ياسين تملالي *
لم يعد العالم العربي بمنأى عن تأثير «الظاهرة الكويلهوية». ففضلاً عن أن كلّ مؤلّفات الكاتب تُرجمت إلى العربية ـــــ بما فيها أخيراً حوار صحافي مطوّل عنوانُه «اعترافات مسافر حاج» (1) ـــــ أصبح الاعتداد بمقولاته موضة من موضات العصر، خصوصاً في أوساط الشباب.
ويبدو من الصعب للوهلة الأولى تفسير هذه الشعبيّة، فأهمّ ما يميّز روايات باولو كويلهو «خفّتها» المفرطة أو بعبارة أقلّ لباقة ـــــ وأكثر دقّة ـــــ سطحيتها البالغة. أمّا من يصفون كتابته «بالفلسفية» ـــــ وفي طليعتهم بالطبع هو شخصياً ـــــ، فالظاهر أنهم لم يقرأوا سارتر وكامو، وأن الفلسفةَ في نظرهم فن الروحانيات الغائمة لا علم التفكير المنظّم العقلاني.
ما سرّ شعبية كويلهو؟ يبدو أنه تشابه رواياته مع «أدلّة الحياة العملية» من صنف «كيف تحيط نفسك بالأصدقاء؟»، بالإضافة طبعاً إلى تطرّقها إلى أكثر المسائل تعقيداً بتبسيط مذهل ودونما أية عقد نقص. فالكاتب البرازيلي لم يترك مجالاً إلا خاض فيه خوض العلّامة المختصّ، مثلُه في ذلك مثل مؤلفي «كتيبات الثقافة العامة» التي توفر على المتعجلين عناء «التثقّف» الحقيقي. قصصه تتحدث عن كل شيء دون استثناء، عن الحبّ والكره والحمية والسمنة والنوم والصحو والصداقة والعداوة والماضي والحاضر والمضارع، وعن كل شيء مرئي وغير مرئي، حتى عن الجنّ والملائكة وغيرها من المخلوقات النارية والنورانية.
ماذا عن حبكات هذه القصص؟ عندما تقع إحدى شخصيات كويلهو في مأزق لا تراه يتعب نفسه في تصوّر مخرج ذكي لها، ففي اللغة وخدعها ما يجنبه عناء ذلك. يكفي أن «تركّز» هذه الشخصية «مع نفسها»، وأن «تدخل في اتصال مع الكون» كي تحدث المعجزة وتنجو من الورطة وما كادت. ليس العالم الحقيقي إذن هو مسرح الأحداث بل «عالم الإنسان الداخلي»، فكلما تعقّد الواقع على البطل «انغمس في نفسه» باحثاً عن قدراته الكامنة ومنصتاً إلى صوت الراوي وهو يسرّ إليه: «كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً» أو على رأي أحد شخوص «الخيميائي»: «عندما يرغب أحدنا في شيء يتآمر الكون كله لمساعدته على نيله».
هذا عن حبكات كويلهو. ماذا عن أسلوبه؟ المَلل بعينه. أسلوب حكايات راديوفونية مليئة بـ«المشاعر المحترمة» و«الأفكار النبيلة». وكما يعلم دارسو الأدب ومحبّوه، فإنّ «المشاعر المحترمة» و«الأفكار النبيلة» لا تصنع كاتباً. قد تصنع فقط راهباً أو إماماً أو ...دجّالاً. الدجل. لا أصدق من هذه الكلمة لوصف هذا السرد اللامتناهي لآلاف الأفكار التي لا تحرّك في القارئ أي وتر يساعده على فهم نفسه أو العالم. ولا أصدق منها أيضاً لوصف رسمية كويلهو الجنائزية وهو يعرض حكَمه الرتيبة وكما لو كانت أشفى جواب عن تساؤلات البشرية منذ الأزل.
وتحفل كتابات كويلهو بمئات الأمثلة عن هذا الدجل اللغوي، فمثلاً نقرأ في «حوارات مع مسافر حاج»: «كلّ الطرق هي الطريق نفسها، لكن عليك الاختيار وستعيش في الطريق كلّ الطرق التي لم تخترها». ليس المطلوب فهم هذه الجملة الغريبة. المطلوب أن نرى في غموضها سحراً وفي إبهامها فلسفة. أمّا عندما نطالع بريشة «الكاتب العالمي» البارع كلاما عادياً جدّاً، فلا ينبغي أن نستخلص منه ضحالة فكره. لا، يجب أن نستشفّ منه قدرته الخارقة على تقديم فلسفته إلى «العوام» في شكل مستساغ. يجب أن نهز رأسنا إعجاباً ونحن نقرأ في «الاعترافات»: «علينا أحياناً أن نتخلّى عن شيء ما لكي نختار شيئاً آخر غيره». عاشت البساطة، أليست كما يصفها الكتاب ذاته «أجمل الأشياء على الإطلاق»؟
ولا يكفّ كويلهو في حواراته الصحافيّة عن التساؤل ببراءة مصطنعة عن سبب «تحامل» النقاد عليه واعتبارهم رواياته «صيدليّة روحانيّات»(2). لكنه حتى وهو يدافع عن عبقريته، لا يتورّع عن إتحافنا بجمل شبه بلهاء تثنينا عن اعتباره كاتباً فضلاً عن إدراجه في خانة الفلاسفة العظام، جمل مثل: «لكلّ من الكتّاب شخصيته وخصوصياته وكل يكتب للقارئ الخاص به»(3) أو: «الكتّاب يكتبون والنقّاد ينقدون والقراء يقرأون»(4). نعم، هكذا حرفياً. عاشت
الفلسفة.
كيف أصبح كويلهو «كاتباً عالمياً» بكل هذه القدرة على التفاؤل الغبي؟ لأن عالمنا يائس يتعلق بأية قشة كي يتحرر شيئاً ما من يأسه، ولأنه هو، الكاتب، فهم الحداثةَ في أدقّ معانيها التجارية، فناجى مشاعر الناس ورغبتهم الحالمة في عالم أكثر «إنسانية». من هذا المنطلق، ليس نجاحه ظاهرة أدبية بقدر ما هو أحد أعراض داء كوني، داء الروحانية المبتذلة. عندما تتكاثر العُصب الدينية وتفرز المعتقدات القديمة كل يوم شعوذات جديدة، فهل من الغريب أن يؤمن الملايين بأن تغيير أحوالهم لا يتأتى بالنضال الجماعي بل بالبحث الفردي عن «طاقة الكون الخفية»؟(5).

***


(1) «اعترافات مسافر حاج»، حوار مع الصحافي الإسباني جوان إيرياس، ترجمه إلى العربية عز الدين محمود، دار ورد، دمشق.
(2) مقال خليل صويلح «حتى باولو كويلهو تمرّد في شبابه!»، (الأخبار).
(3) «اعترافات مسافر حاج».
(4) تصريح لراديو ألماني، بتاريخ 2 نيسان/أبريل 2000 (ويكيبيديا، النسخة الفرنسية).
(5) «اعترافات مسافر حاج».
* صحافي جزائري