strong> ناهض حتر *
اعتراف الرئيس الأميركي جورج بوش بـ«يهودية» الدولة الإسرائيلية، ليس مجرّد تصريح غير ملزم لرئيس أميركي ضعيف في سنته الأخيرة. إنّه كما سنلاحظ، «وعد بلفور» جديد يشكّل المنطلق لعملية التأسيس الثاني لإسرائيل. وقد منحه بوش باسم الإجماع الأميركي كحساب ختامي للفاتورة الإسرائيليّة.
ونصّ الوعد هو الآتي: «التحالف الأميركي ـــــ الإسرائيلي يضمن أمن وسلامة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي». ويساوي ذلك، بالنسبة إلى الأميركيّين، إغلاق الملفّ الإسرائيلي في دولة محلّية مصونة في شرق أوسط جديد لم تعد إسرائيل تشكّل فيه مشروعاً استراتيجياً، ولم يعد لها فيه دور يتخطّى حدود فلسطين التاريخية. وهو وضع أخذ بالتشكّل منذ الحرب الأميركية الأولى على العراق عام 1991، حين تبيّن أن الحضور العسكري الأميركي في المنطقة أصبح ضرورة استراتيجية للهيمنة الأميركية، الإقليمية والدولية، بينما اتضح أن إسرائيل ليست سوى مجرّد ثغرة استراتيجية في الترتيبات الأميركية، استخدمها العراقيون للردّ على عدوان فوق طاقتهم، وذلك بقصف إسرائيل وسط ترحيب وتضامن عربيَّين، أتاحا لنظام الرئيس صدّام حسين أن يحافظ على هيبته، وساعداه على التماسك والاستمرار، حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
كشفت الحرب الأميركية الطويلة في العراق أن الحاجة القديمة لإسرائيل، كذراع أمني، لم تعد قائمة. وفي حين ظهّرت الحرب قوّةً إقليمية مؤثرة، وخصوصاً من خلال المواجهة مع إسرائيل، هي إيران، مُنحتْ إسرائيل، صيف عام 2006، فرصة القيام بمهمّة إقليمية فرعية هي تصفية حليف طهران في لبنان، حزب الله، لكنها باءت بالفشل الذريع، وانتهى بذلك دورها الإقليمي، وأصبح عليها أن تتموضع داخل حدود محلية.
لقد أدركت المؤسّسة الإسرائيليّة بعمق هذا الواقع الاستراتيجي الجديد، وبلورت استجابتها له في مطلب سياسي استراتيجي يتمثّل بالاعتراف بها كـ«دولة يهودية». وعلى الخلفية نفسها، وجدت عواصم «الاعتدال العربي» أنّ الفرصة سانحة لإغلاق الملفّ الفلسطيني في تسوية ممكنة مع إسرائيل، كان عنوانها «مبادرة السلام العربية» وما تلاها من تحرّكات.
وقد تشكّل موقف «الحَكم» الأميركي، أخيراً، في عرض يقرن يهوديّة إسرائيل والتسوية الممكنة في صفقة واحدة.
ماذا يعني الاعتراف بـ«يهودية إسرائيل» تحديداً؟
1ـ الالتزام الأميركي المحدّد بشطب حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضي الدولة الإسرائيلية، نهائياً وبلا نقاش أو حلول جزئية.
2ـ منح الإسرائيليّين الضوء الأخضر لتهديد الأساس القانوني لمواطنة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، في إطار المسعى لإنشاء الدولة اليهودية الصافية من النواحي الديموغرافية والسياسية والثقافية. وما يزال هذا المسعى، بالنسبة إلى تل أبيب، في مرحلة الترتيبات الأولى، وقد يتّخذ أشكالاً مختلفة قيد البحث والصراع، منها:
ــ مبادلة أراض مع الدولة الفلسطينية العتيدة للتخلّص من مناطق الكثافة السكانية العربية في إسرائيل، على قاعدة السيادة الإسرائيلية، وبالحدّ الأدنى من الأرض والحدّ الأعلى من السكّان. وهناك مؤشّرات قوية على أن هذه «الفكرة» مطروحة في المفاوضات الثنائية، منها إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أنّه يريد من الإسرائيليّين أن يعطوه «كيلومتراته» بالتمام، في إشارة إلى مساحة أراضي الـ1967 وليس بالضرورة في إطار حدودها.
ــ إنشاء كيان حكم ذاتي وبرلمان وهيئة تنفيذية لفلسطينيي الـ1948 داخل إسرائيل، على أساس إخراجهم من «الدولة» وإخضاعهم للسيادة والترتيبات الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية في الوقت نفسه. ومن المعروف أنه جرت مناقشات بشأن هذه «الفكرة»، بغضّ النظر عن الدوافع والنيات، في صفوف الأوساط السياسية العربية في إسرائيل.
ــ الضغط العنصري المتواصل لإقناع مواطني إسرائيل العرب، بأحد هذين الخيارين أو دفعهم إلى التهميش والهجرة.
هكذا، يكون «سلام» 2008 استكمالاً لحرب 1948: الاستيلاء على جزء آخر من الأرض وطرد قسم آخر من السكان.
وبعد تأمين حدود إسرائيل هذه، سوف تبدأ المفاوضات الماراثونية للبحث في تفاصيل المسار الفلسطيني المتروك الاتفاق بشأنه للفريقين، الإسرائيلي والفلسطيني، وحدهما: تل أبيب تريد اتفاقاً مع الفلسطينيين يشرّع ضمّ القدس (أو معظمها) وضمّ الكتل الاستيطانية وضمان أمن سكّانها بوساطة مناطق أمنية وجدران وطرق التفافية، تأكل نحو نصف الضفة الغربية، وتحوّل الأجزاء «المستقلّة» منها إلى كانتونات غير متّصلة مع بعضها بعضاً، أو مع الخارج (الحدود الأردنية) إلا عبر مناطق سيادة أو أمن إسرائيلية. ولا تحظى تل أبيب، هنا، بالتزام أميركي كامل، ولكن بتفهّم الرئيس بوش ضرورة «إجراء تعديلات على خطوط الهدنة لعام 1948». وهي «تعديلات» تشمل القسم الرئيسي من القدس والكتل الاستيطانية، ولكنها تريد أن يحصل الفلسطينيون على قدر «كاف» من أراضي الصفة لإنشاء كيان «قابل للحياة». وهذا «الغموض» الفعلي في السياسة الأميركية بشأن الحيّز المتاح للكيان الفلسطيني، هو محور الأمل والتفاؤل بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية التي وضعت مئة في المئة من أوراق الحل في يد واشنطن.
وفي ظلّ صورة كهذه، لعلّنا غير مضطرّين لإثبات أن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضي الضفة الغربية ستكون مستحيلة واقعياً، أي من حيث قدرة كانتونات الضفة وغزة على إدامة استيعاب سكّانها الحاليّين، فماذا بالنسبة إلى أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني سيتمتّعون بحقّ العودة إلى «دولتهم» المكوَّنة من أرخبيل من المناطق السكانية المكتظّة والمحرومة من الموارد والإمكانات، والمحاطة ببحر من القيود الأمنية؟ والسؤال يظلّ بالطبع قائماً حتى في حالة حصول الكيان الفلسطيني على أوسع نطاق أرضي ممكن داخل حدود الـ1967.
سوف يضطرّ مزيد من فلسطينيّي الضفة، بالعكس، إلى مغادرتها تحت وطأة الضغوط المتنوّعة الأشكال، يساعدهم في ذلك، على خلاف الغزّاويّين، ما يملكونه من روابط عائلية واقتصادية وقانونية وسياسية مع البلد الجار، الأردن.
ويجد القادة الفلسطينيّون أنفسهم محشورين بين الحلّ الإسرائيلي الذي يتجسّد على الأرض في إجراءات استيطانية وبنى ـــــ تحتية وأمنية، لا يملكون إزاءها شيئاً، وبين الحلّ الأميركي المأمول. وهو يتميّز عن نظيره الإسرائيلي، كمّياً، في نقطتين هما: مدى الانسحابات من الضفة ومدى صلاحيات «السلطة» التي تؤهّلها للحصول على لقب «دولة»، وإنْ مجازاً.
المعارضة الفلسطينية المتمثّلة أساساً في حركة «حماس» وحلفائها، لا تملك هي الأخرى برنامجاً سوى القبول الواقعي بـ«هدنة» طويلة، تسمح بالإبقاء على «استقلال» غزّة مقابل وقف المقاومة.
ثلاث دول عربية سوف تتأثّر، مباشرة، من مآل كهذا للقضية الفلسطينية، هي الأردن ولبنان وسوريا، والتي ستجد نفسها مضطرّة للتعامل مع مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أساس ما حدّده الرئيس بوش صراحة، أي التوطين والتعويض. وإذا كان التوطين حاصلاً على المستوى الواقعي فعلاً، فإنّ المطلوب، أميركياً، هو تحويله إلى واقع سياسي نهائي، على مثال ما هو حاصل بالنسبة إلى القسم الأساسي من اللاجئين في الأردن، ممّن يتمتّعون بالجنسية والمواطنة منذ وقت بعيد. وسيؤدّي ذلك إلى أزمة في لبنان، وحرج في سوريا. لكن أكبر المشكلات، على خلفية التوطين السياسي للاجئين الفلسطينيين، ستكون في الأردن، حيث يشكّل اللاجئون «المتأردنون» فعلاً حوالى 43% من إجمالي الأردنيّين، إضافة إلى حوالى مليون لاجئ ونازح ومهاجر مقيمين في الأردن إقامة دائمة. وإذا ما نجحت واشنطن في أن تفرض على عمّان تجنيس هؤلاء أيضاً، فسنكون إزاء دولة ذات أغلبية فلسطينية وازنة في الأردن، وسيكون من المستحيل تجاهل مطالب تلك الأغلبية في المحاصّة السياسية.
وفي هذا المآل، لن يصمد الاستقرار الأردني العنيد، وسيجد النظام الأردني نفسه أمام خيارين خطرين للغاية، فإمّا أنه يسعى إلى إعادة هيكلة بنيته جذرياً للتواؤم مع واقع المحاصة ومطالبها المدعومة أميركياً (وهو ما يفعله أصحاب القرار في عمان جزئياً وبحذر)، فيواجه خطر انفجار المعارضة الداخلية، وإمّا أنه سيضطرّ إلى المواجهة المستحيلة بالنسبة إليه، ولكن التي لا بدّ منها، مع السياسات الأميركية.
* كاتب وصحافي أردني