عبد الحليم فضل الله *
تتبنى الحكومة اللبنانية مدخلاً تقنياً مبسطاً في بحثها عن مخرج لأزمة مركبة، مفترضة أن الحلول الناجعة في النماذج القياسيّة صالحة أيضاً في العالم الواقعي الحي، ولعل لبنان لهذا السبب من أكثر الدول استعداداً لتدويل المعالجات والتخلي عن الحقوق السيادية بسهولة مقابل أثمان منخفضة نسبياً. وبما أننا خطونا مع مؤتمر باريس 3 خطوات أخرى في اتجاه الانغماس في لعبة البيروقراطية الدولية، فمن الضروري معرفة قوانين هذه اللعبة والاحتراس في التعامل معها، إذ إن صندوق النقد الدولي الذي يقف وراء نشر مناهج التحليل الرياضي في تفسير الأزمات، ويعتبر أن رسالته هي الحفاظ على الاستقرار العالمي (مع أن أكثر من 100 دولة تعرضت للأزمات منذ إنشائه)، أخفق في مساعدة الدول المتعثرة، التي وقعت نتيجة استسلامها لتوجيهاته ضحية تفاعلات متسلسلة: فوضى أسواق الصرف، استئناف العجز المالي بعد فترة من الزمن، صدمات اقتصاد كلي، هجمات مضاربة.. ناهيك بتزايد معدلات الفقر. وتظهر المقارنة بين الدول التي تعاطت بحذر وبقوة سيادية مع الصندوق (مثلاً: ماليزيا والصين.. والى حد ما كوريا الجنوبية)، والدول التي انقادت لوصفاته (تايلاند،أندونيسيا..) أن المجموعة الأولى شهدت انتعاشاً سريعاً فيما مرت الثانية في وضع انتقالي طويل ومرهق لتجد نفسها عالقة في دوامة من الاضطراب الاجتماعي والسياسي، ولتتآكل في الأثناء قدرتها على المنافسة. وفي معظم الحالات يوصي الصندوق باتباع سياسات نمطية «مؤلمة» يجري رسمها على أسس غير ديموقراطية، وهذا نابع من إدراكه أن الدول المأزومة المتلهّفة للمعونات الخارجية يمكن توريطها في التزامات غير متوازنة، والمفارقة هي أن الولايات المتحدة التي تعتبر الأب الروحي «لإجماع واشنطن» وتحدد وزارة الخزانة فيها وجهة سير المؤسسات الدولية، تنأى بنفسها عن اتباع الإجراءات التي توصي بفرضها على الآخرين كما هي الحال مثلاً في إهمالها توصية الصندوق بتركيز اهتمام بنكها الفدرالي على التضخم.
نحن إذاً في مواجهة وضع غير مسبوق، أمامنا وصاية صندوق النقد وخلفنا أزمة متفاقمة تهدد بالانفجار، فيما يمنحنا مؤتمر باريس 3 التزاماً دولياً بمنع حدوث انهيار دراماتيكي، لكن من دون أن يترافق ذلك مع قرار حاسم بانتشال لبنان من المأزق. ولعل النتيجة الأبرز للمؤتمر هي ربط لبنان ببرنامج «الدعم الطارئ لما بعد النزاعات» (EPCA) التابع لصندوق النقد، وليست حزمة المساعدات المشروطة التي لا يتوقع لها تغيير ديناميكية الدين. ويوفر البرنامج المذكور قروضاً عاجلة صغيرة نسبيّاً (ما بين 12.5% و25% من مساهمات الدول في الصندوق والبالغة بالنسبة إلى لبنان 300 مليون دولار)، للبلدان التي تعاني الحروب أو تدهور في الاحتياطيات، وذلك بمعدلات الفائدة الأساس Basic rate (5.5% في ك2 2007)، ومع أن البرنامج غير مشروط، فقد اعتمدته الدول المانحة إطاراً لمراقبة مدى تقدم لبنان في تطبيق «الإصلاحات»، لتقرير ما إذا كان مؤهلاً للاستفادة مستقبلاً من برامج أكثر سخاء في إطار بروتوكول رسمي مع الصندوق.
بالمحصلة لم يقدم مؤتمر دعم لبنان للأسف إلاّ القليل مما تحتاج إليه الخزانة، أي التمويل المكثّف والرخيص لخفض كلفة الدين العام، ما يعدّ تصويتاً سلبياً على الثقة، إذ وضعت الدول المشاركة لبنان أمام بديل واحد هو توسيع خطوط الدعم في مقابل إنجاز برنامج معجّل للإصلاحات قوامه عصر النفقات وزيادة الإيرادات والخصخصة.
إنّ قيام نقاش وطني مسبق للاتفاق على طبيعة العلاقة مع الصندوق هو أمر لا مناص منه، باعتبار أن هذه العلاقة ليست إجراءً فنياً عابراً، وحتى لا نضيف خطأ قاتلاً جديداً إلى سلسلة «السياسات الخاطئة» التي رسمت على نحو أحادي منذ أوائل التسعينيات، ومنها مثلاً: أولوية الوسط التجاري في مشروع النهوض، الالتزام المكلف بسياسات نقدية عديمة المرونة، اتخاذ قرار بإعادة إعمار سريع ومعجّل للبنى التحتية الخدماتية اعتماداً على التدفقات المالية من الخارج (القروض العامة) لا على المدخرات المحلية أي الضرائب التي حافظت على مستويات منخفضة جداً حتى نهاية التسعينيات تقريباً، واتباع توزيع لأعباء الأزمة معاكس تقريباً لتوزيع المكاسب المترتبة عليها...
الخشية هي أن تنزلق الإدارة الماليّة والاقتصادية في لبنان إلى ترتيبات مع الصندوق من النوع الذي يمنع لبنان نهائياً من إنجاز عقد اجتماعي جديد تنبثق منه سياسات معتدلة للخروج من الأزمة، ويلزمه ببرنامج داخلي يتعارض مع طموحات اللبنانيين وخصوصاً على الصعد التالية:
ــ الإصلاح الهيكلي للسياسات الاجتماعية، إذ أظهرت «الاستراتيجية الاجتماعيّة» التي أعلنتها الحكومة بداية التحول من نظام إعادة التوزيع المرتبط بالإنتاج وبالدور الرعائي للدولة إلى نظام تخفيف الفقر الذي يوصي به البنك الدولي تعويضاً عن التنمية، هذا بدلاً من أن تعلن الدولة عزمها تطوير شبكات الأمان وتفعيلها وتحريرها من الهدر والعشوائيّة والزبائنيّة والفساد. الجدير ذكره أنه مع تقدم «الإصلاحات» تتقلص المعونات الموجهة لبؤر الفقر، في سياق إصرار الصندوق على دفع أولوياته التقليدية إلى الصدارة، والمتمثلة من دون تمييزٍ بين حالة وأخرى في خفض العجز، وزيادة الضرائب، ورفع معدلات الفائدة وكبح التضخم.
ــ النهوض بالقطاعات المولّدة لفرص العمل، ومن بينها خصوصاً الأنشطة الأقل تأثراً بالأزمات الداخلية والصدمات الخارجية، ففي ظل وصاية ضمنيّة من الصندوق ستواجه قطاعات الإنتاج السلعي صعوبات أكبر في إقناع الحكومة بمنحها قدراً مقبولاً من الرعاية، وهي التي رفضت بانتظام الإصغاء إلى مطالب تلك القطاعات، وأعلنت أنه لا متسع للبرامج القطاعية في خططها طوال عقدين من الوفرة وحرية اتخاذ القرار.
ــ التعامل الجدي مع قصور الخصائص التنمويّة للنظام الاقتصادي، فالبرامج الدولية ترفض لأسباب أيديولوجية تدخّل الدولة لمعالجة العوامل البنيوية المؤدية إلى تجدد الأزمات، ولتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد ككل. ومن المعروف أن صندوق النقد هو أقل المؤسسات الدولية اهتماماً بالتنمية وأكثرها إفصاحاً عن تحيّزه لفكرة «اقتصاد التداعيات» التي تعتبر أن منافع النمو تتساقط في النهاية على الجميع من دون جهد توزيعي يذكر، إما لكون التفاوت بين الأغنياء والفقراء جيد للنمو! وإما لأنّ ترك الأمر للسوق سيزيد التفاوت في المرحلة الأولى لكن سينخفض بعدها تلقائياً. إن منح صندوق النقد صلاحيات واسعة للتدخل سيؤدي أيضاً إلى تغليب وجهة نظر داخلية على أخرى، ومدّ التوجه الليبرالي الفوضوي السائد بمزيد من القوة، بحيث يزداد التركيز على الخصخصة لا على تحرير الأسواق وإطلاق المنافسة، وينظر إلى دور الدولة من زاوية حجم الإنفاق وحصيلة الإيرادات لا من زاوية أدوارها ووظائفها وأهدافها الأصليّة، وفي ظلّ ذلك التوجه يزداد استتباع آلية اتخاذ القرار الاقتصادي لقوى الضغط الداخلية والخارجية، وذلك على حساب التفضيلات الجماعيّة المرسومة في إطار شفّاف ونزيه. قد لا يكون ممكناً الآن العودة إلى المربع الأول ورفض الدخول في شراكة مزدوجة مع الصندوق والبنك، بل قد يكون هذا الأخير ولسخرية القدر أقل تعصباً للسوق من أولئك القابضين في بلدنا على زمام المبادرة، لكن ما ينبغي التحذير منه هو استغلال الحضور المضخّم للخارج ربطاً بالمساعدات، من أجل زيادة جرعة التطرف الليبرالي أو لاعتماد حلول غير ديموقراطية وغير عادلة.
* باحث اقتصادي