فيليب جيلي *
منذ أن تشدّد جورج بوش في لهجته تجاه إيران في العاشر من كانون الثاني المنصرم، لا يمرّ يوم في واشنطن من دون أن ينفي المتحدّثون الرسميون باسم الإدارة الأميركية، وجود أي نية «حربية» في مكاتب «البيت الأبيض» تجاه إدارة أحمدي نجاد. طوني سنو، أحد هؤلاء، كان أوّل من باشر حملة نفي ما يدور عن تلك المخططات: «لسنا في صدد التحضير لاجتياح إيران»، قالها جازماً في 16 كانون الثاني. أمّا ما ينقص في كلام سنو، فأكملته مساعدته دانا بيرينو عندما صرّحت بما مفاده: «لا أفهم لماذا لا ينفكّ البعض ينفخ في الرماد ما دام الجمر غير موجود تحتها! لقد سبق أن أكّدنا نيّاتنا إيقاف التدخّلات الإيرانية في العراق التي تتسبّب بالأذى لقواتنا هناك. في هذا الموضوع لا أرى أيّ استفزاز سوى من الإيرانيّين». على العكس مما قد تبدو عليه الأمور، وفي ضوء آخر التطورات والمواقف الأميركية الرسمية، تغذّي مثل تلك التصريحات كل التوقعات الحربية أكثر ممّا تضع حدّاً لها: لقد أكّدت هذه الأخيرة أنّ عبوات ناسفة إيرانية المصدر، تسبّبت بمقتل عشرات الجنود الأميركيّين في العراق. يُوجّه الاتّهام المباشر لـ«قوات القدس» بتمرين الميليشيات الشيعية و«فرق الموت» في العراق وتسليحها. لا يتوقف الأمر هنا، بل تمتدّ تلك الاتهامات لتعتبر أنّ الديبلوماسيين الإيرانيين الخمسة الذين اعتُقلوا أخيراً في إقليم كردستان، هم حقيقةً عملاء مندسّون في الإقليم. لقد اختصرت تصريحات وزير الدفاع الأميركي الجديد روبيرت غيتس خلال جولته الخليجية الأخيرة، مجموعة المواقف الرسمية تجاه إيران: «لقد ذهب الإيرانيّون بعيداً جدّاً في تجاوزاتهم، بالتالي علينا إيجاد وسائل الضغط المناسبة قبل التفاوض معهم». وردت تلك المواقف في البحرين على لسان غيتس، ذاك الذي كان عند تعيينه في منصبه في كانون الأوّل الماضي، مناصراً لفتح حوار مباشر مع طهران، ما يعتبر انعطافة جذرية في استراتيجية خليفة دونالد رامسفيلد.
هذا من حيث المواقف والتصريحات، ولأنه على الأفعال أن تتمّم الأقوال، أُقرّت زيادة العديد والعتاد العسكريين في العراق، وتمويل التيارات «المعتدلة» في كل من لبنان وفلسطين لمواجهة حزب الله وحماس، ونشر بطاريات صواريخ باتريوت في الدول العربية الحليفة لواشنطن، وأخيراً أُرسل فيلق بحريّ قتاليّ ثانٍ الى الخليج الفارسي... تعتبر تلك الإجراءات أكثر بكثير ممّا تحتاج إليه المهمّة الرسمية المصرَّح عنها، ألا وهي القضاء على الميليشيات المدعومة من إيران في العراق! حتّى إنّ الكومودور البريطاني كيث ويستانلي، القائد الثاني للأسطول البحري للقوات الحليفة، اعترف بأنّه «متأكّد من وجود رسالة موجّهة لإيران من كل تلك الإجراءات». وعن نوعية «الرسالة» التي يتحدّث عنها الضابط البحري البريطاني، يضع مراقب أميركي للشؤون العراقية، ثلاثة احتمالات: «إمّا أن تكون الإدارة الأميركية قد التزمت فرض استراتيجية عدائية لـ«احتواء» إيران، وإما أنها قد دخلت في نفق مظلم وضلّت درب الخروج منه، والاحتمال الثالث أنها قرّرت شنّ حرب جديدة». أمّا جيمس دوبينز، مدير مركز السياسة الدولية في مؤسسة «راند»، فيعتبر أنّه ليس من الضروري أن نختار احتمالاً من بين الخيارات الثلاثة المقتَرحة، فبرأيه أنّ «خليطاً يجمع الأفكار الثلاث معاً، قد يفسّر التصرفات الأميركية العشوائية».
تبحث واشنطن ــ من طريق رفع منسوب التهديد ــ عن وسيلة لتذكير الإيرانيين بميزان القوى الاقليمي والدولي، وتأتي تتمّة تصريحات غيتس من المنامة لتؤكّد ما نعتقده: «قبل أن يفهم الإيرانيون أنّ الولايات المتحدة هي عدو عليهم تجنّبه، لن يكون هناك جدوى كبيرة من التفاوض معهم». قد يكون هذا التكتيك وسيلة فضلى لتمهيد الطريق أمام الديبلوماسية، لكنّه ينذر أيضاً بمخاطر الانزلاق في حفرة الحرب. لقد نفى البنتاغون أخيراً «شائعة» إطلاق صاروخ إيراني على بارجة أميركية كانت متمركزة في الخليج. في هذا الإطار، يحذّر دوبينز من خطر تمدّد النزاع الى دول المنطقة، مبدياً ثقته الكاملة بأنّ «هجوماً أميركياً مباغتاً على إيران، لن يحصل كردّ فعل غير مدروس».
مع إرسال حاملة الطائرات الأميركية «جون س. ستانيس» محمّلة بطاقمها القتالي الى الخليج، لتنضم الى الحاملة الأخرى «دوايت أ. أيزنهاور»، أصبح عند الأميركيين قدرة على شنّ هجوم جوّي لثلاثين أو أربعين يوماً على امتداد ساعات اليوم الكامل من دون توقّف. ويمكن لحاملتيْ الطائرات أن تعتمدا على الأسطول البحري الأميركي الخامس المتمركز في المياه البحرينية، وعلى القاعدة الأميركية الجوية الهائلة في قطر، وأخيراً يمكنهما الاعتماد على التموين الذي توفّره قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي. لقد سبق أن حدّدت الأقمار الصناعية الأميركية 1500 هدف إيراني مرتبط بالمشروع النووي، موزّعين على المراكز النووية الـ18 في البلاد. لا يشكّ أحد في أنّ خسائر هائلة ستقع في حالة تنفيذ هذه الخطط، وخاصّةً أنّ أهدافاً صناعية ونفطية قد تُضاف إلى لائحة الأهداف المحتملة.
أمّا عن «الثمن الباهظ» الذي ستتسبّب به مغامرة عسكرية من هذا النوع، فهو محطّ اهتمام عدد كبير من الخبراء الاستراتيجيين: ارتفاع هستيري في أسعار النفط، ردّ انتقامي غير متوقّع من طهران، توسّع كبير في الأعمال «الإرهابية»، تضارب مصالح ينذر بنزاعات على صعيد القوى الدولية... على الرغم من كل تلك الاعتبارات وغيرها، يعتبر المحافظون الجدد في إدارة بوش، أنّ عدم التصرّف حيال إيران سيتسبّب بخسائر تفوق تلك المتوقّعة في حال توجيه الضربة العسكرية الخاطفة، خسائر ليست فقط لـ«مصالح الولايات المتحدة»، بل أيضاً لحليفتهم إسرائيل. لقد أكّدت حرب الصيف الماضي على لبنان، آخر الشكوك التي كانت تبقي الأميركيين عاجزين عن التصرّف، وهي مخاوف أن تقوم إيران بتوجيه ضربات موجعة لإسرائيل من طريق حزب الله. مع تحقّق هذا السيناريو، بات هذا الخطر لا يخيف الأميركيين. يحتل هذا التحليل مكانةً كبيرة في حسابات إدارة بوش. لا شيء يشير الى أنّ قراراً قد اتّخذ حتى الآن، إلا أنّ الإدارة الأميركية «تبلور أجواء حربية من دون أن تقدّم أي دليل واضح للتدخّل الإيراني في العراق»، كما يؤكّد صحافي أميركي في بغداد. أمّا دوبينز فهو من ناحيته يلاحظ هروباً أميركياً خطيراً نحو الأمام. بحسب قراءته فإنّ الإدارة الأميركية تريد زيادة عديد قواتها في العراق وعتادها للتغطية على فشلها الذريع هناك، وتحاول زيادة نفوذها في المنطقة كلّها للسبب نفسه، وهو ما يعتبره المسؤول الرفيع السابق في الإدارة، سقوطاً مدوّياً للمقاربة الأميركية الرسمية في المنطقة.
تستطيع تلك الإدارة الأميركية أن تتحضّر للحرب بالطريقة نفسها التي يمكنها بها أن تهيّىء الأعذار لفشلها: عندما سيعترف بوش بخسارته في العراق، تأكّدوا أنّ المُلام لن يكون سوى العراقيين والإيرانيين!!
* مراسل صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية
في الولايات المتحدة الأميركية
( ترجمة أرنست خوري عن «لو فيغارو» ــ عدد 29-1-2007)