نسيم الخوري *تختفي الطائرة إذ تدخل غيمة مضيق برمودا السوداء، ويتقهقر الزمن عندها إلى الوراء عقوداً. مشهد مخيف يعيشه اللبنانيّون كأنهم على متنها! نعم يخاف اللبنانيون من ألّا يجدوا مسماراً يعلّقون فوقه أحلامهم بعد قمة دمشق. وتكاد تبدو القمة لهم، كأنها آخر المحطّات، يطلّون بعدها على فراغ سحيق، وهم كثيراً ما استهلكوا العقود الأخيرة من أعمارهم متلذّذين بانتظار التواريخ والمحطّات المتلاحقة التي كانت يأكل بعضها بعضاً من دون الفرج النهائي الذي لم يصل. فقد صعدوا، مؤخّراً، في أكثر من «بوسطة» أو طائرة عين الرمانة ولم يشعروا بعبور المضيق.
وإذا كان الخوف ثقيلاً ومبرّراً من فقدان ما ارتضوه أو اعتادوه من فتات السلطات أو بقاياها، وهروباً من حروب متوقّعة خبروها أو مناوشات داخلية سئموها أو اغتيالات متجدّدة يئسوا منها أو انفجارات شبعوها، فإنّ الانتخابات البرلمانية المبكرة أو غير المبكرة ستتقدّم في الأذهان والإرادات وتريحهم، على الأرجح، لتملأ هذا الفراغ المتنامي في السلطات، بعد تعثّر المبادرات في ملفّات استعصت مثل الحكومة أو انتخاب الرئيس التوافقي.
هكذا سيتفرّق عرب النفط وعرب الدماء من حول معرض دمشق الدولي، وينفتح باب التجاذب والجدال الأجوف و«القتال» الإعلامي والسياسي، في خلال بقايا هذا العام والعام المقبل في مهزلة البحث عن قانون للانتخابات البرلمانية إلى تفاصيل موسمية متكرّرة مملّة. نستمرّ كأننا في بلد لا دستور فيه أو خيار أو قرار. كلّ يريد دستوراً على مقاسه ومقاس عائلته كما يريد علماً ونشيداً وحزباً وسلاحاً وإذاعةً وتلفزيوناً وجامعة.
وقد يبقى مشهد الممارسة السياسية، مشدوداً بين «جمهوريات» ثلاث: جمهورية الميثاق 1943 المنتهية بقوة وفعالية، وجمهورية الطائف المتشظّية 1990 التي بصم عليها بقايا برلمان لبناني كانت قد داهمته الشيخوخة لكثرة ما جدّد لنفسه لمن يتذكّر، والجمهورية المتكسّرة فوق أرصفة العواصم، والمربوطة مباشرة بالخارج كلّ خارج، نفطياً كان أم دموياً، أميركياً كان أم إيرانياً كي لا نعدّ عواصم الدول كلّها.
لم نتمكن من الطائف؟ نعم. ولم تتمكن تلك التجربة المستوردة من حفر ملامحها وتكريسها في السلوك السياسي؟ نعم. ولم نفهم ولا مرّة معنى فصل السلطات وتعاونها وتكاملها، بالرغم من الجلسات الطويلة جدّاً التي كان أبو علي (حسين الحسيني) يجهد في تفسيرها وإشاعتها.
وأكثر من ذلك، يبدو سياسيّو لبنان في معظمهم مفتونين بتلك الجمهورية الثالثة الجديدة متجاوزين بقايا الجمهوريّتين منذ ما قبل صدور القرار 1559 الذي طرح منذ الأساس «دستوراً» جديداً متفجّراً قد يفضى بنا إلى جمهوريات جديدة أو «أوطان جديدة». وقد شبّهنا القرار المذكور بعد صدوره بالضبط، بسكين حاد يدخل الأميركي بين اللحم والعظم. وهنا الخوف الأعظم!
لماذا هذا الكلام؟ هنا ملاحظات وأسئلة تبرّر مناسبة هذا الكلام:
لأنّّ الطائف، وعلى الرغم من تشبّث المسيحيّين به كطفل يلهو بلعبة مشلّعة، وتلذّذ السنّة بحلاواته التي ما زالت فوق اللسان، ولو أنّه صار دستوراً لكنه رخو لم يتساوق في التطبيق، فهو اتفاق ما عاد يناسب انبعاث أبو ذرّ الغفاري كما اليعازر في الجنوب وفي المحافظات اللبنانية كلها، يرعى التحولات الكبرى في بناء لبنان، ولأننا نجترّ الأسئلة الكثيرة إياها التي كانت تطرح على إيقاعات الحروب المتنقلة الغابرة قبل 1975 وبعده. وما تجدُّد طرح الأسئلة سوى التهيئة لتجدّد التاريخ والأحداث ولكن بأدوات أكثر حضوراً.
ولأنّ الطائف وُلِد أساساً في تونس الخضراء، وهناك اختار العرب آنذاك المغرب والجزائر والمملكة العربية السعودية كلجنة ثلاثية عربية عليا تساعد على اتفاق يخرج لبنان من حروبه العبثية اللامنتهية آنذاك، إذ كان للمغرب نبرة إقليمية مسموعة في خفضها تحت التاج الملكي، وللسعودية كنوز مفتوحة لا تنفد، وفي جسد الجزائر وشم الثورة التي لن تُمحى، ويومذاك كانت أميركا أيضاً تدحرج التاج عن رأس إيران، ويتدفّق الإسلام من خلف السدود الكثيرة؟
يومذاك قفز ميشال عون إلى منفاه الطويل فوق الساعد الفرنسي الحنون، وجرى تطيين السجن الجاهز للحكيم الطويل في مبنى الدفاع، وجرت لفلفة أوراق الطائف ومحاضره، وصار لدينا دستور بالاسم.
لماذا نخبّئ وثائق مؤتمر الطائف ومحاضره، مع أنّ الإلحاح نبت في خطب العديد من سياسيّي لبنان ونصوص إعلاميّيه مطالبين بكشف المستور؟ الجواب: يبدو أنّ إماطة اللثام عن هذا المستور من مناقشات السياسيين وأحابيلهم تفضح هذا الكمّ التاريخيّ من الغسيل السياسي الطائفي والتآمري الوسخ والممزّق والمتشظّي الذي نلمسه ونشهده اليوم، والذي كان يعيب كشفه أمام الأجيال، فانكشف حتّى العيب. مات البعض وظهر فجور البعض الآخر أو أبناء البعض الأوّل وصمت البعض الأخير لالتباس أو خوف أو تاريخ مثقل بالنفاق والمال المنهوب والازدواجية!
كان يكفي اعتبار «الطائف اتفاقاً شاخ في عامه الثالث» لتتكسّر الدنيا في دروبي. كان هذا عنوان المؤتمر الصحافي الذي عقدناه في23/10/1992 ونشرته بحرفيته صحيفتا «النهار» و«الديار». لقد سحبت وقائعه آنذاك من ألسنة مجمل السياسيين الذين ذيّلوا وثيقة الطائف بتواقيعهم. لقد قمت بالتعاون مع مجموعة كبرى من الإعلاميين بتدريس اتفاق الطائف كمادة تخرج جامعي، فوقفنا في مقابلات على آراء نخبة من الفعّاليات السياسية والروحية. وكانت خلاصة الآراء أرجحية الرفض العارم للطائف المغمّس بالمال، الذي بدا اتفاق تسوية مفروضة بين عدد من بقايا اللبنانيين لا كلّهم مع تحفُّظ أطراف فاعلة أساسية على هذا الاتفاق. جاءت هذه المقابلات التي لم تُعدّ أساساًً للنشر تبرز التناقض والازدواجية اللبنانية بين الخطب السياسية العلنية والسرّية. ولو أننا نشرنا يومها ما جاء على ألسنة بعض أهل الطائف الذين كانوا يتدافشون على الأبواب السورية، لأحدثنا هزّات سياسية، ولكنّا وضعنا هؤلاء في دائرة الخطر أو لكنّا قفزنا بنجومية هائلة إلى السلطة! مع العلم أنّ سوريا، ربّما تعرف التربة اللبنانية بأنواعها وخصوبتها أكثر من أهلها، لكنها من مدرسة لا تعشق التشهير مثلاً بهؤلاء السياسيين أو بمدى تنازلهم ولهاثهم خلف السلطة. ولو تفعل في نشر برقيات هؤلاء في المناسبات، لأقفلنا شاشاتنا وأسقط بمعظم سياسيينا فوق الغربال.
يبدو لبنان الآن، خارجاً من الجغرافيا ويحشر نفسه أو يحشرونه في داخل مثلّث أضلاعه البحر وإسرائيل وسوريا التي بنى العديد من السياسيين زعاماتهم الجديدة على استعدائها وإهانتها في الخطب، بعدما كانوا قد بنوا زعاماتهم وثرواتهم القديمة على أبوابها، معيدين العلاقات اللبنانية السورية إلى درجة الصفر، ناسين أو متناسين عجزهم عن تحويل الخريطة الجغرافية التي جعلت القارة الآسيوية هكذا، إلّا إذا كانوا يصدّقون أننا أهل تجارة فضائية فعلاً أدخلنا عصر الفضاء الأميركي.
يأتي هذا النبش في إخفاق الطائف/الدستور(؟) في أعقاب سلسلة من المتغيرات القوية الأبعاد والأحداث غير المنتظرة المتواترة التي تعصف بلبنان، والتي جعلت الكثيرين يسألون بسرعة عن معضلة الصلاحيات التي أورثها الطائف كنصّ، حتى إنّنا نتذكّر النائبة بهية الحريري وهي تلتقط دموعها الطريّة على شقيقها الرئيس الشهيد تصرخ بضرورة نشر الطائف كجزء أساس في ثقافة اللبنانيين السياسية والوطنية. وكان لديها مشروع بهذا الشأن لم يتابع مصيره المرسوم حتى الآن. المسألة في الممارسة وفي الروح وفي الحساب والعقاب وفي الشفافية وحرية القرار لا في النصوص أو في الصراخ وزرع ثقافة الشتائم في الساحات، فكيف تصمد الدساتير أمام قوة الدول العظمى ومخططاتها، وهي التي لم تصمد أساساً في ألسنة أهلها؟
مجدداً لماذا هذا الكلام عن الطائف؟
حتماً، موت الطائف منذ ولادته وليس في عامه الثالث أو تشوّه مفاصله في القناعات والممارسات، واليقظة الحية الدائمة للميثاق والرعب الفعلي من إملاءات الغرب المتواترة التي تظهر ارتجالية فاقعة في فهم التفاصيل. يبدو لبنان مختلط الملامح قديمها وجديدها وهو وطن جامد يرتجف بين قوسين، على الرغم من التطمينات الأميركية والبريطانية والفرنسية والسعودية وغيرها الكثيرة، التي تجعلنا نغطّي عرينا بقناعة أننا مقاطعة جميلة صغيرة أو قطعة من الغرب.
قد نكون، من حيث الشكل، قطعة حسنة من الجغرافيا تغري الغرب، وقد لا يجد الغرب العشق لضعفنا كقطعة في «بازل» الشرق الأوسط تناسب ثقافته وعاداته واسترخاء جسده أفضل من شواطئنا (وأميركا تعشق المكوث قرب الشواطئ والمطارات)، وهو بهذا يتلاقى بسهولة مع دول الخليج وغيرها من الدول الكبيرة والصغيرة التي تحفظ أسماءنا عن ضهر قلب، لكن كلّ هذا لم ولن يؤلّف وطناً آمناً! قد يؤلّف وطناً مؤقّتاً حائراً، أو يفضي بنا إلى دستور غير قابل للتطبيق، لكنه حتماً لن يجعلنا وطناً ثابتاً في ملامحه الجغرافية والسياسية والتاريخية. ويمكننا بذلك أن نهمل التراب والماء ونبيع ما تقع عليه أيدينا عبر نوافذ الطائرات الزجاجية، إلّا إذا تجنّبنا الكلام الكثير الآتي والمعلوك في الانتخابات البرلمانية.
* كاتب لبناني