strong>عصام نعمان *
ما يريده جورج بوش من لبنان وفيه واضح: أن يدور نظامه في فلك أميركا وأن ينفّذ ما يُطلَب منه محلياً وإقليمياً.
على الصعيد المحلّي، يريد بوش نظاماً خالصاً مخلّصاً في تركيبته وسلوكيته لسياسة واشنطن. ذلك يتطلّب إقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة وتجريده من السلاح. على الصعيد الإقليمي يريد بوش أن تحافظ حكومة بيروت الموالية لواشنطن على موقفٍ سلبي ومتحفّظ من دمشق، وأن تنسّق مع حلفاء أميركا الإقليميّين ضدّ إيران ومنظّمات «الإرهاب».
مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي، لاحظت إدارة بوش أنّها عاجزة، بالوسائل الدستورية والديموقراطية، عن تحقيق أغراضها المحلية، ولا سيّما لجهة انتخاب رئيس جديد للجمهورية من صفوف حلفائها. لذلك لجأت إلى المخادعة: ارتَدَت قناع الدبلوماسية الفرنسية وقفّازاتها وعادت إلى العمل بنشاط محموم، ذلك أنّ اللبنانيّين يرتاحون إلى الفرنسيّين أكثر من الأميركيين حلفاء الصهاينة.
الرئيس نيكولا ساركوزي وافق على إعارة واشنطن أقنعة وقفّازات فرنسية وحتى دبلوماسيّين فرنسيّين محترَمين يرتدونها لخدمة الهدف المشترك. إنه انتخاب مرشّح للرئاسة له وجه أميركي أو أوروبي موالٍ ومحجوب بقناعٍ توافقي مقبول. هذا التدبير لم يحقّق الهدف المرتجى ضمن المهلة المحدّدة. السبب؟ كثرة المرشّحين «الأصدقاء» المتناحرين. لذلك قام أصحاب الأقنعة الدبلوماسية بتركيز ضغوط شديدة على البطريرك نصر الله بطرس صفير لحمله على اختيار واحد أو اثنين من المرشّحين ليُصار إلى تسميتهما وتسويقهما لدى «وكيل» قوى المعارضة رئيس مجلس النواب نبيه بري و«وكيل» قوى الموالاة النائب سعد الحريري كي يقوما باعتماد واحدٍ منهما مرشّحاً توافقياً.
حملة الضغوط على البطريرك صفير أخفقت إذ رفض الرجل تسمية أحد قبل الحصول على ضمانات موثّقة تلزم الجميع بانتخاب المرشّح الذي يسمّيه للرئاسة.
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كان يراقب المشهد السياسي والبهلوانيات الدائرة على مسرحه بامتعاض. لم تكن الأزمة منحصرة، في رأيه، بالعثور على المرشّح التوافقي المنشود. الأزمة أبعد من ذلك بكثير. إنّها أزمة غياب الدولة وبالتالي ضرورة تأسيسها أو إعادة بنائها. وهي أزمة إصرار إدارة بوش على تجريد المقاومة من السلاح. وهي أخيراً أزمة تواطؤ أطراف داخليّين نافذين وأطراف خارجيّين أقوياء على إبقاء لبنان ساحةً وملعباً لتصفية حسابات إقليمية ولتعزيز مصالح ضالعة وإجراء صفقات مشبوهة وإدارة عصابات فساد وإفساد. ما هو موقف المرشّح التوافقي، أياً كان، من كل هذه القضايا والتحدّيات؟ ما سيكون موقفه إذا ما ركبت إدارة بوش رأسها وقرّرت أن تضرب إيران وأن توعز إلى إسرائيل بضرب سوريا، وبالتالي المقاومة في لبنان؟ ثم ما تركيبة الحكومة التي سيجري تأليفها في العهد المقبل؟ هل ستكون نسخة مكرّرة عن حكومة فؤاد السنيورة؟ ما مضمون بيانها الوزاري، وهل سيصّر أركان الموالاة على تضمينه أحكاماً تقضي بتنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 القاضي بتجريد المقاومة من السلاح؟ من سيكون القائد الجديد للجيش في العهد المقبل؟ هل سيكون ضابطاً ممالئاً لقوى 14 آذار وضالعاً في مخطّط إدارة بوش الرامي إلى نقض عقيدة الجيش القتالية التي تعتبر إسرائيل عدواً قومياً، وإجراء تشكيلات واسعة فيه بغية تسليم مواقعه الحسّاسة لضبّاط موالين لقوى 14 آذار، وتسليحه بأسلحة أميركيّة وتدريبه على استعمالها بغية تجريد المقاومة من السلاح؟
أسئلة كثيرة وخطيرة طرحها السيد نصر الله وطلب أجوبة واضحة عنها قبل أن يستعجل الطبّاخون، المحلّيون والأجانب، إنضاج الطبخة الرئاسية ووضع قوى المعارضة أمام أمر واقع.
باختصار، نصر الله ومن ورائه قوى المعارضة والقوى الوطنية الديموقراطية المستقلّة يريد بحث كل هذه المسائل في سياق البحث عن المرشّح التوافقي والتوصّل إلى اتفاق متكامل في صددها، فلا تنزلق البلاد إلى أزمة أشدّ مرارة بعد تسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة. قائد المقاومة لم يخفِ رأيه بل نهجه لحلّ أزمة لبنان المستعصية. إنه رأي كل القوى الوطنية الحيّة، في اليسار والوسط، الذي طالما نادت به. إنّه إجراء انتخابات حرة نزيهة وفق قانون ديموقراطي عادل يكفل صحّة التمثيل الشعبي وعدالته، وبالتالي قيام سلطة اشتراعية شرعية يتولّى ممثّلو القوى الحيّة فيها التأسيس لدولة مدنية ديموقراطية على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية المستدامة.
ثمّة هاجس آخر لدى السيد نصر الله. إنه احتمال شنّ إسرائيل حربها الثالثة على لبنان وعلى سوريا معاً في سياق حرب أميركا على إيران. هذا الاحتمال وارد بقوة، وثمّة شواهد عليه. ألم تشن إسرائيل في مطلع أيلول الماضي غارة جوية على موقع في شمال شرق سوريا لاختبار دفاعاتها الجوية، ولترهيبها أيضاً؟ ألم تُجرِ مناورات في هضبة الجولان المحتلّة منذ شهر تقريباً؟ ألم تُجرِ أخيراً مناورات واسعة في الجليل شمال فلسطين المحتلة وتحتفظ بقواتها هناك وكأنها تعتزم استخدامها في مهمّة أخرى عبر الحدود؟ ألم تكثّف طائراتها أخيراً طلعاتها الجوية الاستكشافية والترهيبية فوق الأراضي اللبنانية؟
لقد أصبح المشهد اللبناني، السياسي والاستراتيجي، جزءاً من المشهد الإقليمي الممتدّ من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط إلى الساحل الشرقي للخليج العربي ـــــ الفارسي. هكذا أصبح في حسابات العدو الأميركي ـــــ الصهيوني، وهكذا أصبح أو يجب أن يصبح في حسابات قوى الممانعة والمقاومة العربية والإسلامية. من هنا ينبع حرص السيد نصر الله على مواجهة احتمال شنّ الحرب على لبنان وسوريا بتوجيه رسالة تحذير وإنذار رادع للعدو: «إنّ المقاومة في لبنان تملك العزم والإرادة، كما تملك الرجال الرجال، والسلاح اللازم والكافي إن شاء الله، وإن المقاومة تملك العلم والخطّة الدقيقة العلمية المناسبة للدفاع، وإنّ المقاومة تملك القدرة على الإدارة والسيطرة، وإن المقاومة جاهزة ليلاً ونهاراً وفي كل المواقع للدفاع عن جنوب لبنان وعن كل لبنان. ليس الدفاع فحسب، بل هي متوثّبة لتصنع الانتصار التاريخي الذي يغيّر وجه المنطقة»...
هكذا ربط قائد المقاومة بين رسالته الرادعة إلى العدو ورسالته الزاجرة إلى أصدقاء حليفة العدو، أي إلى أميركا الساعية إلى تنظيم المشهد اللبناني على نحوٍ مؤاتٍ للعدو. لا سبيل إلى الفصل بين الرسالتين. إنهما من المرسِل نفسه إلى المرسَل إليه نفسه في مكانين قريبين لكنهما يمثّلان جزءاً من مشهدٍ إقليمي واسع شاسع سيكون، على ما يبدو، مسرح الحرب المحتملة.
إذ تتوضح مدلولات خطاب نصر الله المحلية والإقليمية وتتكامل في الزمان والمكان، ينهض سؤال: إلامَ يرمي خطاب قائد المقاومة، وهل يسبّب تفشيل مسعى الدبلوماسية الفرنسية ــــ الأميركية لإقناع الأطراف اللبنانيين المتصارعين بالاتفاق على مرشّح توافقي لانتخابه رئيساً للجمهورية؟
ليس من الغلوّ القول إنّ خطاب السيد نصر الله يرتقي إلى مصاف الهجوم السياسي والاستراتيجي الهادف إلى ردع العدو الأميركي ـــــ الصهيوني وصولاً إلى إجهاض هجومه المحتمل على المستويين المحلي والإقليمي. غير أنّ تأكيد نصر الله على خيار التوافق من جهة، والمبادرات التي اقترحها لمعالجة الخلافات القائمة بين قوى الموالاة والمعارضة من جهة أخرى، تسمح للمراقب المشارك بأن يترقب التطورات الآتية:
• مسارعة الدبلوماسية الفرنسية إلى تكثيف جهود إضافية من أجل تضييق فجوة التباين بين قوى الموالاة والمعارضة، ولا سيّما لجهة التوافق على اسم رئيس الحكومة ومضمون البيان الوزاري.
• احتمال قيام إدارة بوش بممارسة ضغط على حلفائها لانتخاب مرشّح توافقي من خارج صفوفهم ومقبول من قوى المعارضة، بالإضافة إلى تأليف حكومة يكون للمعارضة فيها حصة لا تقل عن 13 وزيراً من أصل ثلاثين، وبيان وزاري يلبيّ طلباتها وحاجاتها. كل ذلك لتفادي انفجار وفوضى عامة يميل بعض أركان إدارة بوش إلى الاعتقاد بأنها ستكون في مصلحة قوى المعارضة في هذه الآونة.
• في حال تمسّك النائب وليد جنبلاط والدكتور سمير جعجع وحلفائهما في صفوف قوى 14 آذار بموقفهما السلبي من مسألة المرشّح التوافقي من جهة، وتمسّك قوى المعارضة بالعماد ميشال عون مرشّحاً توافقياً من جهة أخرى، فإنّ المفاوضات تصبح مرشحة للانهيار والمشهد السياسي مفتوحاً على شتى صنوف الاضطراب السياسي والأمني.
لبنان على مفترق . هل يتّحد أبناؤه ليحموه؟
* وزير سابق