نزار صاغيّة *
في تموز 2007، وبناءً على طلب وزارة الداخلية، حرّرت هيئة التّشريع والاستشارات في وزارة العدل استشارة ارتأت فيها وجوب قبول الطلبات التي قدّمها مواطنون بهدف شطب القيد الطائفيّ من سجلّاتهم في دائرة النفوس. وإذا خالف هذا الرأي مطالعة وزارة الداخلية في هذا الخصوص ووضعها أمام استحقاق قانونيّ مهمّ، فإنّه من اللافت أنّ هذا الرأي بقي طيّ الكتمان كأنّه لم يكن! وما يريده هذا المقال هو استعراض المواقف المتباينة بهذا الشأن وما تعكسه من خلفيات او بأقل تقدير مستويات وعي، وصولاً إلى تقدير أبعادها الاجتماعية.
أ- طلب شطب القيد الطائفي:
فعلى صعيد الطلب ـ وقد حرّره طلال الحسيني وقدّمه عدد من الأشخاص من خلفيات مختلفة في أواسط نيسان 2007 احتفاءً بالذكرى 32 لبدء الحرب الأهلية ـ نسجّل أنّه امتاز عمّا سبقه من طلبات مماثلة (مثلاً: دعوى الشقيفي أمام المحاكم العدلية ودعوى بول الأشقر أمام مجلس شورى الدولة) بأنّه بني على تفسير خاصّ لحريّة المعتقد مفاده أنها تولي الفرد، سواءٌ اعتقد و/أو انتسب الى دين أو لم يفعل، حقّ التّصريح أو عدم التّصريح عن ذلك وأنّ تصنيفه إذاً بشكل تلقائي ودون مراجعته (بسبب الولادة أو عند تغيير الوالد دينه)، في خانة طائفيّة، هو بمثابة مصادرة لحريته! وبالطبع لهذا التفسير نتيجتان أساسيّتان مفادهما أن الرابطة الدينيّة كما التصريح عن هذه الرابطة (في حال وجودها) هي خيارات فردية وليست لا إلزامية و لا وراثية ولا تلقائية. وانطلاقاً من ذلك، فإنّ تقديم الطلب لا يعني بالضرورة خروج صاحبه عن الأديان المعترَف بها إنّما فقط أنّه لا يرغب بإعلام الدولة بمعتقده، مما يسمح للمواطن بالتقدّم به، أياً كان معتقده حتى ولو كان مؤمناً، مع التقليل قدر الإمكان مما قد يولده طلب مماثل من حساسيات اجتماعية.
ودعماً لهذا الطلب، أورد مقدّموه مبرّرات قانونية عدّة: فمن جهة أولى، استعرضوا النّصوص المكرّسة لهذه الحرية أي حريّة المعتقد (الدّستور والمواثيق الدّولية) مع إشارة خاصّة الى الدّستور الإسبانيّ الذي عرّف صراحة هذه الحريّة على أنّها تشمل حرية التصريح أو عدم التصريح عن المعتقد، ولكن أيضاً الاتفاقيّة الخاصّة بحقوق الطفل لجهة التزام الدول حقّ الطفل في حريّة الفكر والوجدان والدين، ما يمنع تصنيفه تلقائياً في خانة دينيّة بسبب ولادته أو نسبه.
ومن جهة ثانية، أوردوا مبرّرات أخرى استباقاً لردود الفعل السيّاسية والاجتماعيّة، مفادها أنه يتوافق مع توجهات الدّستور (المادة 95 والفقرة (ح) من مقدمة الدستور) سواء لجهة مراعاة الطائفية أو العمل على تجاوزها. فعلى فرض أن العدل «يتطلّب ـ مرحلياً واستثنائياً ـ تفرقة المواطنين على أساس طائفي»، فلا يجوز تحقيقاً لذلك أن يُكرَه المواطنون في أديانهم ومعتقداتهم على أمور لا يريدونها، ولا سيما أنّ تحقيق العدل يتمّ «بحماية حقوق المواطنين كافة بدلاً من جعل إهمالهم ذريعة لمزيد من انتهاك الحريات». والإدلاء بهذه الحجّة هو عمليّاً تطبيق لمبدأ قانونيّ معروف هو مبدأ التّناسب الذي يفرض الموازنة بين المنافع المُراد تحقيقها والحقوق التي يُضحَّى بها لهذه الغاية، بحيث يمنع التعرّض لهذه الحقوق اذا كان الحقّ المضحَّى به أكثر أهمية من المنافع المرجوّة، أو اذا كان من الجائز تحقيق الهدف المذكور بتضحيات أقلّ كلفة.
وإلى ذلك، أضافوا مبرراً آخر مفاده أن الدستور يفرض على الدولة تسهيل تجاوز الطائفية لا تكريسها، ما يوجب الامتناع عن قيد المواطنين في خانات الطّوائف بمعزل عن إراداتهم، مع الإشارة الى أن تقديم الطلب في ذكرى بدء الحرب إنما يوحي أن شطب القيد الطائفي يسهم بحدّ ذاته في تعزيز المواطنة وتخفيف حدّة الانقسام الطائفي ومعها أسباب المنازعة مستقبلاً.
ب- موقف مديريّة الأحوال الشخصية في وزارة الداخليّة:
هنا، بدا موقف وزارة الداخلية مناقضاً تماماً لطالبي شطب القيد. فبعدما بيّنت المديرية أنها تتلقّى للمرة الأولى طلبات مماثلة، عمدت الى توضيح موقفها الذي جاز تلخيصه في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى وهي تتّصل في المنطلقات التي سعت الداخليّة إلى إبرازها على طول صفحات المطالعة، ومفادها أن المعايير المكوّنة لقرارها مستمدّة من حياديّتها وامتهانها الإداريَّين وتحديداً من حرصها على حسن تنظيم سجلات الأحوال الشخصية، بمعزل عن أي موقف ايديولوجي أو مبدئيّ. فإذا تجاهلت المطالعة حريّة المعتقد والنصوص التي تكرّسها، فهي أيضاً خلت من أيّ انحياز قيميّ الى الطوائف الدّينيّة التقليديّة، فيما عمدت بالمقابل الى تقويم الطّلب من حيث مدى توافقه مع القواعد الحسنى المعمول بها لتنظيم السّجلّات وتحديداً فيما قد يسبّبه قبوله من فوضى أو تباطؤ في تدوين القيود وأيضاً براغماتياً من حيث مفاعيله على صعيد التمتّع بالحقوق المدنية.
أمّا النقطة الثانية، فهي تتّصل بالمضمون (وهي أكثر خطورة) ومفادها أنّ نظام سجلات الأحوال الشخصية قائم على القاعدة الطائفية، أي على حتمية نسبة الفرد إلى «طائفة» معترَف بها قانوناً، كجزء لا يتجزّأ من هويته الوطنية، ولا سيما أنّ الانتماء إلى طائفة هو شرط قانوني للتمتّع بحقوق عدّة في ظلّ غياب قانون مدني موحَّد للأحوال الشخصية. وتالياً، لا مشكلة إذا رغب البعض التحرّر من القيد الدينيّ من الناحية الأخلاقية، المشكلة هي أنّ خروجهم مستحيل بما أنّه لا مكان لفرد خارج طائفة وأن المشرّع لم يقرّ حتى تاريخه «طائفة غير المنتمين الى طائفة معينة»، ما يعكس رؤية معينة لدى الإدارة مفادها أنّه ليس بمستطاعها حتى تصوّر حالة كتلك (أي تصوّر فرد خارج سرب) في ظل النظام الحاضر. وبنتيجة هذه المسلّمة، يفترض كتحصيل حاصل أن يصار الى قيد الأولاد القاصرين على خانة آبائهم (المادة 12 من القرار الرقم 60 ل.ر) والى إبقاء اللبنانيين كافة مسجّلين في خانة الطوائف التقليديّة الحاضرة. فإذا جاز لهم التحرّر من إحداها، فلكي يسجَّلوا في خانة أخرى، وذلك على نقيض مجمل المبادئ والحقوق والحريات المبيّنة في الطلب. لا بل إنّ هاجس تأطير الفرد ذهب إلى حدّ التلميح الى وجوب تقديم شهادة من رئيس الطائفة الجديدة، أي رئيس طائفة من لا طائفة لهم، لقبول طلب الخروج من طائفة.
وختاماً، وتبعاً لذلك، بدت وزارة الداخلية، بما أظهرته من حيادية وعملانية وتمسك بالأصول المعمول بها، كأنها باتت في موقع يسمح لها بالتهكّم من أصحاب الطلب الذين يبدون هم مقارنة بها بمثابة مراهقين.
وهذا ما نقرأه في المطالعة حرفيّاً حيث خلصت إلى عدّ الطّلب بمثابة «تعبير عن مصالح أصحابه وأهوائهم»، ما يعكس هنا أيضاً ازدراءً وتهميشاً للإشكاليات المتّصلة بحريّة المعتقد باسم العقلانيّة وحسن إدارة السجلات.
ج- استشارة «هيئة التشريع والاستشارات»:
إزاء تناقض المواقف المبيّنة أعلاه، أصدرت هيئة التشريع والاستشارات رأياً وسطيّاً، أقلّه في ظاهره. فإذ أكّدت تأييداً للطلب أنّ حرية إقامة الشعائر الدينية تعني أنّ للفرد حرية الإعراب عن هذا الدين منفرداً او مع آخرين، بشكل علني أو غير علني، وتالياً أن له حقّ الانتماء أو اللاانتماء الى طائفة والتّصريح أو اللاتصريح عن خياره بهذا الشأن، فإنّها بالمقابل أيّدت مطالعة الإدارة لجهة نسبة الطفل تلقائياً الى طائفة آبائه، علماً أنّ هذا الموقف جاء عرضاً ودون أيّ تعليل بشأن مدى تعارض هذا الأمر مع اتفاقيّة حقوق الطفل. وكأنها بذلك تفتح باباً أمام إرادة الفرد للتحرّر من القيد الطائفيّ دون أي شرط إضافي مع تكريس قاعدة التّسجيل تلقائياً بسبب الولادة التي تبقى هي الأصل.
وإلى جانب ذلك، عبّرت الهيئة عن موقف ثالث لا يقلّ أهميّة من حيث أبعاده وذلك في سياق مناقشة النتائج المترتّبة على شطب القيد، وخصوصاً لجهة التمتّع بالحقوق المتّصلة بالانتماء الطائفيّ. فبعدما وضعت أن المبدأ هو وجوب عدم التمييز بين المواطنين على أساس معتقداتهم، رأت أن شطب القيد هو فقط بمواجهة «قيصر» (أي الدولة) بمعنى أنه يحتمل أن يكون صاحب العلاقة، قد بقي (ليس فقط مؤمناً بمعتقد معين)، إنما منتمياً الى طائفته دون التصريح بذلك. وتبعاً لهذا المنطق، فإن شطب القيد الطائفي من سجلات الدولة يرتّب أمراً من أمرين:
إمّا أنّ الفرد ترك «حقيقة» طائفته، وفي هذه الحالة، يتحمّل مسؤولية حرمانه حقوق محفوظة للمنتمين الى طوائف دون أن يمثّل هذا الحرمان سبباً لحرمانه حرية المعتقد. وإمّا أنّه يكون قد حافظ على روابط مع طائفته رغم شطب قيده لدى «قيصر» (الدولة). وفي هذه الحالة، يكون له في أي وقت إبراز ما يثبت انتماءه الطائفي، لاستعادة حقوقه. والواقع أن هذا الرأي الذي ينبع، على الأرجح، من إرادة الحدّ من أضرار الشّطب اجتماعياً، يحجّم بالواقع مدى الحرية التي يدعو الى تكريسها. فإذا عنت حرية المعتقد من هذه الزاوية حريتَي الانتماء أو اللاانتماء والتصريح واللاتصريح، فإنّها بالمقابل لا تسمح للفرد بالتحرّر من النتائج الاجتماعية التي تنشأ حكماً عن معتقده «الحقيقي» بما أنّ «معتقده» يبقى واقعة من الجائز إثباتها بالوسائل كافة في أيّ حين، ليس فقط من جانبه بل أيضاً من جانب كل ذي مصلحة وربما في مواجهته أو حتى ما بعد وفاته.
وتالياً، قد يسهم رأيها في منع الدولة من تصنيف النّاس في سجلّاتها رغماً عنهم لكنها في المقابل تبقي الباب مفتوحاً أمام إمكان تصنيفهم ولو رغماً عن إرادتهم قضائياً في سياق تحديد حقوقهم أو حقوق ذويهم (كما قد يحصل عند المنازعة في قضايا إرثية سواءٌ كان المشطوب قيده وارثاً أو مورّثاً). ومن البديهي أن يؤدي هذا الأمر الى نتائج معاكسة لحرية المعتقد، ما دام إثبات معتقد فرد ما يفترض عموماً تقويم أفكاره وأقواله ونواياه لاستخلاص مدلولاتها الدينية، ما قد يسوّغ تدخّلاً سافراً بجزء مهمّ من خصوصيّاته. لا بل قد يصل الأمر الى حدّ المنازعة بشأن ماهية المعتقد الديني بما يشبه مجريات دعوى الحسبة الآيلة الى فصل نصر حامد أبو زيد عن زوجته، كأن نتساءل: هل من الجائز عدّ المشطوب قيده مسلماً اذا احتسى الخمر أو سبّ أحد الأنبياء، أو مسيحياً اذا استعمل الحاجز الذكري؟ بل ألا يخشى أن يؤدّي كلّ ذلك الى تعزيز صلاحيات الطوائف التي قد يصبح لها سجلات للمنتسبين اليها موازية لسجلات الدولة وربما متناقضة فيما بينها كأن يقيم فرد صلة بطائفتين؟
وهكذا، وإذ أقرّت الهيئة بحقّ الفرد بالتحرر من الطوائف، بدت كأنها تحفظ في الآن نفسه لهذه الطوائف حقّ استعادة مشطوبي القيد بواسطة المصالح المرتبطة بها ولو رغما عنهم، ما قد يسمح بالنتيجة بترويض الحرية في موازاة الاعتراف بها. ومن البديهي تالياً القول إن الاستشارة (وهي بالطبع ريادية لجهة الاعتراف بأحقية الطلب) هي أقرب الى خطوة أولى (فيها قسط كبير من التخبّط) في اتجاه تجاوز عادات اجتماعية راسخة منه الى تعبير عن رأي حقوقي متماسك بشأن حرية المعتقد.
بل قد تكون الاستشارة، من هذه الزاوية، مجرّد اختبار للحرية، فهل لأجنحتها قوة كافية بحيث يفرض الفرد «الطائر» خطوات صاعدة في الاتجاه نفسه أم أن أجنحتها من شمع فتستعيد دهاليز الطوائف أولادها كلما هفّت الشمس؟ لمن قدّم الطلب، وبشكل أعم لكلّ من يودّ التحرر من الطوائف أيا كان معتقده، أن يجيب. أحدهم داعى الداخلية أمام مجلس شورى الدولة لإقرار حقه. فلنرتقب الحكم!
* محامٍ وكاتب لبناني