كيـــف غـــزا أخطبـــوط الســـلاح والمـــال البيـــت الأبيـــض؟علي السقّا
فرانك كارلوتشي، ليس اسماً لأحد أبطال هوليود. إنّه الاسم الذي إذا ما تناولته ألسن الضالعين بخبايا السياسة الدولية، سيرتبط بأضخم مجموعة من الشركات المصنّعة للسلاح والمبتكرة للحروب حول العالم، وهي «شبكة كارلايل مموّل الحروب الأميركية»، عنوان الكتاب الذي أعدّه الصحافي الفرنسي فرانسوا ميسان والصادر عن دار بيسان للتوزيع والنشر.
يمتاز الكتاب الذي استغرق إعداده ما يربو على خمس سنوات، بمضمونه البحثي الاستقصائي، حيث عكف المؤلّف على الخوض في تفاصيل الجغرافيا السياسية لواشنطن بعدما أصبح شغوفاً في معرفة ما تخبّئه جدران تلك الشبكة القابعة عند أطراف شارع بنسلفانيا.
حنكة كارلوتشي وإسباغ هالة من السرية التامّة على علاقلته، مكّناه من التأسيس لروابط متينة وعلاقات نافذة في البيت الأبيض تتأرجح بين ما تمليه العقلية التجارية من سلوكيات السوق وبين الالتزامات التي تفرضها المعرفة الشخصية أو الصداقة.
شعوب العالم الثالث، وخاصّة دول القارة الأفريقية، تعرف كارلوتشي عن كثب. فـ«المناضل» في الحزب الجمهوري الذي وصل إلى رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية، ثمّ تبوّأ منصب مساعد وزير الدفاع كاسبر واينبرغر عام 1981، كانت له اليد الطولى في صناعة المآثر على هيئة انقلابات عسكرية متتالية شهدتها القارّة السوداء، أودت بحياة كلّ من هدّد المصالح الغربية فيها (أمثال باتريس لوممبا زعيم الحزب القومي في زائير).
تنتمي «كارلايل» إلى النموذج الأميركي الفريد من نوعه، حيث لا انفصال بين مصالح القائمين على الشأن السياسي وشراهة رجال الأعمال. يذكّر الكاتب بأحد الأساليب التي دأبت عليها «كارلايل» لكسب ودّ نافذ في السلطة. إذ ما إن وصل إلى مسامع الرباعي المؤسّس لـ«كارلايل» أن بوش الابن مولع بنادي «رانجرز» لكرة القدم، حتى تداعى القيّمون على «كارلايل» الى شراء النادي كُرمى لعيون الأب الرئيس وتمهيداً لإدخال الابن في الحياة العامّة الأميركية. تمّت الصفقة بنجاح باهر إذ استطاعت «كارلايل»، إضافة اسم جديد إلى دفتر هواتفها سيكون فاتحاً لمواسم من الصفقات المالية العابرة للحدود.
لهجمات الحادي عشر من أيلول، ما يستدعي التوقّف عنده. فأسامة بن لادن ذلك الثري السعودي الذي ارتأى الانغماس في حياة «الجهاد الأوّل»، معلناً عزمه على محاربة «الصليبيّين» بعدما وطئت أقدامهم الأرض المقدسة هو إحدى الحلقات المرتبطة بالعلاقات السعودية ــــــ الأميركية وبرهان على انحراف أحد مساراتها.
فقد «رأت أسرة بن لادن أن ولاية تكساس تمثّل أحد الأبواب المؤدّية إلى قلب الولايات المتحدة»، وعليه مارست نشاطها بأسلوب مدرك لواقع الشركات الأميركية وطبيعة الاستثمار فيها، فقامت بالتملّك والمساهمة في شركات تمرّ بضائقة مالية لكن بشرط «أن تكون هذه الشركة لرجل يتطلّع إلى منصب محافظ تكساس، أو رئيس لأحد أندية البيس بول، على أمل أن تكون المكافأة فتح باب البيت الأبيض». يرى الكاتب أنّ «كارلايل» نجحت في تحويل نفسها إلى «صندوق استثماري تديره وجوه بارزة في الحزب الجمهوري»، إلى أن أسهمت أحداث 11 ايلول في الكشف عن وجوه رجال أعمال سعوديّين. أمّا ثلاثي «كارلايل»، بوش والسعودية وابن لادن، فيمثّلون بحسب ميسان، «العناصر الأولية لطبخة الدولارات والأسلحة والنفط».
قُدّر للعلاقات السعودية ــــــ الأميركية أن تكون صنيع رجل دبلوماسي «استطاع أن يحوّل البيت الأبيض بيتاً سعودياً، هو الأمير بندر بن سلطان آل سعود أو «الوجه العربي لكارلايل».
كان عام 1979 عام التبدّل الطارئ على الخارطة السياسية للخليج. فقد مثّلت الثورة الإسلامية في إيران ضربة مفاجئة للولايات المتحدة. فالدولة التي أُوكل اليها حماية نفط الخليج، أضحت دولة شديدة العداء لأميركا لا يتوانى نظامها وشعبها عن المجاهرة بمناهضة السياسة الأميركية «الاستكبارية»، مستمدّين إلهامهم من مخزون ثقافي شيعي يرقى إلى القرن السابع. وهو ما دفع بالولايات المتحدة للبحث السريع عن بديل موثوق به... فكانت السعودية.
شرّعت السعودية أبوابها لاستقبال الديناميّة السياسية الجديدة التي لا بدّ لها أن تفرض سلوكاً سعوديّاً متغيراً بحكم تبدّل الموقع والدور. فاز الأمير بندر بتحقيق أولى الصفقات التي تجلّت بإعطاء الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن، حريّة توسيع القواعد العسكرية مقابل خمس طائرات تجسّس إلكتروني حديثة (أواكس) من إنتاج كارلايل.
فرض بندر نفسه حلقة الربط الوحيدة بين نظام صدّام حسين وبين واشنطن. ففي خضمّ الحرب العراقية ــــــ الإيرانية، تمكّن بندر من تحقيق اللقاء التاريخي عام 1983 بين صدّام والرئيس بوش الأب المملؤة يداه بقذارات كارلايل الصغيرة، من أسلحة جرثومية وكيميائية وانثراكس (استخدمها صدام ضد الجيش الإيراني وشعب بلده على السواء) في مقابل الحدّ من المدّ الشيعي المتنامي بقيادة آيات الله في
طهران.
أمّا أفغانستان، فاستطاع بندر دراسة توازن قواها الداخلية ممتلكاً لخيوط اللعبة فيها، عبر دعمه لقلب الدين حكمتيار مؤسّس الحزب الإسلامي «الذي قاتل السوفيات والأفغان بالضراوة نفسها» والفضل يعود إلى المال السعودي الذي أُغدق على أفغانستان، وإلى صواريخ «شتنغر» آخر ابتكارات مصانع «كارلايل».
تتلطّى هذه «الإمبراطوريّة» خلف عناوين ونشاطات متنوّعة، فهي تمارس وبمؤازرة بوش الابن، ضغوطاً كبيرة لتوسيع نطاق عملها ونفوذها للولوج الى القارّتين الأوروبية والآسيوية، وذلك بهدف الاستحواذ على «عالم المعلوماتية والاتصالات بمختلف أشكاله»، عبر اقتنائها قائمةً كبيرة من الشركات المتّصلة مباشرة بمجال الدفاع ودعماً «لاستراتيجية بناء قطب للصناعات العسكرية في أوروبا لا يأتمر إلا بأمر القوة الأميركية».
أمّا تايوان، وتشاركها التنانين الآسيوية الباقية، فلم تسنح لها الفرصة لبناء قوّتها بمنأى عن الرعاية الأميركية، إلى أن تحوّلت سوقاً رحبة لاستقبال كميات ضخمة من منتجات «يونايتد ديفانس»، إحدى الشركات التابعة لـ«كارلايل».