جوزف عبد اللّه *ليس من السهل أو البديهي، في واقع الصراع اليوم في لبنان، التمييز بين الفتنة المذهبية السنية ـــ الشيعيّة والتصدّي للتآمر على المقاومة. وعملية التمييز هذه تحتلّ مكانة مركزية وتمثّل قضية تستحقّ النضال الفعلي والصبور لجعلها حقيقة تدركها الغالبية من اللبنانيين، وأهل السنة منهم على وجه الخصوص. ولعلّ عملية التمييز هذه بات اليوم من الصعب بلوغها وهي تزداد صعوبة بقدر ما تستمرّ الأمور تراوح على منوالها الراهن في التعبئة الشعبية والإعلامية. ولكن عدم بلوغ التمييز يجب أن لا يمنع المقاومة إطلاقاً من مواجهة عمليات التضييق عليها باتجاه تصفيتها ولو اتخذت هذه المواجهة مظهر الفتنة المذهبية.
صحيح أنّ كلّاً من معسكري الموالاة والمعارضة يضم في صفوفه مكونات من شتى الطوائف اللبنانية، ما يسمح بالكلام على أنّ الانقسام في لبنان سياسي لا مذهبي. وحقيقة الانقسام السياسي فعلية. ويكمن جوهرها في الإجابة عن أسئلة من نوع: ما ضرورة بقاء المقاومة؟ وكيف نستكمل تحرير ما بقي لنا من أراضٍ محتلة؟ وما موقع لبنان في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي؟ وما دوره في المحاور الإقليمية والدولية؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تدور حول وظيفة الكيان اللبناني...
وفي سياق الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، ينقسم اللبنانيون بالشكل المعروف الذي يوحي بأن الانقسام سياسي.
لكنّ التدقيق في هذه الحقيقة يكشف لنا وجود معسكرين يتكوّن العمود الفقري لكل منهما، أي نواته الصلبة وقوته الغالبة، من طائفة محدّدة: الشيعة في المعارضة والسنّة في الموالاة. وبالتالي فإنّ قيادة معسكر المعارضة وقوّتها الضاربة شيعية بلا منازع تقريباً. كما أنّ قيادة معسكر الموالاة سنية بامتياز. وعلى قاعدة هذا التكوين الواقعي للانقسام السياسي، تنشأ الشروط الملائمة للدعوة وللتعبئة باتجاه الفتنة السنية ـــ الشيعية.
إنّ لكلّ صراع وجهين: واحداً عادلاً من جهة وآخر ظالماً من الجهة الأخرى. وبالتالي فالموقف من طرفي الصراع يجب أن يكون على ضوء عدالة أو ظلم الغرض الذي يسعى إلى تحقيقه كل من هذين الطرفين. وهنا لا يعود كبير الأهمية (وليس بالضرورة عديم الأهمية) التساؤل عمّن نقل الصراع من إطاره السياسي إلى امتداده العسكري، ما دامت الحرب (حتى الحرب الأهلية) «هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى (وسائل العنف)» على حد عبارات الجنرال البروسي كلاوزفيتز.
ومن هنا، فالموقف من حوادث العنف التي شهدها لبنان في الأيام الأخيرة يجب أن يكون امتداداً للموقف من أهداف سياسات فريق الاستئثار بالسلطة الملتحق بمشاريع الولايات المتحدة والصهيونية وجماعة أنظمة الانهزام العربي (لا أنظمة الاعتدال).
كما أنّ لكلّ صراع ظاهراً (شكلاً) وباطناً (مضموناً). ونادراً ما يأتي ظاهر الصراع متوافقاً مع باطنه، أو أن يعبّر شكله عن مضمونه تماماً. وعلى ضوء العناصر المكوّنة لكلّ من معسكري الصراع في لبنان، يتّخذ هذا الصراع شكل الفتنة المذهبية السنية ـــ الشيعية. ولا بدّ للصراع في سياق الاصطفافات الراهنة (وفي حال استمرارها) من أن يتخذ بالضرورة شكل الفتنة المذهبية.
إن فريق الاستئثار بالسلطة يدفع دفعاً مقصوداً إلى تسعير الفتنة المذهبية السنية ـــ الشيعية، لأنّ في ذلك وسيلته الأساسية الوحيدة للتعبئة والحشد. وذلك تماماً كما سبق أن عمل فريق الاستئثار بالسلطة في مطلع السبعينيات على تسعير الفتنة العنصرية، لبناني ـــ فلسطيني، ومن ثمّ الفتنة المسيحية ـــ الإسلامية.
وبما أنّ العصب المركزي للمقاومة وللدفاع عنها شيعي، فمن المتحمل أن يستمرّ الصراع من أجل حماية المقاومة على مظهر صراع سني ـــ شيعي. ويصحّ ذلك خصوصاً عندما تنحو الساحة المسيحية منحى تفويت الصراع داخل صفوفها، بينما تستكين الساحة السنية على الدعوة إلى تجنيب مناطقها الاقتتال.
هل يعني ذلك عملياً غير إبقاء عملية الدفاع عن المقاومة من مهمات نواتها الصلبة الشيعية؟ وألا يستلزم ذلك بالضرورة بقاء الدفاع عن المقاومة على مظهر الفتنة السنية ـــ الشيعية؟
وبما أنّ القوى المؤيدة للمقاومة من خارج الشيعة تبقى متردّدة ومسالمة (وبالتالي خارج المواجهة) بوجه دعاة تصفية المقاومة من السنّة والمسيحيين، فإن الصراع سيبقى بالضرورة على مظهر الفتنة. وهذا ما لا يقلّل أبداً من عدالة قضية المقاومة، ولكنه يُضعف بالضرورة من إظهار الطبيعة السياسية للصراع. فلماذا لم تقدم هذه القوى المعنية (وخصوصاً السنية) على أخذ دورها؟
لكم كان السيد حسن نصر اللّه على صواب عندما أعلن، بما معناه، أنّ اليد التي ستمتد إلى المقاومة ستقطع ولو كانت يد والده. فلماذا لم تذهب القوى المؤيدة للمقاومة من خارج الشيعة مذهب السيد حسن نصر الله لتقطع يد والدها إن هي تطاولت على المقاومة؟ لأنها باختصار قاصرة، وقصورها نابع من عدم جديتها ومن قلّة إيمانها بدورها.
إنها معارضة صوتية، وتظنّ نفسها استطاعت أن تفرض حلاً لعقدة اتفاق الدوحة بمجرد اتصال هاتفي مع السيد حسن نصر اللّه، على حدّ بيان الداعية فتحي يكن في 21 ــ 5 ــ 2008، وجاء فيه: «كان تجاوب الأمين العام لحزب الله مع ما طرحه الداعية يكن سريعاً حيث تم إبلاغ الموقف إلى قطر في الساعات الأولى من فجر هذا اليوم»!

* أستاذ جامعي