ماجد عزام *
الجنرال محمد دحلان تفرّغ منذ انتهاء لقاءات مكة التي تمخّضت عن توقيع اتفاق مكة المهم والاستراتيجي بين حركتي فتح وحماس، تفرغ لإعطاء المقابلات الصحافية التي تحدث فيها باستكبار وغطرسة مغلّفة أو مؤطرة ضمن ستار أو قناع من التواضع أو التسامي، والأخطر من ذلك أن الجنرال دحلان في أحاديثه لصحف الأيام والحياة والمنار تحاشى المغزى الحقيقي لاتفاق مكة الذي يفترض أن يكون قد وضع أسس الشراكة السياسية بين فتح وحماس وطوى إلى غير رجعة حقبة الاستئثار والتفرد، ذاهباً عوضاً من ذلك إلى نسب الفضل في الاتفاق بشكل مباشر وأحياناً غير مباشر إليه وإلى قيادته الفعلية لحركة فتح في الفترة الماضية ومنذ احتفالات الانطلاقة بداية كانون الثاني الماضي، التي أجبرت حماس على الانصياع وتغيير مواقفها ما سهّل الوصول إلى اتفاق مكة.
بداية تجب الإشارة إلى أن محاولات حثيثة بذلت من جانب الجنرال دحلان للهيمنة على حركة فتح وقراراتها وقد بدأت تلك المحاولات حتى قبل استشهاد الرئيس عرفات عندما قاد الجنرال تظاهرات واحتجاجات عنيفة وحملة اختطافات لمساعدي عرفات ومعاونيه وصفها هذا الأخير آنذاك بأنها ليست أقل من تمرّد وحتى انقلاب يجري داخل فتح والسلطة الفلسطينية بشكل عام، وقد تصاعدت تلك المحاولات خلال الشهور الماضية التي شهدت صراعاً حساساً بين فتح وحماس قبل توقيع اتفاق مكة بحيث بات الجنرال دحلان بحجة العداء لحماس يتحكم ويسيطر على مقاليد القرار داخل فتح بعيداً من مؤسساتها الشرعية مثل اللجنة المركزية والمجلس الثوري، وقد تجلى هذا الأمر في تركيبة أو تشكيلة الوفد الفتحاوي إلى قمة مكة الذي ضم أسماء مقربة من الجنرال وخطه السياسي والتنظيمي باستثناء اثنين فقط هما خصمه اللدود والمناضل أحمد حلس وعضو اللجنة المركزية نصر يوسف اللذان أصر الرئيس محمود عباس على سفرهما لتعويض غياب أعضاء اللجنة المركزية وحلفائه من الحرس القديم، ولأنه كان ولا يزال يتوجس خيفة من طموحات الجنرال وتطلّعاته الواسعة، وهي التوجسات التي أدت إلى استبعاده وتهميشه من جانب الرئيس محمود عباس منذ انتخابه تقريباً قبل أن يعيده إلى الواجهة الصيف الماضي بعد فشل الحصار في إسقاط حكومة حماس وبناءً على طلب مباشر من وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس التي رأت في عدوان اسرائيل الأخير على لبنان مخاضاً لشرق أوسط جديد يكون للجنرال دحلان دور رئيس وبارز فيه.
محاولة دحلان للهيمنة على فتح لم تتوقف عند تأليف وفد فتح لقمة مكة بل امتدت لتطال آراء الوفد خلال القمة نفسها، الوفد الذي يصفه الجنرال لصحيفة الأيام الفلسطينية بالشكل التالي: «جلسنا في هذا الوفد وكنت أنا بجوار الرئيس حيث لم أشارك في اللجان الفرعية لتركيز المتابعة من أجل الوصول إلى اتفاق من موقع المقتدرين ومن موقع الداعين إلى التوافق بإعادة اللحمة إلى الوضع الفلسطيني، أنا كنت بجوار الرئيس وشاركت في كل المهمات التي كان يجب أن أشارك فيها إلى أن وصلنا إلى اتفاق، كنت في عدة جلسات إلى جانب الأخ أبو مازن وكان الأخ خالد مشعل وإسماعيل هنية، كانت حوارات هادئة ولكن لم تكن سهلة».
مرة أخرى يضع دحلان نفسه أو يحاول الإيحاء بأنه زعيم حركة فتح، فقد جلس رئيس السلطة محمود عباس ورئيس الوزراء إسماعيل هنية ومعهما زعيم وقائد حماس وإلى جانبهم زعيم فتح وقائدها محمود دحلان، هكذا يوحي الجنرال دحلان في وصفه لما جرى قبل القمة وأثناءها.
الجنرال دحلان يعتقد وبمنطق شمولي ديكتاتوري وتسلّطي أن مجرد عقد مهرجان لفتح في ذكرى الانطلاقة يعتبر بمثابة إعادة بناء للحركة، وبغض النظر وبعيداً من المؤسسات والأطر التنظيمية والعلمية الديموقراطية والانتخابات، هذا من دون السؤال عن مئات الآلاف من الدولارات التي صرفت في غزة وجنين التي لا يستطيع الجنرال أن يواجه الشعب الفلسطيني بمصيرها بشفافية وصراحة ونزاهة.
دحلان يتصرف كذلك وكأنه القائد الوحيد في فتح الذي نهض لنجدة أبنائها في مواجهة حرب حماس المزعومة ويتصرف كأن هذا يعطيه الحق في السيطرة والهيمنة على فتح وفق نظرية «المغنم بحجم المغرم»، أي من واجه حماس أحق من غيره بالقيادة، وهو منطق أعوج وخطير لأنه يصوّر حماس بمثابة العدو والهدف بعيداً من العدو المشترك والهدف الجماعي للشعب الفلسطيني المتمثل في الاحتلال الاسرائيلي.
دحلان يقول إن حماس فوجئت به وبمواقفه في قمة مكة وهو الأمر الذي أكده لي أحد قياديي حماس الكبار الذين وُجدوا في مكة. إن هذا الأمر يؤكد ويثبت ولا ينفي كل المعطيات السابقة، فدحلان يعتقد أنه هيمن على فتح وجسّد وكرّس نفسه قائداً لها من خلال الميدان والمعركة مع حماس، وهو الآن يحتاج إلى التهدئة والهدوء لتمكين وتصليب موقعه الجديد وتسويق نفسه عند حماس والشعب الفلسطيني قائداً وزعيماً ومسؤولاً، وبالتالي عندما يأتي موعد الاستحقاق الرئاسي في كانون الثاني 2009 سيلتفت قادة فتح أو من بقي في القيادة الفعلية منهم ليجدوا أن مروان البرغوثي ومحمود عباس لم يثبتا نفسيهما قائدين وزعيمين، ناهيك بوعده القاطع بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، وهنا لن يكون أمام فتح سوى ترشيح دحلان للرئاسة ولن تستطيع حماس في أجواء التهدئة والهدنة أن تستعيد الوصف السابق للجنرال كقائد للتيار الانقلابي المتصهين في حركة فتح.
دحلان تربّى فعلياً على يد الرئيس الشهيد المرحوم ياسر عرفات وهو جد متأثر بأساليبه ونمطه القيادي، وباستثناء الفكر أو الموقف السياسي سيستنسخه دحلان في فتح أو ما تبقى منها وفلسطين عموماً وسنكون أمام الـ«دحلانية» التي تأخذ من الـ«عرفاتية» أسوأ ما فيها وتترك أو تتجاهل أنصع ما فيها من الصلابة والثبات في مواجهة السياسة والأطماع الاسرائيلية والأميركية.
في تصريحه لصحيفة «الأيام» تقمّص دحلان صورة الزعيم والقائد واقتبس من الخطاب الزعامي والعرفاتي وحتى الـ«تشرشلي»: «أقول إننا في بداية الطريق وأمامنا مشوار من العمل الجماعي ومن التعب ومن العرق ومن أجل أن نكون جزءاً من هذه المعادلة وأن ننقذ الشعب الفلسطيني من الغربة ومن الظرف الصعب الذي يعيشه سواء الأزمة الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعنوية أو النفسية».
لم يتحدث الجنرال عن الدم والدموع أيضاً، إذ هو لا يتصور أن المرحلة المقبلة ستتضمن بأي شكل من الأشكال القتال أو الصدام المسلح مع الاحتلال الذي من دون زواله ودحره نهائياً لا يمكن تحسين ظروف الشعب الفلسطيني على أي من الصعد التي أشار إليها.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام