ياسين تملالي *
إذا استثنينا أتباع عبد الله جاب الله، رئيس حركة الإصلاح الأسبق (وهو من «أصلحت» الاستخبارات حزبه في مطلع 2007 وأبعدته عن رئاسته)، فإنّ الإخوان المسلمين الجزائريّين يقفون موقف المتفرّج من مشروع تعديل الدستور الرامي إلى تمكين بوتفليقة من الترشّح لعهدة رئاسية ثالثة.
لم نسمع من حركة «مجتمع السلم» (حمس) ولا من النهضة ـ ولا من فلول الإصلاح «المُصلَحة» ـ أي انتقاد لتشبّث الرئيس بالحكم واعتباره الدستور مطيّة لرغباته لا قانون البلاد الأساسي. كل ما سمعناه من أئمة هذه التنظيمات وخطبائها ـ وما أكثرهم منذ أن اكتشف الإسلاميون أضواء الإعلام الرأسمالي «الفاجر» ـ تصريحات مبهمة نستشف منها دعماً غير معلن لمخطّطات بوتفليقة التسلطية.
قد يرتبك غير العارفين بالسياسة الجزائرية وهم يقارنون هذا الموقف الغامض بموقف الإخوان المصريّين المناهض «للتمديد» و«التوريث». وقد يراه بعضهم عملاً بمبدأ «التقيّة» لتجنّب القمع والاعتقالات. والحقيقة غير ذلك. الحقيقة أن سكوت «حمس» و«النهضة» عن مشروع «العهدة البوتفليقية الثالثة» أحدث فصول ملحمة طويلة عنوانها «المشاركة البنّاءة في السلطة».
أليست الحركتان ممثّلتين في الحكومة؟ ألا يصوّت نوّابهما على جلّ مشاريع بوتفليقة؟ ورئيس «حمس»، أبو جرة سلطاني، أليس «وزير دولة» كوزير الداخلية يزيد زرهوني، أحد أقرب المقربين من الرئيس؟ وحزبه، أليس عضواً في «التكتل الرئاسي»، مثله في ذلك مثل الحزبين «الحكوميَّين» المختصّين في تزوير الانتخابات واقتسام الأملاك العامة، «جبهة التحرير الوطني» و«التجمّع الوطني الديموقراطي»؟ تخيّلوا في مصر تحالفاً بين الحزب الوطني و«جماعة الإخوان» محوره الوحيد «مساندة برنامج محمد حسني مبارك»!
ويخطئ من يظنّ أن «الإخوان» لم يهادنوا سوى بوتفليقة اقتناعاً منهم بسعيه إلى تحقيق صلح نهائي مع التيار الإسلامي؛ فالواقع أنهم هادنوا كلّ الرؤساء منذ 1989، بمن فيهم من سيّروا البلاد في عزّ الأزمة السياسيّة والأمنية، محمد بوضياف وخلفه علي كافي وخلَف خلفه اليمين زروال.
وقد بدأت «ملحمة المشاركة البنّاءة» في 1989 بعد ميلاد «جبهة الإنقاذ». كان الإخوان آنذاك ينشطون في جمعيّتي «جمعية الارشاد والاصلاح» و«النهضة الإسلاميّة»، وقد عابوا على الجبهة حال إنشائها «سعيها إلى تحزيب المسلمين»، ولم يتردّد بعضهم في تذكيرها بأنّ الله لعن الأحزاب في «سورة الأحزاب»، وكان الموقف مثيراً للاستغراب: أيُعقل أن يرى «المعتدلون الوسطيون» في التنظيم الحزبي مجاهرة بعصيان الرب، ويعتبره متزمّتو الإنقاذ «وسيلة من وسائل العمل السياسي لا غير»؟
وقد هال الإخوان أن يروا الوافد الجديد على «ساحة العمل الدعوي» يحصد المجالس البلدية الواحد تلو الآخر ويهدّد بغزو باقي المؤسّسات المنتخَبة بما فيها الرئاسة. وكان ذلك فاتحة جدل كبير في صفوفهم عن مدى توافق مفهومي «البيعة» و«الانتخاب» و«تلاؤم الديموقراطية الغربية» مع «مبدأ الشورى كما أقرّته الشريعة».
غير أنّ هذا الجدل توقّف حالما تبيّن استئثار «حزب الرعاع» بالقواعد الإخوانية المفترضة. استيقظت في الإخوان حاسة الواقعية السياسية، فتحوّلت جمعية النهضة إلى «حركة النهضة» وجمعية «العدل والإحسان» إلى «حركة المجتمع الإسلامي» (حمس)، وكما لو كانت نقاشاتهما المحتدمة عن «شرعية التحزّب» من عدمها هذيان ليلة صيف. وشارك الحزبان في انتخابات كانون الأول 1991 البرلمانية التي فازت بها جبهة الإنقاذ.
وبعدما ألغيت هذه الانتخابات وحُظرت الجبهة، طالب كلا الحزبين بـ«احترام خيار الشعب»، وامتنعا عن المشاركة في مؤسّسات النظام المؤقّتة. إلا أن «حمس» تأقلمت بسرعة فائقة مع الوضع الجديد، وضع حالة الطوارئ وتسيير البلاد من طرف الجيش تحت غطاء رئاسة اسمية وهمية. ففي 1994، باسم «المساهمة في حل الأزمة»، قبلت المشاركة في برلمان غير منتخب هو «المجلس الوطني الانتقالي»، فيما رفضت النهضة ذلك (كان يرأسها عبد الله جاب الله آنذاك)، وآثرت الالتحاق بالمعارضة المطالبة بـ«حلّ سياسيّ شامل».
وكان من مآثر هذا المجلس الانتقالي تصويته على اتفاقية مع صندوق النقد الدولي رهنت مستقبل الاقتصاد الجزائري ومصادقته على تشريعات ليبراليّة عديدة كالقوانين المتعلّقة بخصخصة الشركات القوميّة وتسيير رساميل الدولة. وكان من مآثر «حمس» الجمّة مشاركتها في سنّ هذه التشريعات باسم «عصرنة الاقتصاد» أو سكوتها عنها باسم «وحدة الصف الوطني».
وبعد حصولها على 15 في المئة من مقاعد البرلمان في تشرين 1997، وتأكيداً «لمساهمتها في حل الأزمة»، قبلت «حمس» أن تُمثَل في الحكومة، ولم ينقطع تمثيلها فيها إلى اليوم، بل إن بعض وزرائها (كوزير الأشغال العمومية عمار غول، ووزير التجارة الهاشمي جعبوب) أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الديكور الرسمي. وما لبثت النهضة أن سلكت النهج نفسه بعدما أزيح عبد الله جاب الله من رئاستها عقاباً له على رفضه مجاراة «حمس» في دعمها ترشح بوتفليقة لرئاسة الجمهورية في 1999.
وتتميّز «ملحمة المشاركة البنّاءة» بتأقلم الإخوان العبقري مع طرق التسيير السارية، وعدم مغامرتهم بتغيير أدنى تفاصيلها «درءاً للفتنة» وخوفاً من الفوضى. كما أنّ الأحزاب الإخوانية بعد تدجينها، لم تعد ترى أيّ تناقض بين إيمانها بأنّ «الإسلام طريق وسط بين الرأسمالية والاشتراكية» ودفاعها عن الليبرالية قولاً وفعلاً. أليس المسؤول الأوّل عن المفاوضات الجارية مع منظّمة التجارة العالمية الوزير «الحمسي» الهاشمي جعبوب؟
بالنظر إلى هذا التاريخ الحافل بالحكمة والاعتدال، لن نُفاجأ إذا ساندت «حمس» والنهضة مشروع تعديل الدستور، ولن نندهش إذا تجنّدت «حمس» للدفاع عنه تجنّدها «لشرح برنامج الأخ بوتفليقة» في انتخابات 2004 الرئاسية. لقد أصبحت الحركتان جزءاً من النظام لا مجرّد ممثّل بارع في مختلف مسرحياته. أمّا مسؤوليّتهما عن خنق الحريات وقمع الانتفاضات الشبانيّة التي تعرفها البلاد منذ 2001 ـــــ وفي مقدّمتها انتفاضة منطقة القبائل التي قتل فيها 120 متظاهراً ـــــ فليست أقلّ جلاء من مسؤولية شريكيهما في الحكومة، جبهة التحرير والتجمع الوطني.
ويمكن القول إنّه لا فرق اليوم بين هذين التنظيمين وحليفيهما الحكوميَّين سوى محافظتهما على تقاليد إطالة اللحى، وافتتاح البيانات بالبسملة، وسرد الآيات القرآنية في أقلّ الشؤون اتصالاً بالدين. وهو فرق ما أهونه منذ أمعن عبد العزيز بلخادم، زعيم جبهة التحرير، في إطالة لحيته وأصبح الاستشهاد بالقرآن إحدى هوايات «العلماني» أحمد أويحيى، رئيس التجمّع
الوطني.
* صحافي جزائري