فرج الأعور *تمكّن السرطان الطائفي في لبنان، خلال فترة قصيرة جداً، من طمس نتائج حرب تموز 2006 في الداخل اللبناني من خلال تحويل الاهتمام الشعبي عن دور الحزب كقوّة تمكّنت من مواجهة إسرائيل، وصناعة نقطتَيْ تحوّل في الصراع العربي الإسرائيلي ـ مرّةً في حرب عصابات نجحت في نهايتها في إجبار إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان دون قيد أو شرط، ومرّة أخرى في حرب تقليدية نجحت خلالها في الصمود في وجه الجيش الإسرائيلي، وفي منعه من تحقيق أيٍّ من أهدافه التي خرج إلى الحرب من أجلها ـ إلى دور الحزب الداخلي كجهة مذهبيّة يمكن مقارنتها بأيٍّ من الجهات المتحكّمة في ميزان القوى الطائفي بالبلد. وقد استُخدم في مواجهة حزب الله من أجل ذلك كل ما يخطر بالبال من الأوصاف والاتهامات. وقد تنوّعت هذه الأوصاف والاتهامات بحسب تنوّع الجمهور المتلقّي. فأمام جماهير المذاهب المختلفة، اتُّهم الحزب بامتلاك مشروع هيمنة شيعيّة على البلد يقوم بتنفيذه بواسطة سلاح المقاومة. وأمام الجمهور العلماني واليساري، يتمّ التركيز دائماً على أيديولوجيّة الحزب الدينيّة، وعلى وجوب وضعه في خانة واحدة مع جميع القوى الأصوليّة الأخرى مثل «القاعدة» وسواها.
والمشكلة أنّ حزب اللّه راكم من الأخطاء في السياسة الداخليّة منذ الخروج السوري من لبنان، ما سهّل على مهاجميه مهمّتهم وأعطاهم الكثير من الحجج «والمستمسكات» التي أحسنوا استخدامها، فأكسبتهم الكثير من النقاط في المواجهة الدائرة في البلد.
وقد كانت بداية هذه الأخطاء مع التحالف الرباعي الذي عقده الحزب في انتخابات عام 2005 مع حركة أمل والحزب الاشتراكي وتيار المستقبل. ويبدو أن حزب الله يومها، بعد الخطر الذي استشعره من القرار 1559 ومن النقاش الذي فتحه هذا القرار حول سلاح المقاومة، وبعد الصفقة التي تمكن من عقدها مع الرئيس رفيق الحريري بهذا الشأن قبل اغتياله، ارتأى أن أضمن الطرق لحماية سلاح المقاومة وشرعيتها يتمثل ببناء سور واقٍ مؤلّف من الطوائف الإسلامية حولها. ويبدو أيضاً أن الحزب ارتأى أن أقصر الطرق وأهونها لبناء هذا السور هو القيام بمساعدة حلفائه انتخابياً في مسعى لـ«إقفال الطوائف» الإسلامية في البلد وتطويبها لزعامات أُحادية «حاكمة» بحيث يسهل على الحزب التعاطي مع هذه الطوائف من خلالها. وقد نجحت هذه الزعامات في خداع الحزب يومها بالرغم من كل المواقف التي اتُّخِذَت عند اغتيال الرئيس الحريري، بل بالرغم من القفز المتكرر الذي مارسه بعض هذه الزعامات من ضفة إلى أخرى داخلياً وإقليميا بدءاً بانتخابات عام 2000. وإذا كانت فكرة «إقفال الطوائف» هذه قد نجحت نجاحاً تاماً في الوصول إلى اصطفاف الشيعة اصطفافاً كاملاً خلف الحزب والمقاومة، فقد أدّت إلى عكس المقصود تماماً عند الطائفتين الإسلاميّتين الأخريين، بعدما خسر الحزب الرهان بشكل كامل على الزعامة الرئيسية «الحاكمة» لكل من هاتين الطائفتين.
وكان الحزب قد ضحّى في سبيل التحالف الرباعي بمروحة عريضة من القوى والتيارات والزعامات التي تتمتع بالاحترام والصدقية، والتي أيدت المقاومة منذ قيامها، سواء من داخل الطوائف الإسلامية المذكورة أو من خارجها مثل سليم الحص ونجاح واكيم في بيروت، عمر كرامي في الشمال، الحزب الشيوعي في الجنوب، الخ... وقد أدى التحالف الرباعي هذا إلى نتيجته المعروفة، كما أدت التضحية بالقوى المذكورة ـ التي تمت من خلال قبول حزب الله باعتماد قانون غازي كنعان للانتخابات ومن خلال تركيب اللوائح المحظيّة في المناطق التي هو فيها ـ إلى إضعاف الحزب، وخصوصاً من خلال إنهاء إمكان وصول هذه القوى إلى المجلس النيابي، وهم حلفاء طبيعيون له بالنسبة إلى الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي والمشروع الأميركي للمنطقة.
وإذا كانت الحساسية الفائقة للمشكلة السنّية الشيعية على المستوى الإقليمي ومحاولة وأد أيّ انعكاس لها في لبنان ـ وخاصة بعد اغتيال الرئيس الحريري ـ هي الحجة الرئيسية لتبرير التحالف الرباعي، فإنّ إدارة المواجهة الداخلية التي اندلعت بعد انتهاء حرب تموز، إلى جانب الموقف من بعض القوى الحاكمة والمتعاملة مع الاحتلال في العراق ومن عملية إعدام صدام حسين خصوصاً، أشارا إلى انعدام الحساسية، بل إلى انعدام الوعي لوجود هذه المشكلة التي بدت ككرة ثلج متدحرجة.
فالموقف الملتبس من الحكم الذي أنشئ في العراق من جانب الاحتلال الأميركي كدمية تابعة لهذا الاحتلال بشكل كامل أعطى حجة قوية جداً استُعملها بنجاح كبير التحالف الطائفي المواجه للحزب. وقد مثّل هذا الموقف بالفعل، إلى جانب الموقف من عملية إعدام صدام حسين بالشكل الثأري الذي تمت به، والذي أظهره ضحية قُدِّمت يوم عيد الأضحى، «كعب أخيل» الحزب ليس على الصعيد الداخلي فقط بل أمام الرأي العام العربي أيضاً. ويجب القول هنا وبصراحة إن الصدقية والاحترام اللذين راكمهما الحزب يجب أن يكونا قد أكسباه وأكسبا السيد حسن نصر الله بالذات الموقع المناسب تجاه إيران، الذي يسمح له باتخاذ موقف مستقل من قضية العراق برمتها. وكان السيد نصر الله قد بدأ بتكوين موقف كهذا قبل اندلاع الحرب على العراق بوقت قصير، حين دعا جميع القوى العراقية للوقوف ضد الاحتلال، ودعا إلى عقد «طائف» عراقي شبيه بالطائف اللبناني. وبغض النظر عن الموقف من هذه الدعوة، فقد أعطت يومها دليلاً على هامش من الاستقلالية في موقف حزب الله من الحرب القادمة ـ يومها ـ على العراق. ومن المستغرب أن يخف منسوب هذه الاستقلالية في موقف الحزب مع الوقت، وبعدما دمّر الاحتلال العراق تدميراً كاملاً، أمام الرأي العام العربي الواقف بأكثريته الساحقة خلفه في مواجهته مع إسرائيل. وتكمن الخطورة في هذا الأمر في ظهور الحزب كأنه لا يعير الرأي العام العربي وتأييده الساحق للمقاومة الاهتمام المطلوب.
أمّا في المواجهة الداخلية، فقد سمح التصويب على رئيس الحكومة حصرياً تقريباً في بداية المواجهة بعد حرب تموز بتحويل فؤاد السنيورة إلى رمز مذهبي محميّ وعصيّ على المساس به سياسياً، بعدما كان من أقل السياسيين شعبية على مرّ العصور، وفي طول البلاد وعرضها، بسبب سياساته الاقتصادية والمالية التي طاولت بأذيتها جميع الناس. وسمح الاعتصام مقابل السرايا والتهديد باحتلالها بتحويلها إلى قلعة سنّية صامدة في مواجهة غزوة شيعية تؤمّها الوفود الشعبية من عكار إلى شبعا، ويؤمّ المصلّين فيها يوم الجمعة مفتي الجمهورية شخصياً.
وإذا كانت حجّة صانعي السياسة في حزب الله هي أن تحويل المواجهة التي اندلعت إثر انتهاء حرب تموز إلى مواجهة سنية شيعية افتعلها الفريق الآخر رغماً عن الحزب، وجب لفت نظرهم إلى أنه كان من أول واجباتهم توقع ما حدث في هذا المجال والعمل على تفاديه بأي ثمن قبل وقوعه. ذلك أن الحزب يعرف أخصامه، الذين كانوا حلفاءه حتى الأمس القريب، تمام المعرفة. ولا بدّ أن صانعي سياسته ما زالوا يذكرون على سبيل المثال كيف استغلّ الرئيس الحريري (وهو الملهم الروحي لبعض هؤلاء الأخصام من تيار المستقبل) التجييش المذهبي بنجاح منقطع النظير في معركته مع الرئيس لحود وفي حملته الانتخابية في عام 2000، وكيف حصد الحريري يومها كل مقاعد بيروت النيابية في سابقة لم تحصل حتى في أيام رياض الصلح.
أما وقد وصلت المواجهة الدائرة في البلد إلى ما وصلت إليه، فإن عدم تضييع الهدف الأساسي ـ وهو حماية المقاومة ـ يقتضي من حزب الله أولاً العمل على منع إمكان حدوث حرب أهلية جديدة في البلد منعاً باتاً، ومهما كان ثمن ذلك. وأولى الخطوات المطلوبة في هذا الصدد هي العمل على تحويل وجهة هذه المواجهة من مواجهة سنية شيعية (بمساندة كومبارس من الدروز والمسيحيين للطرفين) إلى مواجهة وطنية حقيقية بين من يختار الوقوف بوجه إسرائيل والمشروع الأميركي في المنطقة، ومن يختار التبعية للأميركيين ولإسرائيل. لكن لإحداث التغيير المطلوب هذا، لا بد لحزب الله من أخذ المبادرة ومحاولة تأليف تحالف حقيقي للمعارضة يضم جميع القوى المتمتّعة بالصدقية والاحترام والمستعدة لدعم الحزب في مقاومته لإسرائيل والملتزمة التزاماً فعلياً العدالة الاجتماعية والنضال في سبيلها داخلياً (وبصراحة يجب أن يقتصر تحالف كهذا على هذه القوى من دون بعض الموروثات). وأول واجبات هذا التحالف مراجعة شعارات ومطالب المعارضة من أساسها وإيجاد الصيغ التي تتيح النزول من على شجرة المطالب الرقمية بالنسبة إلى الحكومة المقبلة، والتي كبّلت المعارضة وضيّقت عليها هامش المناورة إلى أقصى الحدود.
ولا بد لحزب الله أيضاً من الانتباه (وتنبيه حلفائه في التيار العوني) إلى أن القول «بالديموقراطية التوافقية»، الذي يعني القول بإعطاء حق الفيتو لكل طائفة من الطوائف اللبنانية، وعدم القبول بأي أرجحية في الحكومة للأكثرية الحالية يرسي قاعدة يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية في المستقبل إذا ما تغيرت الأكثرية في الانتخابات القادمة. أضف إلى ذلك إنّ الفيتو الطائفي لم يعد ممكناً بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود. فإذا كان إصرار الحزب على عدم تقبل أرجحية الأكثرية في الحكومة قبل انتهاء ولاية لحود يمكن تبريره بمحاولة منع هذه الأكثرية من إقرار أيّ مراسيم حكومية قد تضفي الشرعية على أي قرارات دولية تطالب بنزع سلاح المقاومة مثلاً، فقد انتفى هذا التبرير تماماً بعد نهاية ولاية لحود. فأثناء ولاية لحود كان من المستحيل على الحكومة أن تمحو عن نفسها وصمة اللاشرعية الميثاقية بسبب انسحاب كل الوزراء الشيعة من صفوفها. وقد كبّلت هذه الوصمة الحكومة ومنعتها فعلياً من إمكان اتخاذ أيّ قرارات بهذا الحجم. أما في الوضع الحالي، وبعد أخذ الحكومة لصلاحيات رئاسة الجمهورية، فإن بإمكانها الآن تعيين وزراء شيعة جدد مكان المنسحبين وإعادة إضفاء الشرعية الميثاقية على نفسها، وبإمكانها بالتالي إصدار أي قرارات إذا احتاج الأمر. ولم يعد هذا الخطر قائما إذاً إذا تراجع حزب الله وقبل بأرجحية من نوع معين للأكثرية داخل الحكومة. فالخطر الحقيقي الآن يكمن في الإبقاء على الوضع الحالي القائم حتى موعد الانتخابات في 2009 بحيث يُعطى الفريق الآخر الحجة التي يحتاج إليها لعدم إجراء الانتخابات. فيبقى عندئذ الوضع الراهن على حاله، وهو طبعاً في مصلحة هذا الفريق الذي ينفرد حالياً بحكم البلد.
لكن المشكلة أمام حزب الله، إذا ما تم هذا التراجع، هي في مكان آخر تماماً، وهو ظهور الحزب بمظهر المهزوم أمام جمهوره. لكنّ حل هذه المشكلة لا يمكن أن يكون بالأمر المستحيل على الحزب الذي اكتسب ثقة جمهوره المطلقة بعد تجارب عدة معه. وكانت قوى 14 آذار قد سبقت حزب الله في هذه التجربة حيث نجحت في تسويق قلب موقفها من ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية رأساً على عقب. ويدل نجاح فريق 14 آذار هذا، بالرغم من اشتهار بعض قواه الرئيسية بتلقي مواقفها جاهزة من الخارج، على أنه لن يكون صعباً على الحزب تفسير أي تراجع مدروس في هذا المجال كتضحية من أجل البلد ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، وهو فعلاً يكون كذلك إذا ما حدث.
وأخيراً لا بد من الأمل أن يؤدي فتح النقاش حول الأخطاء التي ارتكبها حزب الله في السياسة الداخلية من جانب الواقفين خلف الحزب في مواجهته مع إسرائيل، الذي تحاول هذه المقالة المساهمة فيه، إلى التغيير المطلوب في اتجاه تصحيح هذه الأخطاء. وهو تغيير ضروري لحماية المقاومة داخلياً ولضمان استمرار التفاف الرأي العام العربي حول المقاومة، وهو أمر لا بد منه لاستمرار هذه المقاومة على المدى البعيد.
* كاتب لبناني