. في كل حي وعائلة وزاروب ومحافظة وقضاء ومدينة. إنهم بحجم الوطن. غُيِّبوا ليغيِّبوا الوطن ولتبقى الطائفة. بالرغم من كل ذلك، تستحق قطر الشكر ويحق للبنانيين أن يتنفسوا الصعداء. لقد ذهب السنيورة إلى بيته وأخذ معه الوزير أحمد فتفت وبقيت الفتفتة (التعبير لأسعد أبو خليل) في السرايا. ذهب السنيورة هذا الذي أُعجِب جورج بوش بشجاعته وحكمته وعشقه للديموقراطيّة والحريّة. فكان مخلصاً لأوليائه حتى الرمق الأخير، حيث حاول جاهداً أن يمرِّر قراري الفتنة فانقلب القرار عليه وخسر موقعه وخلص البلد ولو إلى حين.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة