يحيى فكري *«ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». الطعام لا يكفي وحده لحياة البشر، وهم يحتاجون إلى جانب الطعام، إلى أشياء أخرى، كالحرية والمعرفة والحب، حتى يقدروا على مواصلة الحياة. وعلى مدى عقود ممتدة، عاش السواد الأعظم من المصريين مفتقدين للحرية، واليوم صاروا لا يجدون الخبز، بالمعنى الحرفي للكلمة. فالملايين منهم يخوضون الآن صراعاً «دموياً» صباح كل يوم للحصول على الخبز المدعوم من الحكومة، الذي لا يتجاوز سعر رغيفه 5 قروش مصرية، أي حوالى0.01 دولار. وفي طوابير الخبز التي يضطرّ الفقراء إلى الوقوف فيها ثلاث ساعات يومياً للحصول على احتياجاتهم، سقط العديد من القتلى والمصابين طوال الأسابيع الماضية خلال صدامات عنيفة بسبب نقص المعروض منه.
هذا الواقع المأساوي هو ما يمكن أن يشرح لنا بوضوح ما حدث في مصر يوم 6 نيسان/أبريل. البداية كانت في المحلة، المدينة التي صارت قاطرة النضال الطبقي في مصر، عندما أعلن عمال شركة الغزل عزمهم على الإضراب مرة ثالثة، لإجبار النظام على الاستجابة لباقي مطالبهم، التي يأتي في مقدّمتها رفع الحدّ الأدنى للأجور، وهو مطلب عام لا يخصّ عمّال المحلة وحدهم. وفي سياق ذلك، طالبوا القوى السياسية والحركات الاجتماعية بالتضامن معهم وتقديم الدعم والمساندة للإضراب.
تلقّفت الدعوة القوى السياسية الأصغر حجماً والأكثر جذرية في مصر التي تؤلّف حركة «كفاية» (حزب الكرامة، وحزب العمل، والاشتراكيون الثوريون، وبعض التنظيمات اليسارية الأخرى، والعديد من المستقلين)، ومعهم الكثير من مجموعات الشباب الجدد الملتفين حولهم، الذين بدأ عهدهم بالسياسة مع نهوض حركة التغيير، وبادر الجميع بالحشد للتضامن. ومن قلب التعبئة، خرجت دعوة للإضراب العام واعتبار السادس من نيسان/أبريل يوماً للغضب الشعبي، انطلاقاً من السخط العام الناتج من الارتفاع الشديد في أسعار المواد الغذائية وأزمة الخبز، وللمطالبة بزيادة الأجور وخفض الأسعار، وهي دعوة حملت قدراً لا بأس به من المغامرة.
فالإعلان لإضراب عام، كان تجاوزاً لإمكانات وفرص التعبئة المحتملة لدى القوى الجذرية الصغيرة التي دعت إليه، وخاصة أن «الإخوان المسلمين»، وهي القوة الأكبر والأكثر شأناً، وأيضاً بعض الأحزاب الشرعية التي تملك قدراً من النفوذ، كحزبَي التجمع والوفد، أعلنت جميعاً رفضها وعدم مشاركتها.
في ظل وضع كهذا، ومع غياب أي تنظيمات نقابية أو سياسية مستقلة ذات نفوذ وسط العمال وعامة المنتجين، باتت تلك الدعوة قفزاً على مستوى الصراع الطبقي القائم وإمكانات التنظيم المتاحة في اللحظة الراهنة، وكان من المحتمل تماماً أن تؤدي القفزة إلى انكسار الحركة أو دحرها. فبدلاً من توجيه طاقة التعبئة لدعم إضراب المحلة المرتقب، ومحاولة دفع بعض القطاعات المنظمة الأخرى إلى تنظيم إضرابات تضامنية، تغافلت الدعاية السياسية عن المحلة، وركزت على دعوة عامة مجردة بالامتناع عن الذهاب إلى العمل، أو الخروج للشارع، أو شراء الطعام... ورغم الطابع المغامر للدعوة إلى إضراب عام في غياب أي فرصة حقيقية لتنظيمه، إلا أنّ ما حدث أسفر عن دلالات شديدة الأهمية. فالدعوة انتشرت بشكل واسع على شبكة الإنترنت، وتشكلت مجموعة على الـ«face book» للتضامن من أجل الإضراب، زاد عدد المشاركين فيها عشية السادس من نيسان/أبريل على 70 ألف مشارك، ما سمح بكسر الحصار المفروض على دعاية القوى السياسية الجذرية الصغيرة.
ولم يأبه النظام للأمر في البداية، وتجاهله تماماً، لكن خلال الأيام القليلة السابقة على الموعد بات واضحاً في أعين الجميع أن الدعوة صار لها صدى واسع الانتشار. هكذا أصيبت الدعاية الحكومية بالفزع فجأة، وانطلقت سلسلة من الأخبار عن قرارات مرتقبة لضبط الأسعار وزيادة الأجور، بينما توالت إنذارات وزير الداخلية مهدّدة بقمع أي محاولة للتظاهر أو الإضراب.
وفي صباح السادس من نيسان/أبريل، تحوّلت القاهرة إلى مدينة للأشباح. حدثت استجابة واسعة بالفعل للدعوة، إلا أن أغلب من فضلوا البقاء في منازلهم فعلوا ذلك خوفاً من أعمال عنف محتملة بعد إنذارات الداخلية. وهكذا أغلقت معظم المدارس والشركات والمحال التجارية الخاصة أبوابها، وتوقفت وسائل النقل، وبالطبع قُمعت كل محاولات التظاهر التي انطلقت، وأُلقي القبض على العشرات.
لقد دلّت الأحداث يومها على حجم السخط على الأحوال في مصر، والاستعداد الواسع للمبادرة بأفعال، مهما كان حجم تأثيرها، في مواجهة الغلاء الفاحش وتدني الأجور. كما دلّت على القدرة الهائلة لأدوات التعبئة الحديثة مثل شبكة الإنترنت، والرسائل الدوارة على شبكة الهواتف المحمولة. ودلت أيضاً على وجود أعداد كبيرة من شباب الطبقة الوسطى (مستخدمي الإنترنت) غير المسيّسين، لكنهم يقفون على أعتاب السياسة، وينتظرون من يدفعهم للنضال ضد الاستبداد وللمطالبة بالإصلاحات الاجتماعية. ودلت كذلك على حجم الفراغ السياسي في مصر، وقصور القوى التقليدية ــ الإخوان والأحزاب الشرعية ــ عن استيعاب طاقة الغضب الكامنة، وتجاوز الشارع لهم.
أمّا أهمّ دلالات ذلك اليوم فخرجت من المحلة، حيث أكدت الأحداث على مركزية دور الطبقة العاملة. فغيابها عن الشارع أدى إلى غياب القيادة والتنظيم وسط الجماهير الفقيرة الغاضبة، وسمح بالتالي للنظام بالقمع العنيف للحركة. لقد مُنع عمال شركة الغزل من الإضراب بحشود من الأمن احتلت المصنع والمدينة لإجبارهم على العمل، حيث رأى النظام أن السماح بالإضراب هذه المرة في ظل الدعوة القائمة سيؤدي إلى انفلات الأمور، ولم يجد العمال مفراً من مواصلة العمل أمام تهديد واضح باستخدام الرصاص الحي في مواجهتهم. إلا أنّ التعبئة التي جرت خلال الأيام السابقة وسط أهالي المحلة للتضامن مع الإضراب، وما نتج من الحشود العسكرية التي احتلّت المدينة من استنفار، دفع الأهالي للتظاهر العفوي تعبيراً عن غضبهم، فقوبلوا بعنف غير مسبوق منذ سنوات، دلّ على ما أصاب النظام من إرباك. وطوال ثلاثة أيام حدثت مواجهات دامية سقط خلالها قتيلان على الأقل وعشرات المصابين، واعتقل
المئات.
ما حدث كشف عن الأهمية السياسية لجماهير العمال، وعن ضرورة توسيع الحركة عبر التعبئة العمالية، لا بالقفز فوقها. فرغم أن عمال غزل المحلة لا يتجاوز عددهم 15 في المئة من حجم القوى العاملة في المدينة (الباقي أغلبهم من عمال اليومية والحرفيين والباعة، إلى جانب عمال المصانع الأخرى الأصغر حجماً)، إلا أن العمال نجحوا خلال الإضرابين السابقين في حشد وتنظيم أهالي المدينة وراءهم في معركة ملهمة حصدت ثمارها على الفور، وهذا على عكس ما جرى هذه المرة.
وصحيح أن أحداث السادس من نيسان/ أبريل لا يمكن اعتبارها نقطة تحول في الصراع الطبقي في مصر سلباً أو إيجاباً، فلا الحركة الاجتماعية نجحت في فرض مطالبها، ولا النظام نجح في دحرها، لكن من الصحيح أيضاً أنها كشفت عن بركان يغلي.
* صحافي مصري