فرج الله محفوظ *
رغم مرور ما يدنو من ثلث قرن على قيام الثورة الإسلامية في إيران، لا تنفك الأسئلة ترافق الحدث التاريخي وتجعله حاضراً في زحام التحوّلات العالمية.
لعل من أبرز هذه الأسئلة تلك التي تتركز غالباً على كيفيات الموازنة بين منطقي الثورة والدولة في إطار ما يسميه المشتغلون في الفكر السياسي الاستراتيجي “القيامة النهضوية للأمة الإيرانية”.
هناك على ما يبيّن المهتمون باللحظة الإيرانية الراهنة، مسألة لا تنفك تؤلف على الأرجح، دائرة نقاش جدية حول ثقافة الثورة وثقافة الدولة، ومدى ترابطهما وإنتاجهما المتبادل هي:
ــ مسألة تطور الحياة السياسية والنظام السياسي في ظل الفكر الديني الإسلامي الذي أرسى أسسه الكلية الإمام الخميني.
ــ ومسألة تطور المجتمع والدولة على الصعد: الاقتصادية والتنموية والاجتماعية.
على أن الشيء الذي أظهرته التحولات المجتمعية في إيران سحابة ثلاثة عقود، هو الارتباط والتواصل بين ثقافة الثورة وعملية بناء الدولة، وبالتالي تمكن القيادة السياسية في إطار نظام ولاية الفقيه من إيجاد التكامل بينهما. وتلك نقطة مهمة ينتقل عبرها الانشغال الفكري من الكلام على التناقض بين منطق الثورة وضرورات بناء المجتمع والدولة، الى طور جديد يجعل النقاش حوله منصباً على مدى الانسجام والتواصل، والتكامل بين ثقافتي الثورة والدولة.
في المسألة الأولى، أي تلك المتصلة بتطور النظام السياسي، فقد بدا أن الرؤية الثورية المؤسّسة للدولة استطاعت إنتاج تقاليد راسخة لتنظيم الحياة السياسية على قاعدة تداول السلطة.
ليس بالضرورة أن تكون القاعدة المنتجة، المتعلقة بتداول السلطة وفقاً للديموقراطية الانتخابية هي نفسها التي أنتجها غرب الحداثة في القرن الثامن عشر. لكنها تعود إلى خاصية إسلامية إيرانية لا يمكن النظر اليها إلا في إطار التجربة الخاصة بإيران.
من هذا الجانب، يبدو توصيف النظام الإيراني معقّداً. إذ لا نجد مصطلحاً يستوعب جوانبه كافة، فإذا كان البعض قد استحسن تسميته الديموقراطية الدينية أو الثيوديموقراطية، أو أي مصطلح مركب آخر يجاري تركيب النظام الإسلامي المعاصر، فإن هناك خللاً في هذا الاستحسان. فبالنسبة إلى المصطلح الأول لا يمكن اعتبار ما حصل في إيران على صعيدي التشريع طوال هذه التجربة مستنداً إلى الديموقراطية في معناها الغربي، بل يمكن القول إنه يستند إلى الدين في شكل أساسي وهو بالتالي يزخر بالفكر السياسي الإسلامي بكليته. وبهذا المعنى فإنه يوفق بين النقاط المبدئية في هذا الفكر، والآليات الشكلية التي أتت بها الديموقراطية الوضعية. صحيح أن الحكم للشعب، غير أن الكتلة الرئيسية في التشريع، من أحكام وقوانين، تظل ثابتة غير قابلة للتبديل بسبب من مضمونها الوحياني، ويبقى للشعب خيارات واسعة ضمن ما أفردته الشريعة في خانة المباحات. فيظل مصطلح الديموقراطية منتمياً إلى الفلسفة الوضعية، ولذلك يصعب استخدامه في توصيف نظام حكم له خصوصياته الكبرى والصغرى في هذا الإطار.
المصطلح الآخر الذي يجري تسويقه لرسم صورة وصفية للنظام في إيران هو الثيوديموقراطية، وهو يزيد إلى الإشكالية الآنفة الذكر خللاً آخر يتعلق باستخدام مصطلح اعتمد لتوصيف حالات معينة من تاريخ الأنظمة السياسية في الغرب المسيحي، تلك الحقبة التي سيطر فيها رجال الدين على الحياة السياسية من خلال حق التشريع المطلق الذي امتلكوه، وكذلك في ظل خلاء الشريعة المسيحية من أطر تقنين الحياة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يتناقض وطبيعة الرسالة الإسلامية، حيث جاء النبي الخاتم (ص) برسالة شاملة لكل أبعاد الحياة، والنظام الإسلامي في إيران ليس فيه رجال دين، بل علماء وظيفتهم التفقُّه في الرسالة الإسلامية، واستنباط الأحكام الإسلامية من خلال الكتاب والسنّة.
في الساحة الثقافية الإيرانية اليوم، أنتج سؤال ما بعد الحداثة نقاشاً واسعاً حول ما يسميه المفكرون “الديموقراطية الدينية”. ومنهم من ذهب إلى التساؤل عن الكيفية التي استطاع النظام الإيراني الإسلامي من خلالها، التأثير في منطق النظام الدولي الآحادي، ووضع التحدّيات أمام الفلسفة الغربية ونموذجها المهيمن في هذا المجال...
هناك من هؤلاء من يلاحظ أن أطروحة “الديموقراطية الدينية”، أو ما يصطلح عليها بـ“الديموقراطية الإسلامية” وقضية التوفيق بين “الجمهورية” و“الإسلامية” شكّلتا معاً مشروعاً واحداً وساهمتا في خلط الأوراق ضمن دائرة التصنيف التقليدي المتّبع في عالم الفلسفة السياسية.
لكن الجانب المهم في الفلسفة السياسية المعاصرة للمشروع الإسلامي الحديث الذي طرحه الإمام الخميني، هو تفكيك مفهوم المشروعية من خلال تقسيم حق الحاكمية إلى قسمين: مساو وغير مساو بين الله والشعب. وبعبارة أخرى الحيلولة دون وضع مفهومي “الجمهورية” و”الإسلامية” في موازاة بعضهما، حتى لا يتم اللجوء بعد ذلك إلى عقد نوع من المصالحة الاضطرارية والبراغماتية أو الواقعية بينهما، بل ينبغي اعتبار أن حق الشعب هو فرع منبثق عن حق الله، وأن الجمهورية قالب وإطار لإعمال حاكمية الله وتنجيزها، يجري ذلك ضمن سياق لا يمكن معه تفريغ مفهومي الجمهورية والديموقراطية من مضامينهما وأهدافهما الإسلامية، أو فصلهما عن المشروعية الدينية، وحتى لا يصار بعد ذلك إلى تصوير الأمر وكأن ثمة مواجهة بين هذين المفهومين وبين الدين.
إذا وضعنا حاكمية الشعب في ترتيب عمودي بعد حاكمية الله، ففي هذه الحالة سنقف على مزايا الديموقراطية والثيوقراطية في آن معاً. وسيتيسّر الكشف حينذاك عن نقاط الضعف في هذين النموذجين التقليديّين للغرب، لنقوم في نهاية المطاف بتداركها وتجنّبها، من دون أن نستدرج إلى خلق تركيب اصطناعي هجين من الديموقراطية والثيوقراطية. إن الديموقراطية الإسلامية تنطوي على المزايا الإيجابية التي تحملها الديموقراطية من دون أن تبتلى بالأمراض التي ابتليت بها الديموقراطية الغربية، وهذه المزايا هي: حقّ الانتخاب للشعب والرقابة على الحكام والأخذ بنظر الاعتبار رضى العامة والقبول بمبدأ الانتقال السلمي غير العنيف للسلطة.
ثمة في الغرب اليوم من يخالف ما يذهب إليه التوظيف الأيديولوجي الذي يحكم على الإسلام السياسي بأصنافه المختلفة “الأصولي، والسلفي، والاعتدالي”، بأنه إسلام معاد للحداثة والعصر والمستقبل.
وحين يجري النقاش داخل مراكز الأبحاث المستقبليات في أميركا وأوروبا، غالباً ما يقال إنه لا يجوز فهم الأشكال الراهنة للأصولية الإسلامية على أنها نوع من العودة إلى صيغ وقيم اجتماعية غابرة، حتى من منظور الممارسين، أي من الأصوليين أنفسهم، ولا يتأخر نقَّاد كُثُر من العاملين في حقل إنتاج الأفكار في الغرب عن نقد وسائل الإعلام التي تخطئ حين تجعل من عبارة “الأصولية” مادة تختزل مختلف التشكيلات الاجتماعية المنضوية تحت ذلك الإسم، وتشير حصراً إلى الأصولية الإسلامية، التي يجري اختزال تعقيدها، هي الأخرى إلى تعصب ديني إرهابي متشدد لا يعرف معنى التسامح. لكن المسألة لا تتوقف عند وسائل الإعلام التي هي أداة تعبير لسلطة القرار الأيديولوجي والاستراتيجي في الغرب. فهذه السلطة تواصل إنتاج وصناعة مناخات ثقافية ترى إلى كل ظاهرة إسلامية ممانعة أياً كانت خلفياتها وممارستها ومواقعها بوصفها تجسيداً لمعاداة الحداثة، وبوصفها قوى تسعى إلى قلب مسار عملية التحديث الاجتماعي رأساً على عقب. في مقابل هذا التوصيف السلبي، ثمة من النخب في الغرب من يرى إلى الصورة بطريقة مغايرة. وتبلغ هذه الرؤية مستوى من الموضوعية والاعتدال، بحيث نجد أنه من غير الممكن أن يتم فهم مشروع الأصوليات، بوصفه مشروعاً ينتمي إلى ما قبل الحداثة، بل باعتباره مشروعاً عائداً لما بعد الحداثة. ويلاحظ أصحاب هذه الرؤية أنه لا بد من رؤية “ما بعد حداثية الأصولية” بالدرجة الأولى من خلال رفضها للحداثة في كونها سلاحاً ضد الهيمنة الغربية. ففي سياق التقاليد الإسلامية تعتبر الأصولية حالة “ما بعد حداثية” بمقدار ما ترفض تراث الحداثة الإسلامية الذي كانت الحداثة بالنسبة إليه ذوباناً مبالغاً به في البوتقة اليورو ـ أميركية أو خضوعاً كاملاً لها.
بل إن ثمة من يقول كلاماً تبدو معادلته مثيرة للإشكال والتأمل حين يقرر، أنه إذا كانت الحداثة تعني السعي لاكتساب تعليم الغرب وتكنولوجيته في خلال الاندفاعة الأولى من مرحلة ما بعد الكولونيالية “الاستعمار التقليدي” فإن من شأن ما بعد الحداثة أن يعني عودة إلى القيم الإسلامية التقليدية ورفضاً للحداثة.
وهكذا فمن المؤكد أن شرائح قوية من المسلمين كانت “معادية للغرب” بمعنى من المعاني منذ بدايات الاستعمار، غير أن ما هو جديد في صحوة الأصولية الراهنة ليس في الحقيقة إلا رفض القوى المنبثقة في ظل النظام الأمبراطوري الجديد. ونستطيع تبعاً لهذا المنظور، أن نعتبر الثورة الإيرانية ـ كما يقول ناقدو ليبرالية ما بعد الحداثة ـ ثورة دينية أصولية بمقدار ما تشكل أولى ثورات ما بعد الحداثة.
النخب الإيرانية على مختلف اجتهاداتها الفكرية والأيديولوجية والسياسية تدرك أن العالم اليورو أميركي يتعامل مع المنجز النووي لبلادهم بوصف كونه مضارعاً حضارياً بامتياز. لذا ينطلق هذا العالم إلى ما يتعدى الإطار التقليدي في أسلوب مواجهة دولة ذات طموح سيادي من دول العالم الثالث. إنه ينطلق من ثابتة استراتيجية تسعى لإحباط أي احتمال حضاري قد يعيد قلب وتبديل صورة التقسيم الحضاري العالمي، الذي أرست الحداثة الغربية الاستعمارية قواعده منذ أواخر القرن التاسع عشر.
وفي المجال النووي على وجه خاص، يدرك الغرب مثلما تدرك إيران أن تطور هذا النوع من التكنولوجيا، وتمركزها في المجال الغربي أدى إلى تقييد سيادة أكثرية بلدان العالم. بمقدار ما أفضى إلى حرمانها من اتخاذ قرارات الحرب والسلم. وهي عناصر التحديد الكلاسيكي لمعنى السيادة، أضف إلى ذلك، أن وضعية التهديد النهائي المتمثل بالقنبلة التي امتلكتها أمبراطوريات الغرب أدت إلى اختزال جميع الحروب وحوّلتها إلى منازعات محدودة ومضبوطة بإحكام، تبعاً لمصالحها، وكذلك إلى حروب أهلية وعرقية مفتوحة.
ليس من شك أن السؤال الإيراني اليوم هو سؤال عالمي بامتياز. ليس في المجال النووي فحسب، وإنما أيضاً وأساساً في المجال الحضاري الأوسع والأشمل. وبهذا المعنى يمكن القول إن البعد الاستراتيجي الديني لثورة الإمام الخميني قبل ثلث قرن، يمكن رؤيته من خلال التبديل الإجمالي لمفاهيم التغيير الثوري وبناء الدولة/ الأمة في نهاية القرن العشرين بما لها من امتدادات عميقة على تحولات القرن الجاري...
* كاتب وأستاذ جامعي