عصام نعمان *
يقف لبنان اليوم على مفترق مرحلة مفصلية في تاريخه المعاصر. فالاتصالات والمساعي ناشطة لتقرير مصير نظامه السياسي: محلياً في بيروت، عربياً في الرياض ودمشق والقاهرة، إقليمياً في طهران، ودولياً في واشنطن (ومن ورائها تل أبيب) وباريس ولندن وموسكو والأمم المتحدة.
يرافق الاتصالات والمساعي تهويل من ضربة أميركية لإيران وإسرائيلية لسوريا، وتخويف من اغتيال قيادات وشخصيات، وتحذير من فرض نظام المحكمة ذات الطابع الدولي في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ذلك كله من أجل تسويق تسوية ظرفية لأزمة لبنان المستفحلة تحمي مصالح الشبكة الحاكمة وتخدم استراتيجيا إدارة بوش في المنطقة. غني عن البيان أن أي تسوية ظرفية ستكون، شأن مثيلاتها المتكررة منذ عام 1958، مجرد هدنة قلقة بين اضطرابات وحروب أهلية لاحقة، محدودة أو مفتوحة.
الحقيقة أن اللبنانيين ما عاد في وسعهم أن يتحمّلوا اضطرابات أمنية وحروباً أهلية كل سنة أو سنتين، تجرّ عليهم صنوفاً من القتل والتدمير والتشريد والتهجير، ومليارات الدولارات المضافة إلى مثيلاتها من مجموع الدين العام.
آن أوان الاتعاظ من تجارب الماضي وكوارثه، واستخلاص العِبَرِ والدروس، وتوليد إرادة الخروج من نظام الأزمة المزمنة والمستمرة. ذلك يتحقق بالإقلاع عن تقبّل التسويات الظرفية، والتصميم على اجتراح تسوية تاريخية تقود إلى سلم أهلي دائم وأمن اجتماعي راسخ، وتضع البلاد والعباد على سكة بناء دولة مدنية ديموقراطية قادرة وعادلة.
ليس من قبيل المغالاة القول إن المرحلة الراهنة مؤاتية لمباشرة مشروع التسوية التاريخية المنشودة. ثمة توازن قوى محلي وآخر إقليمي. بل ثمة وئام دولي ملحوظ يتجلى في معالجات توافقية بين الدول الكبرى لأزمات محلية وإقليمية متعددة. على الصعيد اللبناني، يمكن القول إن توازن القوى السائد بين أطراف الموالاة للنظام الطائفي الفاسد والمعارضة له قد حال دون تمكين أيٍّ من الطرفين فرض إرادته على الآخر. على الصعيد الإقليمي، يتعثّر مشروع الهيمنة الأميركي الصهيوني حيال تنامي قدرات إيران من جهة ونجاح قوى المقاومة من جهة أخرى في استنزاف الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وإسرائيل في فلسطين ولبنان. أليس من شأن هذه التوازنات اللافتة، محلياً وإقليمياً ودولياً، أن تحمل القوى السياسية المتصارعة في لبنان على وقف رهاناتها غير المجدية على قوى إقليمية ودولية تبدو راغبة في تدوير زوايا الخلافات في ما بينها؟ أليس لافتاً تقارب السعودية وإيران واتفاقهما على القيام بما يشبه الوساطة المشتركة بين الأطراف اللبنانيين المتصارعين؟
من جسامة الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالبلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة جرّاء الاضطرابات والحروب الأهلية، ومن لاجدوى الرهان على الولايات المتحدة المتعثرة والمحبطة في مغامراتها الإقليمية، والمدمنة رغم ذلك على استخدام الساحة اللبنانية وسيلة ضغط لمصلحة إسرائيل، ينبثق منطق لبناني وطني يحذّر من الانزلاق مرة أخرى إلى تسوية ظرفية عابرة ويدعو لاجتراح تسوية تاريخية راسخة.
لعل مسار التسوية التاريخية يبدأ بالاتفاق على تشخيص الأزمة بأنها ناجمة، بالدرجة الأولى، من غياب مفهوم الدولة وتطبيقاته الدستورية والسياسية والاقتصادية والأمنية، ومن التوافق تالياً على أن جوهر المعالجة ومفتاح الإصلاح يكمن في بناء دولة مدنية ديموقراطية قادرة وعادلة.
الحق أن مضمون التسوية التاريخية قد جرى التوافق عليه وصوغه في اتفاق الطائف عام 1989، وقد أضحى في معظم أحكامه جزءاً لا يتجزأ من الدستور بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990. إن جوهر اتفاق الطائف وبالتالي مرتكزات الدولة المدنية الديموقراطية القادرة والعادلة يمكن تلخيصه بالإصلاحات الآتية:
أولاً، إنشاء هيئة وطنية لإلغاء الطائفية وفق خطة مرحلية (المادة 95 من الدستور).
ثانياً، وفي هذه الأثناء، تُعتمد قاعدة التساوي في توزيع المقاعد النيابية بين المسيحيين والمسلمين (المادة 24 من الدستور).
ثالثاً، مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية (الطوائف) وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية (المادة 22 من الدستور).
رابعاً، وضع قانون انتخاب جديد يراعي قواعد العيش المشترك وصحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله (الفقرة «ج» من القسم 3 «الإصلاحات الأخرى» من اتفاق الطائف).
خامساً، اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة (الفقرة «أ» من القسم 3 «الإصلاحات الأخرى» من اتفاق الطائف).
إن أياً من هذه المرتكزات الأساسية لاتفاق الطائف، لم تطبق. مردّ التقصير فساد القوى المتنفذة في الشبكة الحاكمة وسوء إدارة الوصاية السورية للبنان.
لـــــــــــئن يقتضي اليوم توافق قوى الموالاة والمــــــــــــعارضة وغيرها من القـــــــــــــــوى الســـــــــــياسية الفاعلة على تنفيذ ما لم يُنفّذ من اتفاق الطائف، بما هو أساس التسوية التاريخية المنــــــــــــــشودة، فإن الأمر يــــــــــــستلزم تقسيم نهج التنفيذ إلى مرحلتين: الأولى انتقالية والثانية تأسيسية.
في المرحلة الانتقالية يُصار إلى تأليف حكومة وطنية جامعة تمثّل القوى السياسية الرئيسة في البلاد، وتتولى:
1 ــ وضع الأسس الواجب اعتمادها للمحكمة ذات الطابع الدولي المختصة بمحاكمة قتلة المغفور له الرئيس رفيق الحريري وفق قرار مجلس الأمن الرقم 1644، وذلك على أساس مرتكزات تنظيم المجلس العدلي في لبنان. وهذه تقتضي اعتماد قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، وقانون العقوبات اللبناني، وإدخال بعض التعديلات عليهما ولا سيما لجهة إلغاء عقوبة الإعدام، وتأليف هيئة المحكمة من قضاة لبنانيين بمعدل الثلثين وقضاة دوليين بمعدل الثلث، وعقد جلسات المحكمة في لاهاي، وحظر المحاكمة غيابياً من دون ضوابط واضحة، ومنع إعادة فتح المحاكمة في قضايا بتّتها المحاكم اللبنانية، واستبعاد إمكانية إصدار عفو خاص في ما قد يصدر عن المحكمة الدولية من أحكام.
2 ــ وضع قانون انتخاب ديموقراطي وعادل على أساس التمثيل النسبي لانتخاب 100 مرشح لمقاعد في لبنان كله كدائرة انتخابية واحدة، وعلى أساس التمثيل الأكثري لانتخاب 28 مرشحاً لمقاعد موزعة على دوائر في المحافظات والأقضية.
3 ــ إجراء انتخابات نيابية مبكرة قبل انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، وإذا تعذّر ذلك تُجرى بعد انتهاء ولايته بستة أشهر على الأكثر.
إذا رفضت قوى الموالاة الموافقة على تأليف حكومة وطنية جامعة والقيام بخطوات المرحلة الانتقالية على النحو المبيّن آنفاً، فإن قوى المعارضة الممثلة في مجلس النواب والقوى الوطنية والديموقراطية الناشطة خارجه تنتدب نفسها للاضطلاع بمهمات المرحلة الانتقالية ومن ثم بمهمات المرحلة التأسيسية دونما إبطاء. ذلك أنه عندما يتخلّف الكل أو الأكثرية عن تحمّل المسؤولية الوطنية في المنعطفات التاريخية والظروف الاستثنائية، فإنه يصبح من حق الجزء أو الأقلية بل من واجبها الاضطلاع بأعباء المسؤولية الوطنية، ولا سيما عندما تكون قوى الأقلية تحديداً هي صاحبة الأكثرية الشعبية بحسب تعداد الأصوات التي نالها نوابها الفائزون ومرشحوها الخاسرون في الانتخابات الأخيرة. أليس هذا ما فعله الجنرال شارل ديغول و«لجنة فرنسا الحرة» بعد انهيار الحكومة الفرنسية تحت وطأة الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية؟ أليس هذا ما فعلته المقاومة اللبنانية عقب احتلال إسرائيل قسماً كبيراً من جنوب لبنان من عام 1978 لغاية عام 2000؟ في الحالة الفرنسية كانت المقاومة والتحرير مهمتين تاريخيتين مشروعتين لا تحتاجان إلى موافقة مسبقة من الجمعيـة الوطنية (البرلمان) التي أصبحت بحكم غير الموجودة عقب الاحتلال. وفي الحالة اللبنانية أصبحت المقاومة والتحرير مهمتين تاريخيتين مشروعتين لا تتطلبان بالضرورة مشاركة جميع الجماعات والأحزاب والتنظيمات اللبنانية الأخرى ولا حتى موافقة مسبقة من الدولة. أما في حالة لبنان الراهنة فإن اضطلاع القوى الوطنية والديموقراطية بمسؤوليتها الوطنية يصبح واجباً ملزماً يستمد مشروعيته من كون الحكومة القائمة قد فقدت دستوريتها وشرعيتها وأصبحت بحكم غير الموجودة لارتكابها المخالفات الدستورية الآتية:
1 ــ تعطيل المجلس الدستوري ما أدى إلى تجميد الفصل في الطعون الانتخابية المقدمة إليه، والحؤول دون ممارسته الرقابة على دستورية القوانين التي يشترعها مجلس النواب.
2 ــ خرق المادة 52 مـن الدستور بتجاوزها صلاحية رئيس الجمهورية في إجراء المفاوضات المتعلقة بالمعاهدات الدولية (نظام المحكمة الدولية).
3 ــ خرق المادة 95 من الدستور التي تقضي بتمثيل الطوائف في الحكومة بصورة عادلة، وذلك عقب استقالة جميع الوزراء الذين يمثلون الطائفة الإسلامية الشيعية، الأمر الذي أفقد الحكومة شرعيتها لكونها أضحت سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك بحسب الفقرة «ي» من أحكام الدستور الأساسية.
4 ــ خرق المادة 32 معطوفة على المادة 83 من الدستور بامتناعها سنتين متواليتين عن إحالة مشروع الموازنة على مجلس النواب لمناقشته وبتّه.
5 ــ خرق المادة 49 من الدستور بإيعازها إلى الســــــــــــــفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي بمقاطعة رئيــــــــــــــس الجمهورية بما هو رئيس الدولة ورمز وحـــــــــدة الــــــــــــوطن، وخرقها المادة 53 من الدستور لكون رئيس الجمهــــــــــــورية المرجع المختص في اعتماد السفراء وقبول اعتمادهم. إزاء كل هذه المخالفات الدستورية التي أفقدت حكومة فؤاد السنيورة شرعيتها وجعلتها بحكم غير الموجودة، وإزاء رفض قوى الموالاة استجابة وساطة السعودية وجامعة الدول العربية وغيرهما والامتناع تالياً عن الموافقة على تأليف حكومة وحدة وطنية والقيام بالخطوات الثلاث للمرحلة الانتقالية المبيّنة آنفاً، ينهض سؤال: ما العمل؟
بعض قوى المعارضة أجاب داعياً الى مباشرة العصيان المدني لإكراه الحكومة على التسليم بحكومة الوحدة الوطنية ومهماتها الانتقالية. بعضها الآخر دعا إلى الاضطلاع بأعباء المسؤولية الوطنية التاريخية من خلال الاتفاق مع رئيس الجمهورية العماد إميل لحود على خطة متكاملة تنطوي على خطواتٍ خمس:
الأولى، إصدار مرسوم باعتبار حكومة فؤاد السنيورة غير موجودة ودعوة النواب لاستشارتهم في شأن تأليف حكومة وطنية جامعة من الشخصيات الوطنية المستقلة.
الثانية، تلتزم الحكومة الجديدة في بيانها الوزاري الاستقالة فور إعلان قوى 14 آذار موافقتها على تأليف حكومة وطنية جامعة للقيام بالمهمات الانتقالية المنوّه بها سابقاً وما يتفق عليه لاحقاً.
الثالثة، تعتمد الحكومة الجديدة مشروع «الهيئة الوطنية لوضع قانون جديد للانتخابات» (فؤاد بطرس ورفاقه) وتعدّله لجهة جعل عدد المقاعد الخاضعة لنظام التمثيل النسبي 100 والمقاعد الخاضعة لنظام التمثيل الأكثري 28، على ان تجري الانتخابات لكل المقاعد في يوم واحد.
الرابعة، إجراء الانتخابات العامة قبل انتهاء ولاية الرئيس لحود، وإذا تعذر ذلك تُجرى بعد انتهاء ولايته بستة أشهر على الأكثر.
الخامسة، يمكن التوافق، في حال قيام حكومة وطنية جامعة، على انتخاب رئيس جديد للجمهورية من جانب مجلس النواب الحالي شريطة التزامه وسائر قادة القوى والأحزاب والكتل البرلمانية، بموجب وثيقة ميثاقية، تنفيذ إصلاحات التسوية التاريخية المتفق عليها، وفي مقدمها الإصلاحات المنصوص عليها في اتفاق الطائف التي لم تُنفّذ بعد، على ان تتضمن الوثيقة الميثاقية العتيدة سائر الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية (الدفاعية ومستقبل المقاومة وعلاقتها بالدولة) التي يتفق عليها ومنهج تحقيقها. وإذا تعذر انتخاب رئيس الجمهورية الجديد وفق الأسـس والشروط المبيّنة آنفاً، فإن صلاحيات رئيس الجمهورية (المنتهية ولايته) تُناط وكالةً بمجلس الوزراء حسب أحكام الدستور، ولا يُنتخب رئيس جديد إلّا بعد إجراء الانتخابات وفق قانون انتخاب جديد على الأسس المحددة في البند الثالث أعلاه.
أيّ من النهجين أجدر بالاعتماد: العصيان المدني أم الخطة الإصلاحية المتكاملة الآيلة إلى تحقيق تسوية تاريخية؟
الحقيقة أن نهج الاعتراض السلمي الذي اعتمدته قوى المعارضة في وجه حكومة السنيورة وقوى 14 آذار قد بلغ ذروته بالتظاهرة المليونية التي جرت في 2006/12/10 والاعتصامات التي رافقتها وأعقبتها. ومع ذلك لم تتزحزح الحكومة والقوى المساندة لها عن موقفها الرافض تأليف حكومة وطنية وإجراء انتخابات نيابية مبكرة. يرى كثيرون أنه يصعب على قوى المعارضة ابتداع تحرك شعبي أعلى وأفعل من التظاهرة المليونيـة المذكورة، بما في ذلك العصيان المدني. فللعصيان، مدنياً كـان أم مسلحاً، مفاعيل سلبية في هذه المرحلة العصيبة والمعقدة تضر أكثر مما تنفع. ذلك أن الخطوات والتدابير التي يمكن أن تتخذها قوى المعارضة في سياق العصيان قد ترتدّ على جمهورها وعلى اقتصاد البلد من دون أن تحمل الحكومة على الاستقالة او على التسليم باعتراضات المعارضة ومطالبها الأساسية.
ماذا سيحدث، مثلاً، إذا دعت قوى المعارضة أنصارها، من موظفين ومستخدمين وعمال ومواطنين عاديين، إلى التوقف عن دفع الرسوم والضرائب، وإلى الامتناع عن المداومة في الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة ومواقع العمل، أو محاصرتها وشلّها، أو السيطـرة عليها؟
ستدين الحكومة والقوى المساندة لها هذه الأعمال وتحمّل المعارضة مسؤولية شلّ المرافق العامة وحرمان المواطنين من خدماتها ومغبة اضطرارها، بسبب توقـف جباية الضرائب ونضوب واردات الخزينة، إلى التوقف عن صرف رواتب الموظفين والمستخدمين. كذلك ستفعل الهيئات الاقتصادية ومؤسسات القطاع الخاص.
هيهات أن تعترف الحكومة بأنها عاجزة عن حكم البلد بسبب التظاهرات والاعتصامات وأعمال العصيان المدني. ليس يهمها، في هذه الآونة، أن تحكم. ما يهمها فقط هو أن تبقى في واجهـة السلطة، أي في السرايا، وأن يبقى جورج بوش وجاك شيراك وطوني بلير وسائر رؤساء حكومات دول الاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة معترفين بها. يكفي أن تبقى متمتعـة بالشكليات والشعائر الاحتفالية إلى أن تأتيها النجدة من عواصم القرار، لا سيما من واشنطن، فتردّ عنها أفواج جماهير المعارضة وتعيدها إلى مواقعها السابقة أو تضغط على قادة المعارضة، بشكل أو بآخر، لحملهم على القبول بتسوية لائقة تحجب الأخطار وتحمي المصالح وتحدد الخسائر تحت بيرق شعار تقليدي مدّخر لمثل هذه المناسبات التاريخية: لا غالب ولا مغلوب!
* وزير لبناني سابق