ناهض حتر *
ترجع شعبية الدكتور عزمي بشارة، حصرياً، إلى ممارساته النضالية في إسرائيل، كما أن مكانته بوصفه معلّقاً تعود إلى سداد نظراته النقدية فيما يتّصل بالشأن الفلسطيني، حيث يكثر المعلّقون التعساء. لكن هل تكفي هاتان الميزتان لتحصين بشارة بوصفه مفكّراً؟
هذا الخلط في المستويات بين الشعبية النضالية والقيمة النوعية للإبداعات الأدبية والفكرية، أصبح تقليداً عربياً، حيث يمنح المقدّس الفلسطيني للمحظوظين قيمة أسطورية لمساهمات من الدرجة المتوسطة. والأمثلة في مجالات الأدب والفن عديدة.
لكن بشارة يحتل، باسم المقدس الفلسطيني، موقعاً في حقل أخطر من اللعب الأدبي والفني، هو حقل الفكر، أي حقل الصراع الاجتماعي ـــــ السياسي، حيث المعركة جدية للغاية، وتتعلق بمستقبل الشعوب العربية وحركتها التحررية. وهذا يحيل، عملياً، إلى حياة بشر ومعاشهم واجتماعهم وحريتهم وأرواحهم وثقافتهم ووجودهم في العالم والتاريخ.
لذلك، سوف نعتذر عن طرح ثوب القداسة عن مساهمة بشارة الفكرية، ونبدأ من النهاية بالقول إنها تخوض في إشكالية زائفة، أي غير مطروحة تاريخياً، هي إشكالية القومية والديموقراطية. ومن طبيعة الإشكاليات الزائفة أنها تسمح بحلول عديدة، فقهية من حيث المعالجة، وعائمة من حيث النتيجة، وتمنح الخائض فيها فرصة اختيار ما يلائمه، لا ما يفرضه المنطق الداخلي في بحث الإشكاليات التاريخية.
في كتابه الجديد «في المسألة العربية، مقدمة لبيان ديموقراطي عربي»، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في آب 2007، يلاحظ القارئ ولا ريب مقاطع ممتازة من العروض الأكاديمية للإسهامات والسجالات العربية حول إشكالية القومية والديموقراطية. ولن نشير إليها هنا، ليس فقط لأن تقديم عرض لكتاب بشارة مهمة لا تدخل في باب اهتمامنا، ولكن، بالأساس، لأننا نعترض على السياق الذي حشد له بشارة قدراته البحثية. وهو مثلما أسلفنا إشكالية زائفة. لماذا؟
(1) لأن المسألة العربية التاريخية، أي المطروحة بالفعل، ليست مسألة الديموقراطية، بل مسألة التحرر الوطني والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهي مسألة واحدة مترابطة داخلياً، من حيث أن إزاحة السيطرة الاستعمارية بكل أشكالها، هي شرط للتنمية الوطنية. والأخيرة غير ممكنة من دون مشاركة اجتماعية واسعة، متعاضدة، في العملية الاقتصادية. ونلاحظ هنا أن الديموقراطية ليست شرطاً لازماً لحل هذه المسألة. وليس هناك أي مثال تاريخي واقعي بين حل المهمات الوطنية والاجتماعية وبين الديموقراطية.
(2) لأن السيطرة الاستعمارية غير ممكنة من دون وكلاء محليين. وحتى في المثال العراقي، حيث تجثم قوات الاحتلال الأميركي على أرض الرافدين، أثبتت تجربة السنوات الأربع الماضية أن استمرار الاحتلال لم يكن ممكناً من دون القوى المحلية صاحبة المصلحة في إدامته، أو تلك التي، في معسكر المقاومة، لم تستطع، لتخلفها الاجتماعي ــــــ السياسي، أن تكتشف القانون الوطني للصراع.
(3) لأن الأطروحة الديموقراطية هي السياق الأيديولوجي اللازم لخفض مستوى الصراع مع النخب الحاكمة العربية، باتجاه التوافق الوطني المؤسس على بنى الأنظمة القائمة، التي ما هي إلا كمبرادور سياسي واقتصادي وثقافي للسيطرة الاستعمارية. ولا يمكن الخلاص من تلك السيطرة من دون الخلاص من وكلائها ، ما يجعل من الأطروحة الديموقراطية أداة لتزييف وعي الطلائع والناشطين في الحركات الوطنية والتقدمية.
(4) لأنه ليس هناك قوة اجتماعية عربية معنيّة فعلاً بالديموقراطية. فالنخب العربية الحاكمة ومعارضوها يدركون بعمق أن الانتقال إلى صيغة ديموقراطية فعلية يعني، حرفياً، سيطرة الإسلاميين على مقاليد السلطات. وعلى هذه الخلفية نشأ بين الفريقين نوع من التواطؤ العملي، وأحياناً الفكري، على صيغة من خفض حدة الصراع إلى الحد الأدنى، بما يكفل للنخب الحاكمة استفرادها بالسلطة، وللنخب المعارضة وجودها ومكانتها ومصالحها، في نوع فريد من «ديموقراطية» الفوضى والفساد المعمم، كما هي الحال في الأنموذجين العربيين الأكثر استقراراً، أعني مصر والأردن.
(5) لأن الإسلاميين ــــــ وهم القوة الوحيدة التي يمكنها الاستفادة من الانتقال الديموقراطي ــــــ لا ينوون أبداً تعضيد أي صيغة ديموقراطية. وليس هنا موضع اهتمامنا، بل موضعه أن الإسلاميين يؤمنون بالليبرالية الاقتصادية والخصخصة وحرية التجارة، ما يجعل منهم، شاؤوا أم أبوا، أدوات للسيطرة الاستعمارية. إضافة إلى أنهم يفتقرون إلى التكوين التنموي أو النزعة الحضارية، فإن سيطرتهم تحمل معها فيروساً كارثياً هو فيروس الطائفية والمذهبية وتفجير شتى الانقسامات الزائفة. والمثالان اللبناني والعراقي، ماثلان أمامنا، يجسدان الديموقراطية الممكنة في العالم العربي الآن، من حيث هي ديموقراطية الطوائف والنزاع الديني والمذهبي والإثني.
(6) وتقودنا النقطة الأخيرة إلى اكتشاف زيف المسألة العربية، كما يطرحها بشارة والقوميون، بوصفها إشكالية وحدة البلدان العربية، بينما هي في الواقع التاريخي العياني، إشكالية التوحيد، أعني إشكالية توحيد المجتمعات العربية الممزقة داخلياً على أسس دينية وطائفية ومذهبية واثنية وقبائلية وثقافية ومحلية وجهوية. وكان اكتشاف الحزب المحمدي لهذه الإشكالية، في القرن السابع الميلادي، وتقديم حل توحيدي ناجع لها، يتناسب مع اللحظة التاريخية المرافقة، أي هو أساس وحدة ونهضة العرب في التاريخ. ونحن اليوم أمام مهمة مشابهة لا تستعيد الحل نفسه، لكن تستعيد اكتشاف الإشكالية العربية الفعلية، أي إشكالية التوحيد. ومن أجل تأطير هذه الإشكالية في اللحظة التاريخية الحاضرة نشير إلى أنه لم يعد الإرهاب الفكري للتماهي بين المكوّن المصري ــــــ السني وبين العروبة، مقبولاً. والمهمة المطروحة على هذا المستوى، هي مهمة اكتشاف القانون التاريخي لتوحيدية عروبية جديدة، تعترف بـ ــــــ وتتجاوز ــــــ المكوّنات الأخرى للعروبة، بما فيها المكوّن الشيعي والمسيحي إلخ.. من جهة، والمكوّن العراقي والسوري والأردني إلخ.. من جهة أخرى.
هذه أضواء تكشف بعض، وليس كل جوانب زيف الإشكالية التي يدور بشارة في فلكها، ويقدم في ختام مساهمته لمناقشتها، حلاً توفيقياً من الطراز الآتي: نضال ديموقراطي على مستوى الأقطار يسترشد بالأفق القومي، ونضال قومي يسترشد بالديموقراطية!! أي، بكلمة أخرى، إصلاح نظام السيطرة الاستعمارية والكمبرادورية القائم، والتخفيف من ثقله، بواسطة مزيج معتدل من «الديموقراطية» و«التضامن». وهذه الخلاصة لا تحتاج إلى كتاب، بل يكفيها تعليق عابر على فضائية «الجزيرة».
* كاتب أردني