صباح علي الشاهر *
يتساءل البعض ربما عن استغراب أو سخرية: لماذا تعطّل تأليف الحكومة الموعودة في العراق طيلة هذا الوقت؟
من يتساءل ربما يعوّل على انبثاق حكومة قادرة على النهوض بمهماتها كحكومة، ويذهب البعض بعيداً وتحت تأثير تصريحات بعض المسؤولين الحكوميّين في العراق، إلى أنّ رئيس وزراء الحكومة الجديدة الذي هو رئيس وزراء الحكومة القديمة، نوري المالكي، سيقدّم حكومة قليلة العدد، كثيرة الفاعلية، وستكون هذه الحكومة بعيدة عن التقاسم الطائفي.
تُرى، هل يمكن بتغيير هذا الوزير أو ذاك، وبتقليص عدد الوزراء، أو إلإيحاء بأن الاختيار سيكون بعيداً عن المحاصصة الطائفية، (ولم يقولوا مجرّد قول بعيداً عن المحاصصة الإثنية والحزبية)، إحداث انعطاف حاسم في الحراك السياسي في العراق؟
هل القضية تتعلّق بشخص الوزير في هذا المنصب أو ذاك، وهل الأمر يتعلق برئيس الوزراء، سواء كان إياد علاوي أو إبراهيم الجعفري أو نوري المالكي؟
أليس وراء كل هذا الصخب، الذي لا طائل وراءه، قصد واضح ومكشوف، ألا وهو إبعاد الأنظار عن جوهر القضية، وجوهر القضية هو بالتحديد الاحتلال، وما جلبه الاحتلال؟ أليس بقاء الفاعليات السياسية تدور كثور الناعور في حيّز ما سمّوه «العملية السياسية»، وهي في حقيقتها التصوّر الأميركي لما ينبغي أن يكون عليه العراق الجديد، هو أسّ المشكلة وجوهرها؟ ألم يتّعظ البعض بعد مضي هذه السنوات الخمس العجاف؟ ألم يعرف بعد بأنّ الوصفة الأميركية وصفة دمار لا للعراق فقط، بل للمنطقة برمّتها؟
ماذا يستطيع ثور الناعور فعله، أكثر من كونه يدور ويدور في حيز محدّد لا يستطيع تجاوزه؟
ما يُسمّى «العملية السياسية» هو تصوّر متكامل تترابط حلقاته، من قانون إدارة الدولة إلى الدستور، مروراً بنهج الاتكاء على وجود المحتلّ، وممارسة التقاسم الطائفي والإثني، تمهيداً لتقسيم البلد، ورهن مصيره بالمحتلّ إلى أمد غير منظور.
خرج من الحكومة، في أوقات مختلفة، لكنها متتالية، التيار الصدري وحزب الفضيلة، وهما من الائتلاف، كما خرج منها وزراء كتلة «القائمة العراقية» (جماعة إياد علاوي) ووزراء كتلة «جبهة التوافق». تُرى ما الذي سيحدث لو عاد وزراء هذه الكتل والأحزاب إلى الحكومة؟ لا نحتاج إلى كثير من الحصافة للإجابة بأنه سوف لن يحدث أي شيء، فمعوّقات أي فعل إيجابي ستشخص أمام هذه الحكومة مثلما كانت تشخص أمام الحكومات المتعاقبة، وسوف لن تفعل الحكومة الموعودة أكثر ممّا فعلته حكومات الكتل والأحزاب الأربعةلقد شخّص التيار الصدري آفة التقاسم الطائفي، وطلب من رئيس الوزراء اختيار بدلاء لوزرائه من المستقلّين، لكن رئيس الوزراء قدّم قائمة بالوزراء البدلاء عن وزراء التيار الصدري وكانوا من أتباع حزبه، وحزب «المجلس الإسلامي الأعلى» في العراق. لقد تقاسموه هو أيضاً! وكان من الطبيعي أن يعرقل التيار الصدري قائمة رئيس الوزراء للبدلاء. أما جماعة «التوافق» فقد انسحبوا احتجاجاً على ممارسات المالكي، واستئثاره بالسلطة، وعدم فسح المجال أمام الوزراء للقيام بمهماتهم. إن «التوافق»، و«العراقية» إلى حدّ ما، لم يكن هدفهما إنهاء عملية التقاسم الطائفي، بل زيادة الصلاحيات، أي ارتفاع نسبتهما في السلطة والحكم، وهما سيعودان لو تحقّق لهما هذا، ولكي يتحقّق، فعلى رئيس الوزراء أن يتنازل عن بعض صلاحياته، وذلك يعني تقليم أظافره، وخصوصاً إذا عرفنا أن بعض الصلاحيات تتعلّق بالملفات الأمنية والاقتصادية وبصلاحيات التعيين والإقالة.
يمكن القول إنه يمكن التعويل على موقف التيار الصدري فيما لو أقدم على تطوير موقفه والتمسّك به حتى النهاية، أمّا مواقف كتل «العراقية» و«التوافق»، فهي تندرج ضمن إطار ضمان حصّة مناسبة لكلّ منهما من كعكة العراق، ويمكن وصف هذه المواقف من دون تردّد بأنّها مواقف مصلحية وانتهازية.
الوضع الوزاري العراقي انعكاس لوضع الكتل والكيانات. فهو على صعيد الأحزاب الشيعية يتّسم باتساع شقة الخلاف بين أحزاب ومكونات «الائتلاف»، وقد وصلت إلى مديات بالغة الخطورة، إلى حد استعمال السلاح والتصفيات المتبادلة. ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى أحداث الديوانية والبطحاء والعمارة والناصرية والسماوة والبصرة وكربلاء. ولا يغيب عن المتابع ملاحظة الصراع المكشوف حول السيطرة على مناطق النفوذ، سواء في المجالات التي تدرّ منافع اقتصادية أو في قيادة المحافظات، حتى أبسط دائرة.
ولا يقتصر التشرذم داخل الكتلة الواحدة، بل يمتدّ داخل الحزب أو الجماعة الواحدة، فـ«حزب الدعوة» الذي هو «دعوات»، ينقسم عملياً بين جماعتي المالكي والجعفري، وهذا الأخير يسعى لتأسيس تيّاره، وقد يعلنه في مقبل الأيام. والتيار الصدري يشهد انقسامات بين من هم مع السيد الصدر أو من هم مارقون عنه. وحتى الحزب الشيوعي الذي فقد ما كان له من جماهيرية، يشهد انقسامات عديدة، آخرها ظهور حركة «تعديل المسار» للنخب والكوادر الحزبيّة التي تحمّل القيادة الحاليّة مسؤوليّة انهيار سمعة الحزب.
وفي الساحة الكردستانيّة، يتعمّق الصراع بين الاتحاد الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني في ما يتعلّق بتوحيد «البشمركة» الذي لم يتمّ لحدّ الآن، وتوحيد الإدارتين ونِسب كلّ منهما. وليس هذا فقط، بل إنّ الاتحاد الكردستاني لم يفلح حتى في اختيار رئيس وزراء الإقليم الذي أصبح من حصّته، ما دفعه للإبقاء على رئيس وزراء الإقليم الحالي الذي ينتمي إلى الحزب المنافس (الحزب الديموقراطي الكردستاني). كما تشهد الساحة الكردستانية حراكاً سياسيّاً يتزعّمه المثقّفون ضدّ الفساد واحتكار الحزبين للعمل، وتتصاعد حركة الشارع وترتقي الشعارات من مستوى المطالب الاقتصادية إلى مستوى المطالب السياسية، وتنبثق أحزاب جديدة تجرؤ للمرّة الأولى على الإعلان عن نفسها وعن برامجها.
أما على الساحة السنية فالأمر أكثر تعقيداً. فهناك انقسام داخل كتلة «التوافق»، بين الحزب الإسلامي وجماعة عدنان الدليمي وخلف العليان من جهة، وبين جماعة صالح المطلق من جهة أخرى، وأخيراً بينهم وبين طارق الهاشمي. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المطلق أفلح في سحب تسعة نوّاب من قائمة علاوي، ما دفعه إلى الإعلان عن تشكيل كتلة جديدة تضمّ 20 نائباً سمّاها «الحوار الديموقراطي». وزاد في تعقيد الساحة السنية ظهور وبروز «الصحوات»، و«جماعات الإسناد»، التي طرحت نفسها بديلاً ليس عن الحزب الإسلامي فقط، بل عن «التوافق» أيضاً، ودعوتها إلى أن يكون النوّاب السنة من حصّتها، لا من حصّة جهة أخرى تعتقد أنّها لا تمثّل أي ثقل في الساحة السنية، وخصوصاً أنهم يقولون إنهم هم، وهم وحدهم من طرد «القاعدة»، وأعاد الأمن إلى الأماكن التي كانت ساخنة.
إزاء هذه الخريطة المضطربة والمعقَّدة والشديدة الاختلاف، في المصالح الفئوية والعشائرية، والطائفية والإثنيّة والحزبية، يمكن أن يتساءل المرء كيف ستكون ولادة الحكومة الجديدة؟ وهل ينفع توزيع الوزراء على كلّ هذا الطيف، أم أنّ المطلوب أمر آخر، وهو بالتحديد الخروج من مفهوم المحاصصة، والخروج من تحديدات ما يُسمّى العمليّة السياسية، والتحرّك في فضاء أرحب؟
* كاتب عراقي