هشام صفي الدين *
لا يسع المرء إلا أن يدعو الله أن يعين الرئيس المصري حسني مبارك على مصابه هذه الأيام. فبعدما فرش سلاطين النفط أوسع سكّة لبوش الابن لأيام وليال خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة، لم يحظ به سلاطين الفول (من غير زيت) لأكثر من خمس ساعات في سيناء. وبدت زيارة رفع العتب هذه كافية لتأكيد متانة العلاقة الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن. لم يكد بوش يغادر حتى وجد مبارك نفسه أمام موقف أكثر حراجة. فقد تعهّد الرجل بعدم السماح بتجويع مئات الآلاف من الفلسطينيين بينما يعجز عن إطعام ملايين المصريين. والجوع في مصر لا يحتاج إلى حصار أو إغلاق معابر ومرافئ أو قتل جماعي يومي. وقد يبدو إقحام موضوع الفقر المتنامي في مصر بالتحوّلات الصغيرة أو حتى الكبيرة لسياسة مصر الإقليمية أو علاقتها بالولايات المتحدة في غير محله. فخيارات مصر السياسية وإطراء أو تقريع واشنطن لها غالباً ما يعزى إلى عوامل أمنية وجيوستراتيجية وعلى رأسها حماية أمن إسرائيل والولايات المتحدة. إنّ تأثير هذه العوامل كبير، لكن حصره بها يحول دون توصيف سليم لما يدور في منطقتنا، بحيث تصبح التبعية قضية حكام ـــــ أشخاص ينفذون أجندة خارجية، دون الالتفات إلى المصالح الاقتصادية والطبقية التي تترك بصمات واضحة على مسار الأمور والتي تشير في النهاية إلى قدرة أي بلد على صناعة قرار مستقل ولعب دور فاعل خارجياً، إذا ما تمّ مثلاً التخلّص من هؤلاء الحكام.
وفي علاقة مصر بالولايات المتحدة، غالباً ما يجري تحليل قيمة المعونات إلى مصر بربطها بهذا الموقف السياسي والعسكري للنظام المصري أو ذاك، كالمشاركة في حرب الخليج الأولى أو تضييق الحصار على الفلسطينيين أو الضغط على سوريا لإنهاء الأزمة اللبنانية. لكن تاريخ المساعدات الأميركية لمصر (على الأقل غير العسكري منها) يؤكد أن القاهرة كانت وما تزال تدفع أثماناً اقتصادية إلى جانب تلك السياسية، والأهم أنّ هذه الأثمان هي التي ترسم الخطّ العام لهذا الدعم (وقدرة مصر في المدى البعيد على التحرّر من هذه التبعيّة). ولا يمنع ذلك من إدخال تعديلات، أحياناً كبيرة، على برنامج الدعم لتحقيق أهداف أمنية أو سياسية مرحلية. الكلام أخيراً مثلاً عن خفض الدعم الاقتصادي لمصر أتى على لسان البعض من أصحاب الأقلام الصحافية في سياق موقف القاهرة من العديد من القضايا العربية والإقليمية، إذ يبدو من منظور هذا التحليل أي موقف مصري معارض لواشنطن موقفاً مكلفاً. لكن الوثائق تؤكّد أن هذا الخفض مقرّر سلفاً وهو جزء من تحوّل بارز في سياسة واشنطن نحو مصر عبر خطة عشرية أقرّت عام 1998 لتسريع عملية ربط مصر بالنظام الاقتصادي النيوليبرالي الملائم لمصالح رأس المال الأميركي والمصري. ففي عام 1998، وبحسب تقارير الكونغرس الأميركي والسفارة الأميركية في القاهرة، أعيدت هيكلة المعونات الأميركية لمصر ضمن مبدأ استبدال المعونات بالمعاملات التجارية From Aid to Trade.
وتنص هذه الخطة على خفض المعونات الاقتصادية التي كانت تبلغ سنوياً حوالى 800 مليون دولار إلى النصف خلال السنوات العشر المقبلة (أي حتى عامنا هذا) بمعدل 40 مليون دولار سنوياً وهو ما حدث بالفعل ما عدا سنة 2003 أي سنة غزو العراق حيث تلقّت مصر زيادة في المعونات مرة واحدة بلغت قيمتها حوالى 250 مليون دولار. ومجدداً، كانت هذه المعونات مشروطة بتبني مصر رزمة «إصلاحات» اقتصادية أكثر جذرية ممّا مضى. فتمّ تعديل قوانين العمل بما يهدّد التأمينات الاجتماعية للعمّال وتسهيل تأسيس الشركات الخاصة وخفض الضرائب الجمركية على الواردات بنسبة أكثر مما هو منصوص عليه في قوانين منظمة التجارة العالمية. وبلغ برنامج التحرر الاقتصادي هذا عام 2005 حدّ قيام حكومة أحمد نظيف بخصخصة شركة الاتصالات «مصر تيليكوم» (التي كانت تدرّ أرباحاً طائلة على خزينة الدولة) والتململ من بطء عمليات الخصخصة التي بيعت بموجبها أكثر من 110 شركات منذ عام 1994.
ولا يخفى الدور الأميركي المركزي في رسم تفاصيل هذه الإصلاحات. فقد أعلن رئيس غرفة التجارة الأميركية في مصر جمال محرم عام 2006 أن «70 في المئة إلى 80 في المئة من التوصيات التي أعطيناها للحكومة المصرية تم تنفيذها عبر حكومة أحمد نظيف». وسنجد النمط نفسه من الربط بين المعونات وإجراء مراجعة جذرية للسياسات الاقتصادية خلال حرب الخليج الأولى. ففي عامي 90ـــــ91، وعقب إعفاء مصر من نصف ديونها الخارجية لمشاركتها في حرب تحرير الكويت، أتى هذا العفو بشروط مكلفة. وقامت الحكومة المصرية بخطوات غير مسبوقة لتحرير الاقتصاد المصري كإلغاء (لأوّل مرّة) أي قيود على سعر الفائدة والتسليف للقطاعين العام والخاص وخفض الدعم للمواد الغذائية (انخفض دعم أسعار المواد الغذائية إلى نسبة 2 في المئة عام 1993 بعدما كان بنسبة 13 في المئة عام
1983).
ويبدو أن اليد الخفيّة للسوق الحرّة لم تنعم على مصر بالفائدة كالتي آلت إلى الولايات المتحدة. فقد زادت واردات مصر من الولايات المتحدة دون أن تزيد صادراتها ما أدّى إلى عجز سنوي في الميزان التجاري بين البلدين خلال العقد المنصرم بلغ حوالى 1,5 بليون دولار، أي ما يعادل مرة ونصف مرة قيمة المعونات قبل خفضها بدءاً منذ عام 1998.
وإذا كانت توصيات غرفة التجارة الأميركية مؤشراً موثوقاً على التوجهات المستقبلية للسياسة الاقتصادية للنظام المصري، فإن قطاعات التأمين وملكية الأراضى والمرافق المالية ستكون في صدارة القطاعات المعرضة للخصخصة والتفكّك، وتنفيذ هذه السياسة جار على قدم وساق.
إن من نافل القول إنّ هذه الإصلاحات تجعل مصر أكثر اعتماداً على الاقتصاد العالمي (وخاصة الولايات المتحدة) وتلبية لحاجاته لا لحاجات المجتمع المصري. لكن إدراك أبعاد هذا المشروع الاقتصادي يمكن أن يلقي الضوء على الكثير من التطوّرات داخل مصر وفي علاقتها مع الولايات المتحدة. فمناداة واشنطن لإحلال الديموقراطية وتعديل الدستور في مصر تصبح أكثر من شعارات فارغة تستخدم لتبرير سياسات بوش في العراق إذ إنها وسيلة لإعادة هيكلة النظام بحيث تُعطى صلاحيات أوسع للسلطة التنفيذية كي تقوم بحماية وتثبيت هذه الإصلاحات من دون إثارة الضجيج والاحتجاج كما ستكون الحال لو استمرّ الاعتماد الكلّي على رئيس البلاد (مبارك حالياً والسادات سابقاً) لتمرير هذه السياسات.
داخلياً، تصبح الدوافع لبعض سياسات مبارك ضدّ خصومه أكثر وضوحاً. فإعادة هيكلة الاقتصاد المصري في العقدين المنصرمين قد أدّت، وما زالت، إلى انحياز متزايد لمركز السلطة من الطبقة البيروقراطية والعسكرية (ركن نظام مبارك الأب) إلى طبقة رجال الأعمال ذات الصلة الوثيقة مع مبارك الابن. لذا تصبح مهمة مبارك الأب التوفيق بين حماية أركان نظامه البيروقراطية وتقديم الدعم لطبقة رجال الأعمال لتسهيل عملية التوريث وإرضاء واشنطن. ولكسب هامش من المناورة، قام مبارك بالقضاء شبه الكلّي على المعارضة الليبرالية (حزبي الوفد والغد) التي يمكن أن تكون بديلاً تمثيلياً لمصالح طبقة رجال الأعمال التي يرعاها مبارك الابن. وهكذا ينحصر خيار واشنطن بينه (حكم آل مبارك) وبين حركة «الإخوان المسلمين» التي يحرص أيضاً مبارك على إبقاء نشاطها السياسي ضمن حدود معينة (هل سيستطيع جمال الابن التوفيق بين هذه التناقضات في حال تبوّئه سدّة الحكم؟).
وبناءً على ذلك، يمكن قراءة الصراع على السلطة في مصر كصراع في معظمه بين شرائح مختلفة من الطبقتين الغنية والمتوسّطة. وبين انشغال هذه الفئات بتأمين مصالحها والتركيز على البعد الإقليمي (الصراع العربي الإسرائيلي) تضيع حقوق العمّال والفلاحين والطبقات الفقيرة (من دون نهضتهم لا نهضة لمصر). ويغيب العمل السياسي والنقابي المنظم الواعي لأهداف هذه الإصلاحات ودور النخب المصرية المفصلي فيها. وتصبح مقاومة النتائج الكارثية الملموسة يومياً لهذه الإصلاحات بدون استراتيجية محددة. وتنحصر هذه المقاومة بتحرّكات عفوية وأحياناً عنيفة للعمّال والفلاحين كالتي تحدث بوتيرة أعلى في الآونة الأخيرة. هذا في أحسن الأحوال. أمّا في أسوئها، فيتجسّد هذا البؤس في الهروب عبر البحار لملاقاة الموت أو التشرد على شواطئ أوروبا، أو البقاء والانشغال إلى حدّ الهوس بالطقوس الدينية والصراعات والكراهية المنبثقة عنها (المتجسّدة في تجدد أحداث العنف بين الأقباط والمسلمين) وانتشار قانون الغاب حيث البقاء لمن يسعى لتأمين مصلحته الذاتية...
قبل أيام معدودة، وفي دردشة هاتفية، سألت صحافياً مقيماً في مصر عن أحوال الناس هذه الأيام. فقال بنبرة مكتئبة: «برامج تفسير الأحلام مالئة شاشات التلفزيون، والمسلم والقبطي متشاركان في الهمّ والغم والمرض لكن ماسكين بخناق بعض، وسواق التكسي عاوز يقنعك إن سرقة الحكومة حلال بس مش شايف إنو لازم يغيرها»... والآتي أعظم.
* صحافي لبناني مقيم في كندا