شيماء الصراف *
غالباً ما يُنظر في بلادنا بالريبة إلى من يقوم بمشاريع ذات طابع خيري، فيُقال عنه إنّه يريد التسلّق إلى منصب أو يغلّف فساداً منتجاً في موضع آخر، أو عنها إنها تتولّى الدعاية لنجوميّة زوجها أو تغطّي على نهبه وتضيّع الموضوع... وغالباً ما تكون تلك التهم صحيحة. وفي أحسن الأحوال، حين تكون صادقة، يقال إنّ تلك الأفعال ليست هي الحل، ولا تعدو أن تكون مسكنات. لقد أُصبنا باليأس من أنفسنا إلى حدّ افتقادنا ردّ الفعل السليم. ففي أوروبا وأميركا، تقام مشاريع خيرية عديدة وهائلة، ويوصي بعض الناس ببعض وأحياناً بكل ثرواتهم لتلك المشاريع، وهناك جمعيات كبرى تنظم وتشرف على هذه الهبات، ولا تشعر تلك الأصقاع بأنّها تمارس في ذلك سلوكاً غير مجدٍ أو ماضوي، فضلاً عن أن يكون مشبوهاً. بل هي جانب متعلّق بالمسؤولية الفردية. إن ما يعرف بالـfoundation هناك، جزء من دورة الحياة الفعلية، فلماذا يمتنع الميسورون عندنا عن اتباع هذا السلوك بينما يتبعون سواه تقليداً للغرب، ولا سيما أنّ في تراثنا ما يحيط بالسلوك ويجعله مؤصّلاً. إليكم امرأة من محافظة الدقهلية بمصر قامت بما يأتي:
ـــــ تأسيس جمعية «النور والأمل» للمكفوفين عام 1991، يتم فيها تأهيلهم بأحدث الوسائل العلمية وأرقاها. تعليم استعمال الكمبيوتر على طريقة «برايل». توفير أفضل الكتب الدراسية والعلمية. هذه الرحلة تنتهي بانتهاء الدراسة الجامعية وقد تستمر. تطوير قابلياتهم ومواهبهم الحرفية إنْ وُجدت. هناك أيضاً التأهيل الاجتماعي: طريقة المشي، التحكم بعضلات الوجه والسيطرة عليها...
ـــــ «دار العز» لحضانة الإناث اليتيمات أو المجهولات النسب وتربيتهن. حيث يؤخذن من مراكز الشرطة، وتعتني بهن «الأُمهات البديلات»، وهنّ فتيات غير متزوجات ذوات شهادة جامعية، وكل واحدة بعهدتها عدد محدود من الصغيرات.
ـــــ بنَت عمارتين على نفقتها الخاصّة لسكن البنات لحين زواجهن.
ـــــ دار حضانة نموذجية للمكفوفين والمبصرين.
ـــــ دار سكن لطالبات الجامعة المغتربات من كفيفات ومبصرات.
ـــــ إنشاء 17 مركزاً للمكفوفين في مختلف قرى الدقهلية.
إضافة إلى إدارة ومتابعة سير النشاطات على أفضل وجه. فالسيدة المذكورة طبيبة تدير مستشفى التأمين الصحّي.
إنها امرأة ميسورة الحال، لها وعي كامل بحاجة المجتمع إليها. امرأة شجاعة اختارت فنهضت وفعلت فأنتجت. إنها الاستمرار النبيل بأجلى صوره ومعانيه.
البداية كانت مع اثنتين من أُمهات المؤمنين. الأولى، زينب بنت خزيمة، في الجاهلية واستمر ذلك في الإسلام. كانت تُدعى «أمّ المساكين» فترعى فقراء الناس ومعوزيهم. الثانية، زينب بنت جحش، امرأة «صناع اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله»، ووصفت بأنها «مفزع (ملجأ) اليتامى والأرامل».
ولاحقاً في كل المجتمعات العربية الإسلامية وُجدت نساء ثريّات كرّسن مالهن وجهدهن لخدمة الناس. وفي العموم تنفق المرأة منهن في كل الأوجه، فيذكر أنها خيِّرة كثيرة البرّ بالمحتاجين. ومن أعمالهن بناء المساجد، والقناطر والجسور على الأنهر، إنشاء الأوقاف وصرف ريعها على التلاميذ والفقراء واليتامى والأرامل وغيرهم. ومثلما في المدينة خارجها في طرق السفر. وقد تشتهر السيدة بأمر معين، فزبيدة زوجة الخليفة الرشيد اهتمت بتوفير الماء في مكّة المكرّمة لكي يكون أرخص للناس وذلك بجلبه من أماكن جبلية وبعيدة. وحين أبلغها وكيل أموالها بالتكلفة أمرته بالمضي حتى لو كانت ضربة فأس العامل بدينار. واهتمّت بتأمين الماء ومحطات الراحة لطرق السفر بين بغداد ومكة. ومثلها فعلت زمرد أم الخليفة الناصر العباسي. لكن الاهتمام تركّز في أمرين:
الأول: بناء المدارس؛ بنَت شمس الضحى الشاهلتي في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، المدرسة المسمّاة «العصمتية» في بغداد. وفي القرن نفسه بنَت ربيعة خاتون مدرسة على جبل قاسيون المشرف على دمشق. وبنَت زوجة الملك اليمني الأشرف اسماعيل عدة مدارس في اليمن أشهرها «الياقوتية» في منطقة زبيد. المدرسة العذراوية في دمشق بنتها عذرا بنت الأمير شاهنشاه في القرن السادس الهجري ـــــ الثاني عشر الميلادي. وهذه أمثلة لا غير.
تشرف الواحدة منهنّ شخصياً على إدارة المدرسة التي تكرسها لتدريس مذهب معيّن مثل الحنفي أو الشافعي، وقد تكون لأكثر من مذهب، وهي التي تختار المدرّسين. وفي الغالب تهيئ السيدة أوقافاً تدر المال على المدرسة باستمرار.
الثاني: رعاية اليتامى والأرامل. ارتبط هذا الفعل بأسماء عشرات النساء من اللواتي أُرِّخ لهن. واليتيم يعني كلّ طفل بدون عائلة، وقد يكون ابناً للأرملة كما يكون طفلاً قد تمّ التخلّي عنه على اختلاف الظروف والأحوال. كذلك كلمة أرملة، فهي عامّة لا تختصّ بصنف معيّن، وفي الغالب يتمّ إنشاء سكن لهم وقد يُعرف بـ«الرباط»، فيُقال رباط للأيتام أو الأرامل أو الاثنان، وذلك لارتباط الاسم عادة بالمتصوفة. الرباط ليس فقط للعيش أي طعام ونوم وكسوة، بل يجري فيه تربية الأيتام ومن ثم تأهيلهم حسب قابلياتهم وميولهم، علوماً أو حرفاً يكسبون بها معيشتهم مستقبلاً. كذلك الأمر مع الأرامل، سواء الشابات أو المسنات منهن والعاجزات لمرض أو عاهة تمنع من التعلم والعمل. في مصر بالذات، بلد الدكتورة فاطمة كشك التي ذكرناها في مطلع هذا الكلام، وفي القرن التاسع الهجري ـــــ السادس عشر الميلادي، يذكر المؤرخ السخاوي الكثير من العالمات أو سيدات المجتمع اللواتي يصفهنّ بالصلاح والخير والنبل، كان اليتيم والأرملة محور اهتمامهن.
إن ما فعلته هؤلاء النساء الواعيات هو توفير الصحّة الجسدية وكذلك النفسية حبّاً وحناناً واطمئناناً، وتسليح المحتاجين بالمعرفة والعلم ليكسبوا عيشهم بعيداً عن ذلّ الحاجة وليعوا واجبهم في مدّ اليد إلى الآخرين.
* اختصاصيّة قانون وحضارة إسلاميّة