سعد الله مزرعاني *
ألقت الخطوة السعودية، بالطلب من رعاياها عدم المجيء إلى لبنان، ومن الموجودين منهم في ظهرانينا (حوالى 2000)، توخّي الحذر، المزيد من السواد على المشهد اللبناني. وكانت السفارة الفرنسية في بيروت قد قرّرت هي الأخرى، في توقيت متزامن تقريباً، إقفال مركزين ثقافيين تابعين لها في مدينتي طرابلس وصيدا (هذا القرار جرى التمهيد له منذ مدة بعدم إقرار الموازنات الضرورية لعدد من المراكز والأنشطة الفرنسية في المناطق اللبنانية، وحتى في العاصمة بيروت).
وقبل ذلك بقليل، كانت واشنطن قد نصحت رعاياها هي الأخرى، بعدم السفر إلى لبنان أو بالتحسّب الأمني، ولو لفترة محدودة.
ومن جهتها، فإن قوى أساسية في فريق السلطة، كانت قد كثّفت تحرّكاتها الميدانية التي اتّخذت أحياناً طابعاً عسكرياً، شمل معظم المناطق اللبنانية، وخاصة في العاصمة. وقد ظهرت الأسلحة وعمليات إطلاق النار، احتفالاً أو استعراضاً أو استفزازاً، في الشمال وبيروت والبقاع وعرمون...
وفي هذا السياق المتوتّر، يمكن الحديث أيضاً عن أحداث 27 كانون الثاني الماضي، عندما سقط عشرات القتلى والجرحى على تقاطع كنيسة مار مخايل، في اضطراب وضع المؤسّسة العسكرية أمام أسئلة وتساؤلات لم تقدم كل الأجوبة بشأنها حتى هذه اللحظة.
وضاعف من خطورة هذا المشهد المطّرد التأزّم، جملة مواقف خارجية، أميركية وسعودية، خصوصاً، مثّلت من خلال ما هو معلن أو غير معلن، خلفية بدت «طبيعية» لما يعيشه لبنان من تصعيد وتوتير. فقد سارعت السفيرة الأميركية الجديدة إلى استئناف ما كان قد بدأه سلفها من إلحاح على انتخاب رئيس للبنان «فوراً». وهي بذلك كانت تعبّر عن موقف تقليدي أميركي من أعلى الهرم في الإدارة إلى أدناه، وهو موقف يصر على الذهاب إلى انتخابات فئوية ولو بالنصف زائداً واحداً، كتأكيد لسعي محموم من جانب واشنطن من أجل الاحتفاظ بنفوذها في لبنان، حيث صادفت هنا، من النجاح، أكثر مما تيسّر لها في مغامرتها العراقية، رغم «إخفاقات» عدوان تموز 2006 الذي شجّعت عليه ودعمته وتابعته حتى القرار 1701.
وبعدما كانت واشنطن تتجنّب الحديث عن المبادرة العربية وتكتفي حيالها بالصمت، كشف السيد دايفيد ساترفيلد، المستور، وأعلن معارضة واشنطن الصريحة للمبادرة العربية التي تبلورت في «سلة» توافقية ذات أبعاد ثلاثة: انتخاب رئيس للبلاد، وتأليف حكومة وحدة وطنية، والتفاهم على قانون جديد للانتخابات النيابية.
وصبّت في المناخ نفسه أيضاً زيارة وزير الخارجية السعودي إلى واشنطن، خصوصاً. وقد بدت الزيارة، منطقياً، جزءاً من عملية دفع الأمور في غير الاتجاه التوافقي. وقد عزّز من ذلك ما تسرّب عن الزيارة الفاشلة التي قام بها الوزير السعودي إلى دمشق قبيل زيارة الأمين العام للجامعة العربية إلى بيروت، في مهمته الأخيرة فيها. فالوزير السعودي، طرح كما يبدو، العودة إلى المزيد من تدويل الأزمة اللبنانية، واستصدار قرار جديد عن مجلس الأمن فيما يتعلّق بالرئاسة الأولى. وهذا الأمر الذي بقي غير معلن رسمياً، تفاعل رغم ذلك ميدانياً وسياسياً، وبشكل سلبي، وعلى النحو الذي أشرنا إليه آنفاً، وكان من امتداداته قرار قيادة المملكة حظر سفر السعوديّين إلى لبنان.
يمكن التوقّف عند مؤشرات أخرى، دولية وعربية، وكلّها من النوع الذي ينسج على المنوال نفسه، وصولاً إلى القرار الكبير الإسرائيلي ــــ الأميركي، باغتيال القائد المقاوم والبارز والخطير، الشهيد عماد مغنية، في العاصمة السورية في 12 شباط الجاري.
وسيكون من عدم الإنصاف رؤية حصة قوى 14 آذار اللبنانية في حملة التصعيد السياسي هذه، بعدما أشرنا إلى حصّتها في التصعيد الأمني. فهذه القوى أطلقت العنان لتطرّفها حتى بلغت الذروة في هذه الفترة. ولم يبق قائد فيها كبير أو صغير، إلا أدلى بدلوه. وفي مجرى ذلك سمعنا من السيد سعد الحريري ترحيبه بالحرب («نحن لها»)، ومن السيد وليد جنبلاط تصعيده إلى درجة الدعوة إلى «الطلاق»، فضلاً عن تجاوز الآخرين وتجاوز نفسه كالعادة، في التحريض والاتهامات و«التعبئة».
من السهل القول، نتيجة ذلك، إنّ القرار السعودي، بمنع رعايا المملكة من زيارة لبنان، هو قرار العارف، أي هو قرار الشريك في تحديد وجهة الأمور، بما يستدعي التحوّط والتحسب! وينطبق ذلك بشكل مماثل أيضاً، على القرارين الأميركي والفرنسي... ويكون أن هذه القوى الخارجية وحلفاءها المحليّين، قد سلكا وجهة اتخاذ قرارات، بشأن لبنان، ذات طبيعة غير توافقية، أي قرارات استفزازية بالضرورة (نظراً إلى الوضع الملموس المعروف). وتقتضي عملية تنفيذ هذه القرارات جملة مسائل: منها تحضير «الساحة» لاتخاذ هذه القرارات، ومنها تأمين شروط حمايتها بعد اتخاذها. والأمران تطلّبا استعراض جوانب القوة السياسية والميدانية، على النحو الذي ذكرناه فيما تقدّم.
هذا لا ينطوي، بالضرورة، على إعلان الحرب والذهاب إليها، لكنه ينطوي، بالتأكيد، على احتمال استفزاز الخصوم، إلى حدود أن تكون ردود فعلهم من النوع الميداني والعنيف، لإحباط القرارات المتخذة، أو لمنع تنفيذها قبل حصولها.
ويمكن إعادة صياغة هذه الخلاصة بطريقة أخرى: تريد الولايات المتحدة أن تحتفظ بعناصر قوتها ونفوذها في لبنان، وهي تفضّل بقاء حكومة السنيورة. لكن ثمة ضغوطاً واستحقاقات تفرض إجراء انتخابات رئاسية وتأليف حكومة جديدة... وحيث إنه لا بد من التعامل مع هذه الضغوط والاستحقاقات، فواشنطن تسعى من أجل أن لا تختل التوازنات في غير مصلحتها، أثناء وبعد إنجاز هذه الاستحقاقات.
وبالتوافق مع هذا الهدف الأميركي (أو في خدمته)، تتحرّك سياسات ومواقف دوليّة وعربية ومحلية، وكذلك يجري استخدام الأدوات والأساليب المناسبة والضرورية، السياسية والأمنية والعسكرية، في مجلس الأمن أو في زواريب العاصمة اللبنانية!
إن تحديد عناصر المشهد بدقة، هو جزء من صحة اتخاذ القرار المتعلق بكيفية التعاطي السليم معها.
وفي محاولة التدقيق نفسها، إذا صحّت، يتّضح «أن الإدارة الأميركيّة ترى في لبنان قصّة لا تسمح بإسقاطها»، كما قال دايفيد ماكوفسكي الباحث في «مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى». أما وسائل تحقيق ذلك فمتنوعة. وتمثّل السيطرة الأميركية على لبنان مدخلاً لتحقيق أهداف أخرى فيه، ومن خلاله، في المدى الإقليمي الشرق أوسطي الواسع، كما هو معروف.
وقد لا تحتاج السيطرة على لبنان وتعزيزها، إلى حرب أهلية فيه أو إلى صراع إقليمي عسكري. لكن بالتأكيد، فإن إسقاط «قصة» لبنان الأميركية، هو ما يجعل الأسلوب الأميركي يتماثل مع الأسلوب الإسرائيلي بالكامل. فإذا كانت واشنطن تستطيع تحقيق الأساسي من أهدافها المباشرة، دون المرور، بالضرورة، بحرب أهلية في لبنان، فإن إسرائيل لا تستطيع تحقيق الأساسي من أهدافها دون هذه الحرب. بل إن الحرب الأهلية هي وسيلة إسرائيل الوحيدة لتدمير لبنان عموماً، وتدمير وجود المقاومة فيه ودورها، خصوصاً بعد فشل عدوانها في تموز عام 2006.
انطلاقاً من هذه التقديرات، يجب، حسب تقديرنا، صياغة تكتيكات المواجهة مع المشروع الأميركي ومع المشروع الصهيوني، في حالتي تباينهما النسبي، وتماثلهما في الأساسي من الأهداف (الحديث يدور هنا عن وضع لبنان حصرياً).
ويصبح أن «المعارضة الوطنية» لا تستطيع أن تُبلور سياستها، بوصفها فقط، مجرد ردود أفعال ومن النوع نفسه، أحياناً! أي عبر مواجهة التصعيد الأمني والسياسي والإعلامي، بتصعيد مماثل، قد يخدم منطق خصومها، ويستدرجها إلى المرحلة الإسرائيلية الصافية!
هذا التحذير ينطوي حكماً، على الاعتقاد بأنه من الممكن تكوين معادلة يجري من خلالها فرض تراجع على الخطة الأميركية، وتجسيد ذلك في تسوية لا تتيح، لاحقاً، استخدام السلطة اللبنانية كأداة لتحقيق ما بقي من الأهداف الأميركية في لبنان، ومن خلاله.
إن ذلك يستدعي بلورة خطة من جانب «المعارضة الوطنية» ذات أبعاد متعدّدة ومتكاملة:
1ــــ الضبط الأمني وعدم الانجرار إلى الاستفزازات، أو حتى أحياناً، عدم القيام بها.
2ــــ التقدّم بوضوح وجرأة في مسار التسوية التي ستكون، بالضرورة، متوازنة تعتمد فيها «المعارضة» مبدأ، «خذ وطالب»، عبر مراحل متدرّجة ومعزّزة بتحسين موازين القوى لمصلحتها بشكل مثابر.
3ــــ صياغة برنامج وطني شامل من شأنه تجميع كل أطراف المعارضة. وهو برنامج يجب أن يكون حاسماً في ثوابته المؤكدة لوحدة لبنان وسيادته وعروبته وديموقراطيته.
لقد آن الأوان لتطوير صيغ المعارضة. وهذه مسألة مصيرية بالنسبة إلى الصراع الدائر في لبنان وفي المنطقة على حدّ سواء.
* كاتب وسياسي لبناني