قاسم عز الدين *
احتفى جاك شيراك بنجاح احتفال باريس وبات بوسعه ان يودّع عهده مؤدياً قسطه للعلى.. جمع أربعين دولة ومؤسسة مالية دولية، على وقع الطبول، لتسويق سياسة اقتصادية لم تتمكن الدول الصناعية من تمريرها في بلدان «العالم الثالث» القوية والضعيفة، على رغم شتى الضغوط الاقتصادية والسياسية. وبمنأى عن المماحكات الداخلية في نظرة الطبقة السياسية اللبنانية الى أحشائها في الشؤون الاقتصادية والسياسية، أسفر مؤتمر باريس عن وعود «الدول المانحة» باستثمار حوالى 6 مليارات من القروض «في مشاريع التنمية»، مقابل تعهد الحكومة اللبنانية بالتخلي عن مرافق الخدمات العامة. وهو أمر لم تنجح الدول الصناعية بفرضه على «العالم الثالث»، منذ دورة الدوحة عام 2001. فالمفاوضات في هذا الشأن ما زالت عالقة في جعبة الدول الصناعية التي تصرّ على استخصاص المرافق العامة وفق الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات، من دون أن ترفع بدورها الحماية عن الزراعة وعن دعم القطاعات الأخرى القابلة لتوسيع قطاعات «العالم الثالث» في أسواق البلدان الصناعية، والأدهى ان الحكومة اللبنانية تعهّدت بتنفيذ اتفاقية الخدمات عملياً، شواذاً عن بقية الدول، قبل ان يوقّع لبنان على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي يحرمه لاحقاً من إمكانية التفاوض في المنظمة على فترة السماح ومساعدات مجانية في «إعادة التأهيل». لا ينظر خبراء لبنان في اقتصادهم في سياق المجريات الدولية، بل على العكس ينظرون في التحولات العالمية في سياق ما يظنوه تأثيراً لبنانياً في «المجتمع الدولي»، وغالباً ما تصيح ديوكهم في رابعة النهار بعد فوات الأوان. وقد أطاحهم الجموح الى السيولة المالية غير عابئين بما تحمله هذه السيول على أحوال معاش الغالبية الساحقة من اللبنانيين وعلى استقلال دولتهم، وهو ما تنأى عنه حتى الدول الأشد بؤساً وتفككاً في إفريقيا والكاريبي.
أثناء الاحتفال الباريسي «بدعم لبنان»، هدد الاتحاد الأوروبي بقطع المساعدات الغذائية عن مجموعة 77 ما لم تحذ حذو لبنان. وكان قد وعدها، كما وعد لبنان، «بالدعم» وبإعادة جدولة الديون و«باستثمار مجزٍ في التنمية الاقتصادية»، لكنها رفضت الموافقة على استخصاص مرافق الخدمات العامة، إذ ذاقت، قبل لبنان، طعم مثل هذه الوعود ولم يبق لديها غير مرافق الخدمات العامة تفاوض عليها شطب الديون القديمة التي أدّت الى انهيارها، وكذلك دخول منتجاتها الضعيفة الى الأسواق الأوروبية سبيلاً أخيراً في بقاء ما يشبه الدولة. في الوقت نفسه كانت الدول الغنية في منتجع دافوس تتراجع عن عنادها وتعد باستئناف مفاوضات رفع الحماية عن أسواقها بضغط من دول «العالم الثالث» القوية مثل الهند والصين والبرازيل والأرجنتين وماليزيا... لكن للمصادفة عارضت باريس التنازل وأصرّت على الكيل بمكيالين خوفاً من تغيرات غير محسوبة النتائج على أبواب الانتخابات الرئاسية وربما التشريعية. وفي واقع الأمر أسفر مؤتمر باريس عن تعهد الحكومة اللبنانية بالتخلي عن مرافق الخدمات العامة، شواذاً عن بقية دول «العالم الثالث»، مقابل حفنة من الدولارات للخزانة وفوائد الديون، لكن مقابل الكثير من الديون «في تنمية» تفضي بطبيعتها الاقتصادية الى نمو الريع على حساب نمو التهميش الاقتصادي والاجتماعي. وبذلك حققت سبقاً بالتخلي عن آخر حصن في سيادة الدولة واستقلالها السياسي. فالحكومات العربية الأخرى لم تجاهر بهذه السياسة على وقع الطبل والزمر مقابل استجلاب قروض الاستثمار، وما زالت تراوغ أسيرة قناعتها بالإغراءات المالية من جهة، وخوفها من انفجار الأزمة السياسية والاجتماعية من جهة أخرى، وهي في جميع الأحوال ليست مثالاً يحتذى في المحافظة على السيادة والاستقلال، بل لعلها مثال يحتذى في استخلاص الدروس مما ينبغي تفاديه. فالإفادة الإيجابية من التجارب هي في بلدان «العالم الثالث» الأخرى التي نجحت في التحوّل الى بلدان صناعية جديدة، وما زالت تقاوم اختراق سيادتها الاقتصادية والسياسية ليس بالممانعة والاحتجاج بل بإعادة بناء القطاعات الإنتاجية حصرياً، والإصرار على الحد الأدنى من التبادل المتكافئ مع الدول الصناعية، على قاعدة توسيع القطاعات الانتاجية في أول الأمر وآخره. لقد تبنّت رؤية اقتصادية ــ سياسية مناقضة لرؤية استجلاب القروض والاستثمار في «التنمية الاقتصادية» والقطاعات العقارية، وأدركت بديهيات الاقتصاد والسياسة بحثاً عن المصالح الوطنية في تبادل التبعية الاقتصادية وفي تبادل خرق السيادة السياسية مع الدول الصناعية، ولم تقع فريسة سياسات البنك الدولي وصندوق النقد طمعاً برشوة المال بل تجاوزتها الى مقاربة ما تخططه الدول الصناعية في مجتمعاتها لا ما تخططه في ملحقاتها التابعة لها. أدركت، على عكس ما يشاع في الملحقات، أن عالم اليوم تعزّ فيه الأسواق وتفيض رساميل الاستثمار، فنظمت حصر الاستثمار الأجنبي في القطاعات الانتاجية (لا في الريع العقاري والخدماتي والمصرفي) لحفظ الحد الأدنى من التضامن الاجتماعي (الوحدة الوطنية)، ثم لجأت الى التعويض عن خرق استقلالها بهذا الاستثمار الى العمل على خرق سيادة الدول الصناعية بتبادل التبعية. من هنا إصرارها على رفع الحماية عن الزراعة ومشتقاتها في الدول الصناعية قبل التفاوض على تطبيق الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات وبقية اتفاقيات التجارة الحرة الناشئة من منظمة التجارة العالمية.
أدركت هذه الحكومات ان مصالح الدول هي حرب اقتصادية وسياسية على السواء، فالاقتصاد لا ينفصل عن السياسة إذ هو تعبير جليّ في السياسة الاقتصادية نفسها. وعلى عكس ما تشيعه الدول الصناعية في ملحقاتها، يجذب التمسك بالحقوق الوطنية والاجتماعية والسياسية الاستثمار الأجنبي في القطاعات الانتاجية، إذ انه في فلسفة الاقتصاد الصناعي مقدمة للوصول الى الاستقرار السياسي والاجتماعي وليس نتيجة تخلّي الدول عن حقوقها بسياسة الواقعية والاعتدال والانفتاح المهادن. فالرأسمال لا يحتاج الى تشجيع سياسي مصطنع من الدول الجاذبة للاستثمار إنما يحتاج الى تشجيع سياسي من الدول المصدرة للرساميل، فهو في جميع الأحوال ليس حراً في السوق أو «جباناً» كما يشاع في ثقافة المكاري، بل ينتقل مدعوماً بسياسة دولته واستراتيجيتها العسكرية والأمنية وحربها الثقافية. فكل الدول الصناعية الجديدة في «العالم الثالث» أفادت من حاجة الدول الصناعية الى إنشاء «الاستقرار» في هذه الدول (كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ، ماليزيا، ...) أثناء حربها العسكرية على دول أخرى مجاورة (كوريا الشمالية، فيتنام، الصين، ...)، وفي أحيان كثيرة ضخت الدول الصناعية أموالاً طائلة من المنح والهبات خوف انتقال عدوى المقاومة «وعدم الاستقرار» الى «دول صديقة». وفي باريس أثناء وعد الدكتورة رايس بمليار دولار الى لبنان، كانت تبحث عن عشرة مليارات دولار من الكونغرس الاميركي لضخها في أفغانستان «خوف توتر الوضع الأمني في هذا البلد الصديق»، هذا خلافاً للموازنة العسكرية المقررة لأفغانستان، بينما توزع مليارها في لبنان على اليونيفيل والجيش وتنظيف الأرض من القنابل العنقودية من بين أشياء أخرى.
والحال لم توظف الحكومة اللبنانية حالة عدم الاستقرار في تشجيع الدول الصناعية على استثمارها الإنتاجي في لبنان، بل وظفت خلافاتها المحلية للموافقة السريعة على برنامج صندوق النقد الدولي الذائع الصيت بإعادة جدولة الديون مقابل ما يسمى «الإصلاحات الاقتصادية»، وهي جدولة تتلازم بطبيعتها وسياستها مع تفكيك القطاعات الانتاجية المحلية بتشجيعها على «المنافسة» المفتوحة مع المنتجات الصناعية. والتجارب في كل البلدان التي وضع يده عليها صندوق النقد الدولي، شاهدة على الانهيار الاقتصادي الذي يليه ويلازمه انهيار اجتماعي وسياسي. يقول البرنامج بإيجاد فرص عمل جديدة، لكن يتضمن ذلك القضاء على الفرص العمل القديمة ليس فقط في الشركات والقطاعات المعدة للاستخصاص بل أيضاً في القطاعات الانتاجية الضعيفة المفتوحة على منافسة منتجات البلدان الصناعية، لذا لا يغامر الصندوق بتقديم الأرقام النهائية لحصيلة فرص العمل في مجمل القطاعات كما لا تغامر «خطته الاقتصادية» بتقديم تواريخ لإجراء الحساب في ما يبقى من الجمل الإنشائية التي يستعرضها جزافاً من دون تخطيط وموازنة. يتحدث عن تأهيل القطاع الزراعي للمنافسة ويدرج جملة من العناوين غير القابلة للتطبيق في خفض الكلفة وتحسين النوعية. ومشكلة الزراعة في لبنان هي تحديداً في المنافسة وإعدادها للتصدير مادة أولية خاماً مشبعة بالمياه، ولا ينبغي ذرّ الرماد في العيون بالحديث عن إعادة تأهيلها للمنافسة والتصدير بل إعادة تأهيلها للغذاء المحلي وتصدير الصناعة الغذائية من الزراعة النظيفة غير القابلة للمنافسة مع الزراعات الكيماوية الملوثة. يكثر البرنامج، كعادته، من تعداد ما يسميه شبكات الأمان والخدمات الاجتماعية، لكن خارج نشاط العمل والحقوق المكتسبة، وهو إقرار بتعاظم تهميش القطاعات الاجتماعية لإتاحة المجال أمام سيطرة شركات التأمين على الضمان الاجتماعي والصحي. فشبكات الأمان والحالة هذه، هي مجرد شبكات تسوّل وإذلال توفر لأصحاب النفوذ حطب السطوة وتغسل ذنوبهم من تعاظم احتكارهم للثروة الوطنية. يبتدع بدعة غريبة في الإنماء يسميها «الإنماء المتوازن» وهو أمر لا يتحقق بغير تكامل القطاعات الانتاجية وبالضريبة المباشرة على الدخل التي تقيم عقداً من المواطنة بين الدول وبين دافعي الضرائب، في أي ناحية سكنوا ومهما كانت معتقداتهم. يقول بتشجيع القطاع الخاص والمقاولين الشباب لكن من غير تخطيط تفصيلي مرحلي ومستقبلي يتكامل فيه القطاع الخاص الصغير مع الكبير والريفي مع المديني، ومن غير ان تقوم الدولة بإخضاع الاقتصاد لسياسة التضامن الاجتماعي بل على العكس من ذلك تتبنّى الحكومة وصية صندوق النقد بإخضاع السياسة لاقتصاد السوق الحرّة، فلا يبقى والحالة هذه غير الرشوة وشراء الذمم لتسهيل برنامج صندوق النقد بسيطرة قطاع الريع على الاقتصاد وعلى سياسة الدولة.
ان ماليزيا، على سبيل المثال، مثل يحتذى لتشجيع القطاع الخاص وإيجاد فرص عمل وإعادة تأهيل القطاعات الانتاجية وأيضاً الاستثمار الأجنبي، لكنها ضربت عرض الحائط بكل توصيات البنك الدولي وصندوق النقد وأنشأت حكومة اقتصادية مستوحاة من التجربة اليابانية، تولاها خبراء منشقون عن فلسفة صندوق النقد. أنشأت ماليزيا «لجنة الاستثمار الأجنبي» (فورين إنفستمنت كوميتي) لكي توجّه الاستثمار الأجنبي الى القطاعات الإنتاجية وتخطط له عمله وإدارته وطبيعة المنتجات القابلة للتصدير لكن بالصلة الدقيقة مع نقل التقنيات الى الإنتاج المحلي والتوزيع المناطقي بين الريف والمدينة وبين الأحياء الفقيرة والغنية. بيد أن الحكومة اللبنانية حلّت كل هذه المعضلات التي ينبغي ان يتشارك في حلها كل القطاعات والفئات، بإعلان نوايا حبراً على ورق. وبهذا المستوى من التبسيط ردّت المعارضة احتجاجاً ومناكفةً، وفي أحسن الأحوال حنيناً الى زمن غابر من الحماية الجمركية ورعاية الدولة المفلسة. إلا أن العقدة هي برنامج صندوق النقد وفي مقاربته للاقتصاد والسياسة، وحلّها في مقاربة بديلة تستهدف إعادة تأهيل اليد العاملة والقطاعات الانتاجية لتبادل التبعية مع الدول الصناعية (المجتمع الدولي) وتبادل المنفعة بالإنتاج المشترك في المحيط الإقليمي. الأمر يعتمد على الإفادة من الثروة البشرية والثروة المصرفية بدل الاعتماد على الثروة المالية والديون المتراكمة، وعلى قطع هذا السيل الأرعن من الحديث عن مصلحة لبنان التي تعني عملياً مصلحة حفنة مستفيدة من الريع العقاري والمصرفي والعلاقات الزبائنية وكذلك استجلاب الديون.
* كاتب لبناني مقيم في فرنسا