علي الشامي *
تشهد الساحة الثقافية، بين الحين والآخر، إسهامات في تحليل الطائفية السياسية وتوصيفها، في علّة وجودها وآلية عملها وسبل الخلاص منها. وتغلب على هذه الإسهامات مقالات تعمل على تأويل الطائفية بما يتناسب ورغبات أصحاب المقالات، باختلاف مشاربهم الفكرية والعلمية والاجتماعية، بحيث تغدو الطائفية تورية لاتفاق مصلحة جمعت سياسيين من مختلف الطوائف في طبقة اجتماعية واحدة أو طغمة مالية بدون جذور مجتمعية، ودفعتهم إلى ابتكار الطائفية، لغة وممارسة، بهدف تحقيق منافع شخصية لا أصل لها ولا تواصل في مجتمع متعدّد الطوائف والأهواء. وإذ تظهر الطائفية تدبيراً لأصحاب البيوتات والرساميل واجتماعهم في دولة على قياس مصالحهم، تتوارى عن الأنظار تلك المصلحة المتبادلة القائمة بين كل طائفة وممثليها في الدولة ومؤسساتها، كما تتهمش واقعية التنافس بين الطوائف على التمثيل السياسي في المناصب والوظائف.
في المقابل، تسهم المصلحة المتبادلة، ومثلها واقعية التنافس، في تذليل عقبات كل تحليل يسعى إلى فهم أداء القائمين على الدولة ومؤسساتها، وتساعد كل بحث عن جذور التمثيل السياسي الطائفي داخل السياق التاريخي الخاص الذي ينتج السياسي نفسه ممثلاً لمصالح طائفته قبل أن يكون صاحب منفعة شخصية. وبدون ذلك، لن نعثر على إجابة مقنعة عن تلك العلاقة الحميمة التي تجمع في ممارسة واحدة رغبة في موقع شخصي وإخلاصاً في تمثيل الطائفة وحماية مصالحها. مثلما لن نجد منهجية نتوسلها لفك ألغاز هذا السر الذي يمنح السياسي الطائفي شرعية أهلية تفوق، كمّاً ونوعاً، شرعيات الأشخاص والأحزاب والأفكار اللاطائفية.
ومما لا شك فيه، يسهم التشكّل الخاص للطوائف اللبنانية في مجتمع ودولة في تلمس هذه الإجابة وتلك المنهجية، مع ما يتطلبه هذا الأمر من صراحة جارحة، ما دام الشفاء من مرض الطائفية يحتاج إلى إرادة تتحمل الألم.
وفي هذا السياق، يختزل لبنان مجتمعاً طوائفياً ودولة طائفية. بمعنى أنه، منذ تأسيسه ككيان سياسي خاص، تميز بدولة واحدة تسوس وتدير مجتمعاً متعدداً، بحيث تغدو الدولة محور استقطاب لتعددية المصالح الطوائفية والمجال الحيوي للتنافس على التمثيل والحصص والمنافع الذي يغوص في أعماق التناقضات المجتمعية التي رافقت ولادة الكيان ولازمته إلى اليوم. وفي كل مرة يعود فيها الكيان إلى الوضعية التي سبقت تشكله، تنفجر واحدية الدولة وتعود إلى الرحم الذي خرجت منه: الطائفية وحليفها الخارجي. وفي اللحظة التي تفشل فيها القوى اللاطائفية في إعاة بناء الدولة، تكتشف الطوائف عقم انفصاليتها وهزالة تفردها الكياني، فترجع إلى سيرتها الأولى، تلملم أجزاء الدولة وتعيد وصل ما انقطع في تراتبية جديدة للقوى والمصالح مع تغيير ضروري للمواقع والأشخاص والأسماء، لا يطال جوهر التأسيس بقدر ما يخضع لاعتبارات واقع الحال بعد انفجار الدولة ولضغوط الدول التي جمعت الطوائف، من قبل، في دولة وكيان، وتعيد جمعهم في دولة وكيان، كلما وجدت في ذلك مصلحة لها وآذاناً صاغية في الطوائف وممثليها. وبين هذا وذاك، يظل لبنان وطناً معلقاً بين دولة طائفية ومجتمع طوائفي، أي وطناً ينتظر انفجاراً جديداً، إذا لم تحسم طوائفه أمرها، بأن تجعله فوقها وقبلها، هوية لها جميعها ولكل واحدة منها، بحيث لا يتحول الوطن الى غابة تتناوب فيها الطوائف على أدوار الفريسة والصياد عند كل منعطف. بهذا المعنى، تصبح مساهمة السياسيين في الحفاظ على النظام الطائفي تعبيراً عن التوازن أو التنافس بين مصالح الطوائف وحاجتها مجتمعة الى مؤسسة ــــــ دولة تمثلها، منفردة، عبر الوسطاء في مراكز القرار والإدارة والثروة والخدمات... وهو الأمر الذي يضع هذه المؤسسة ــــــ الدولة فوق الأشخاص المستفيدين منها، ويجعلها بكل مواقعها ومراكزها وثيقة الصلة بالطوائف ونصابها المخصوص في الدولة والأشخاص. وللمزيد من التوضيح، نشير إلى دلالات الطائفة والطوائفية، بهدف الوقوف على خاصية لبنان في كونه وطناً معلقاً بين دولة طائفية ومجتمع طوائفي.
ــــــ في الطائفة والطوائفية:
تعبّر الطائفة عن تكوين مجتمعي خاص تجسد في اجتماع أهلي حول هدف مشترك. وتتماهى الطائفة مع غاية وجودها في سياق التوليف بين عناصر تكوينها في هوية معتقدية ــــــ ثقافية، وهرمية اجتماعية وتاريخ وحقل طبيعي ــــــ جغرافي ونمط حياة ومعاش. وبالتالي، فالطائفية تتمظهر في اجتماع أهلي قبل تمظهرها في اجتماع سياسي. إذ إن «السياسي» يرجع إلى تطور «الأهلي» في متن تاريخ خاص ويخضع لشروطه، بحيث لا يؤدي الاجتماع السياسي، بالضرورة، إلى إلغاء عناصر الاجتماع الأهلي، بقدر ما ينقلها إلى مستوى التكيف مع التطور الذي يصيب الطائفة في لحظة ما. وهذا يعني أن الطائفة تحمل في ذاتها الطائفة، بما هي كينونة اختيارية طبيعية بين الأفراد، اجتماعها السياسي عندما تجد في ذلك فائدة جماعية، وترتد إلى حالتها الأولى ومتابعة الحياة في اجتماع أهلي وسلطة محلية، بدون دولة أو في ظل دولة تسوسها من خارج.
وفي هذا السياق، تتميز الطائفة في لبنان بخاصية تشكلها في اجتماع أهلي ــــــ مذهبي ومصالح خاصة. وترجع في اجتماعها إلى عوامل سابقة على وجود الدولة ومؤسساتها والوطن وحدوده. وفيما يضيف اللغويون إلى الطائفة خواص العدد أو المهنة أو العصبة، يتفق المؤرخون المثقفون على استعمال مصطلح الطائفة للدلالة على خاصية الدين والمذهب. فالطائفة تمثل مذهباً واحداً أو تنتظم فيها عدة مذاهب، بحيث لا يلغي مصطلح الطائفة الإسلامية أو المسيحية مصطلح الطائفة بما هي الالتئام الأهلي في مذهب من المذاهب الإسلامية أو المسيحية. وغالباً ما تعني الطائفة المذهب الواحد، وهي صياغة جامعة لنصاب هذا المذهب في الدولة والمجتمع على السواء.
إن مقالات المثقفين التحذيرية من مخاطر الانزلاق من الطائفية إلى المذهبية، لا تقدم مساهمة نوعية في مقاربة المسألة، ما دامت المذهبية السياسية، وحدها، تكمن في أساس النسيج التنافسي، أو التوافقي حول الدولة منذ قيامها، من دون أن يعني ذلك التقليل من واقع هيمنة مذهب ما على مذاهب الدين الواحد الأخرى، بقدر ما يشير إلى منازعات مكبوتة حيناً، وظاهرة في أغلب الأحيان، حول حصة كل مذهب. تماماً مثلما تكون المذهبية حاضرة في كل ترتيب سياسي للدولة، مثل الثنائية أو الترويكا والشراكة أو الهيمنة... وبذلك، تكون الطائفة قابلة للتداول في الخطاب الديني والخطاب المذهبي في آن معاً، رغم أن دلالتها في المذهب تظهر أقوى وأصدق في توصيفها لتراتبية العلاقات داخل الدولة وخارجها، وبالتالي فإن الدين أو المذهب يعملان معاً، أو بانفراد، على تخصيص أتباعهما في طائفة. كما أن الاجتماع في طائفة لا يشكّل نقيصة أو انتماءً استثنائياً ما دام يعبر عن إرادة حرة في الاختيار المعتقدي، كما هي حالة الاجتماع البشري في كل أنحاء العالم، حيث لا يحول الانتماء إلى طائفة دون الانتماء إلى دولة أو العيش في مجتمع متعدد الطوائف. كما لا يشترك الانتماء إلى دولة جامعة للطوائف التجاوز النهائي لالتئام الأفراد في اجتماع ديني أو مذهبي. وحدها مسلكيات الطائفة تجاه ذاتها أو تجاه غيرها من الطوائف هي التي ينبغي أن تكون مرجع الحكم والقيمة والموقف، سلباً وإيجاباً.
أما الطوائفية فإنها تعبر عن اجتماع طوائف متعددة في مجتمع وأرض ودولة، بعد اجتماعها في لغة وعرق وقوم واختلافها في عقيدة وثقافة ومنطقة... وعليه، تكون الطوائفية توصيفاً للتعدد والتنوع انطلاقاً من خاصية الاجتماع كطوائف وليس أبداً كأفراد، وبالتالي، فإن لبنان، كياناً سياسياً ومجتمعاً، يتميز بواقع أن أفراده لا ينتمون إليه بصفتهم هذه ــــــ أي أفراداً ــــــ بل ينتمون إليه جماعات ــــــ طوائف، فالطبيعة العضوية للفرد في الطائفة تسبق وتهيمن على عضويته في مجتمع ووطن، وتحدد قنوات اتصاله وتواصله مع الدولة.
كما أن حاجات الفرد ورغباته تنطلق من التحامها في اجتماع يستتبعه ويحدد له نظرته فرداً في طائفة، بواسطتها يرتقي ويحقق ذاته والطموحات، وبها يختلف ويتمايز ويتماهى، يحارب ويسالم، يستقر ويتناسل، ومنها ينظر إلى الماضي والحاضر ويتطلع إلى المستقبل، من دون أن يعني ذلك أن الطوائفية تفترض الاختلاف على المصالح والرؤية، بل بالعكس. فالطوائفية تمثل نزوع الطوائف إلى العيش في مجتمع متعدد وجدت فيه مصلحة مشتركة وغاية جامعة، هي ما دأب اللبنانيون على تسميته رسالة لبنان إلى العالم، أو ما رغب قداسة البابا السابق في إغداقها علينا نعمة لا نقمة في عبارته المشهورة: لبنان ليس بلداً، بل رسالة. أي إن الطوائفية تجسد اجتماع طوائف في مجتمع وكيان سياسي، قوامه احترام الخصوصيات المعتقدية واعتراف متبادل بها وحرص عليها وتفاعل وتكامل في الذات بذاتها وفي علاقتها مع الآخر، كامتداد للذات في واحدية المصير.
* باحث وأستاذ جامعي