سليم العازار *من يلق نظرة سريعة على تاريخ لبنان وشعبه مقارناً بين ما أصبحا عليه اليوم وما كانا عليه منذ مئة سنة، يجد، والحق يقال، أنهما قطعا مسافةً لا بأس بها نحو التقدُّم المادي والثقافي والاجتماعي، وتالياً نحو التحسُّس بما هو حق أو واجب.
أذكر أنّ جَدَّتي أخبرتني أنّ سرايا الكورة كانت سنة 1908 في أنفَه وقد حصلت فيها الانتخابات على المقعد الأرثوذكسي لعضوية مجلس إدارة متصّرفية جبل لبنان، وهو ما يوازي حاليّاً مجلس النواب، وذلك إثر وفاة جرجس العازار، فجَرَت في حينه المنافسة على المقعد الشاغر بين فؤاد بن جرجس المذكور والسيد جرجي تامر. وقد تخلَّلها طبعاً، الضغط وصرف النفوذ والرشوة وحتى التزوير، وهي أمور ما زالت تحصل حتى في أيامنا هذه، وإن أقل، فكيف بها في تلك الأيام. وحدث بسبب ذلك مشادَّة كلامية بين المرشَّح فؤاد وقائمقام الكورة، أقدم على أثرها أحد أهالي أميون على ضرب القائمقام الذي سقط على الأرض، فعمَّت الفوضى واختلط الحابل بالنابل، وما لبثَ أن استُعمِلَ السّلاح الناري، فقُتل البعض من الأهالي وأربعة من رجال الأمن.
وتذكر لي جدتي أنها شاهدت بأم العين أحد المعتقلين يُساق مكبَّلاً على مرأى من الناس، والكرباج يلعب برقبته، وهو يصرخ مع ذلك قائلاً: «الله ينصر عرقيَّة السلطان (هي ما كان رجال تلك الأيام في القرى يغطّون بها الرأس والأنف والأذنين)!».
طبعاً، لقد تبدَّلت الآن تلك الأيام تبدُّلاً محسوساً، والحمد لله، وخطا شعب لبنان خطوات ملموسة نحو الحرية والكرامة كما سبق قوله أعلاه، ولكنّ عهد القناصل حلَّ محلّه، على ما نشهد، عهد السفراء، مع الأسف الشديد. وما زال شعب لبنان، بقسمٍ كبيرٍ منه، يلزمه الكثير الكثير لكي يصل إلى مصاف الدول والشعوب المحترمة فعلاً، الراقية والواعية حقوقها وواجباتها.
فمن راقب وتأمّل ما حدث حولنا أخيراً، ولاحظ كيف أن السلطة بقيت أكثر من سنة ونصف السنة مصرَّةً على تعنُّتها، هي وحلفاؤها في الداخل، وأسيادها في الخارج أو في المنطقة القريبة، ثمّ رأى السلطة تسلِّم فجأةً في ليلة ظلماء بالثلث المشارك، ثمَّ رآها تسلِّم أيضاً وهي صاغرةً، بقانونٍ للانتخابات قائمٍ على أساس القضاء، وبالقبول بتقسيم بيروت تقسيماً غير ملائم لمصلحتها ولا لمصلحة حلفائها الانتخابية، فعليه منطقياً وطبيعياً ومن تلقاء نفسه، إذا كان عنده ذرَّة من الوعي والإدراك والحسّ الوطني، أن يثور ويهجم على مثل هذه السلطة سائلاً إياها بقوة ووضوح وصراحة، لماذا لم تفعل ذلك من سنة ونصف السنة، حفاظاً على كرامتها وكرامة مناصريها، ومنعاً لتدهور الاقتصاد ودرءاً لسقوط الأبرياء؟
طبعاً، إنّ الكُثر من السياسيين والمحلّلين يتسابقون على كشف ما يظنُّونه أسرار الآلهة ــــ وليس في الحقيقة من سرّ ــــ قائلين إنّ صفقةً قد تمَّت بين أميركا من جهة وإيران وسوريا من جهة أخرى ــــ وهذا صحيح ــــ وإن ذلك أدَّى إلى تكويع السلطة وتغييرها لمسارها وإرغامها على القبول بمطالب المعارضة، تلك المطالب التي لم تكن السلطة تقبل بها إلا بعدما أدركت أنّ الدول التي كانت تدعمها قد تخلَّت عنها، فأيقنت أنّه من الأفضل لها الموافقة على مطالب المعارضة، وهي في كل حال معقولة ومحقَّة. ولكن هذا لا يبرّر قطعاً مسلك السلطة المُشين ولا مسلك حلفائها الصغار والكبار، أَكانوا في الداخل أم في الخارج.
ليس من داعٍ لإجهاد النفس إلى هذه الدرجة لإعطاء التفسير الواضح والمقنع لما حصل، إذ ليس في الشعب من يجهل حقاً هذا الواقع.
لكنَّ العجيب في الأمر والمحزن، هو أنّه ليس أيضاً في الشعب العدد الكافي من الأحرار والشجعان لمساءلة السلطة، كما هو الواجب، على تصرّفاتها المشار إليها وعلى ما ارتكبته يداها، بل إنّ الكثيرين ما زالوا حتى الآن يدافعون عنها على أساس «عنزة ولو طارت!» متشبِّثين بالقول إنها خرجت منتصرة، ولا أعرف كيف.
وفي هذه المناسبة، والشيء بالشيء يُذكر، أردّد مع من قال يوماً، تشبّهوا بالكرام، إن لم تكونوا مثلهم، إن التشبُّه بالكرام فلاح، ويحضرني ما جرى سنة 1945 في فرنسا مع المرشال بيتان، بطل معركة فردان في الحرب الكبرى الأولى، الذي اضطر مرغماً للتعامل مع الجيش النازي إثر احتلاله لفرنسا في الحرب الكبرى الثانية، ولكنه وقف بوجه المحتل قدر المستطاع، فأََبعد رئيسَ وزرائه بيار لافال لأنه ذهب بعيداً في تعامله مع النازيين، وأقام محله الأميرال دارلان وشجَّعه سرّاً على الالتحاق بالحلفاء وبالجنرال ديغول، وأَحلَّ محلّه الأميرال أوفان وشجّعه أيضاً على الاتصال بديغول، ثم اضطر لإعادة لافال إلى مركزه تحت ضغط الألمان، الذين اعتقلوا بيتان في نهاية المطاف وأبعدوه إلى مدينة صغيرة في ألمانيا، ولكنه تمكّن من الهرب إلى سويسرا ثم عاد إلى فرنسا وسلَّم نفسه إلى المحكمة العليا التي حكمت عليه مع ذلك بالإعدام، إلا أنها أبدلت الإعدام بالسجن المؤبد.
أَمَّا الكثيـرون من شعـب لبنان من مفكّرِيه وسياسييهِ وصحافييهِ، فإنَّهم يتسابقون الآن على تكريم تلك السلطة نفسها، ومنهم صديقنا رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي قال فيها قبلاً على مدى طويل، ما لم يقله مالك في الخمرة، ناعتاً إياها بأبشع النعوت، ثم رضخ لضغط بعض الإخوان العرب، فدعاها مكرّمةً إلى حفلة انتخاب رئيس الجمهورية، مسترجعاً ومبتلعاً بذلك تلك النعوت.
فكم من السنوات الطوال الطوال تلزم شعب لبنان بعد للنضال والضغط جدّياً على من يمثّلونه كي يسيروا دوماً في الدرب القويم؟

* عضو سابق في المجلس الدستوري