نسيم ضاهـر *
عرف لبنان منذ فجر الاستقلال نماذج رئاسيّة استنفدَت جعبة الأوصاف، فضلاً عن رؤساء حقبة الانتداب غير المشمولين بالإحصاء، المبَعدين عن الذاكرة بعامل الاعتبارات السيادية. انتهت معظم العهود إلى نقيض المُرتجى الموعود بادئاً، وكرّت سبحة الإخفاقات في البناء على الموصوف؛ أجبرت ثورة بيضاء رجل الاستقلال الممدَّد له بشارة الخوري على الترجّل عن صهوة جواده، وواجه فتى العروبة الأغرّ كميل شمعون التيار العروبي ومتاريس المقاومة الشعبية. كما أخفق وريث الشهابيّة شارل حلو في مواجهة الحلف الثلاثي وبدء النشاط الفدائي مرفَقاً بعمليات انتقامية إسرائيلية واسعة، بينما انكفأ الفارس الزغرتاوي سليمان فرنجية إلى الكفور، نتيجة اندلاع حرب السنتين الدامية، وحمل الناسك إلياس سركيس صليبه ومضى إلى المراوحة والشلل إزاء الاجتياح الإسرائيلي.
طُويَت صفحة من تاريخ الصراع مع مجيء بشير الجميّل في ظروف مأساوية أودت به نيزكاً انطفأ قبل استلام العهدة، وأملاً بنظر أتباعه، غاب في ريعان الشباب وقمة المجد. ولم يفلح وريث العائلة أمين الجميل في تمرير الاستحقاق الرئاسي وتسليم الأمانة، فسار لبنان إلى فراغ وثنائية سلطة، وهو الرئيس العنيد المعوَّل عليه أصلاً في إشاعة الاستقرار وإرساء المصالحة الوطنية الجامعة. مُذ ذاك، عالجت الوصاية القادمة من اتفاق الطائف مسألة الرئاسة الأولى، فسقط رينيه معوّض ضحية وقرباناً على مذبح الاستقلال في يوم ذكراه، وشُطِب لمجرّد إبداء الممانعة، ليستقرّ إشغال قصر بعبدا على تعيين مموّه باستنساب، وتمديد مغلَّف بحكم الضرورة وإكمال المسيرة، على قاعدة تعديل دستوري تلطَّى وراء الاستثناء لِمرّة واحدة من باب التلطيف والتزيين.
توّج قدوم الرئيس إميل لحود مقولة استتباب الأمن وعودة الدولة تمهيداً لتصليب مناعتها ومنعتها على يد باني المؤسّسة العسكرية من ركام التشظّي وانشطار الولاء. تعهّدت هذه المعزوفة بإيصال لبنان إلى شاطئ الأمان، واستدعت تطويع المعارضين وإسكات مُناهضي النظام الأمني، بذريعة الإنجازات القومية وتوظيف مفاعيل التحرير من الاحتلال الإسرائيلي، إلى أن بدأ مسلسل الاغتيالات وحصد رموز وأبرياء قبيل الخروج السوري من لبنان وبعيده، فغرقت البلاد في أزمة سياسية حادّة قلَّما شهدت لها مثيلاً، وانقلب حلم الناس وفرحهم بالآتي لمداواة أوجاعهم على حصان أبيض، إلى كابوس جاثم ينتظرون خاتمته بفارغ الصبر.
أهي لعنة الرئاسة تلك التي نجا من طوقها فؤاد شهاب وحيداً، وجانب الياس الهراوي بعض تبعاتها بظرافة المستسلم المسالم وحكمة القروي العَارف؟ أم أنّها لعبة تناتُش وشجار وخلاف قسمة ونصيب برع فيها الموارنة تقليدياً، وفاتهم اليوم تبدُّل قواعدها ونصاب معادلتها؟ المؤكّد بمعزل عن نوستالجيا ليلة الصيف الساكنة في وجدان الحالمين، أنّ أصولها قد أفلتت من حلبة الصراع المسيحي، وحطّت في دائرة المتغيّرات وحكم التجاذبات العاصفة بلا هوادة جرّاء موازين القوى داخليّاً وواقع اللوحة الإقليمية المحفوفة بالصراعات والمخاطر.
عبثاًَ ينشد طلّاب البراءة إلباس الاستحقاق الرئاسي ثوب اللبننة والتغاضي عن حجم المؤثّرات الخارجية، اختباراً للإرادة الوطنية وانتصاراً للعُذرية، فما هم عن الفضائح والإملاءات بغافلين، ولا هم على تحييد معركة الرئاسة وأبعادها عن الملابسات بقادرين. ليس في هذا الأمر من ملامة أو تهمة استتباع في المطلَق، لأنّ قاموس السياسة الدولية على هذا المبنى، وناموسها على هذا الميزان، والالتحاق بالمعسكرات على أنماط ودرجات. في الوقت ذاته، يأبى منطق السياسة الواقعي المعهود، الركون إلى الجوامد والمسلّمات، ويُترجم المرونة مقبولية متبادلة وربما تسويات يغيب عنها المبادأة بالمحال والمنتهى بالمستحيل، تفرد حيِّزاً للفرقاء المحليّين ومتّسعاً لمفكّرتهم بقدر حرصهم الإرادي على ما يرونه من دور وحراك في استقلال نسبي تضيق رقعته أو تتمدّد تبعاً لمنطلقهم العقيدي ومفهومهم السيادي.
تشاء العلاقات الدولية، في كونيّتها الراهنة والمؤسّسات المنبثقة من حاضنتها الأمميّة، أن يؤدي الكبار أدواراً تقضم من حصرية القرار الوطني، وتتداخل مع المراد الدولتي. يصحّ هذا التقييد على مختلف الأوطان، كبيرها وصغيرها، ويُلقي بثقلهِ على المجموعات الإقليمية.
ولئن عانت حدود الجغرافيا وصناعة السياسة من حضور العامل الخارجي وفعله المباشر، المبطّن أو السافر، والمعنون دبلوماسياً مواكبة أو رعاية أو وصاية، فإنّ فصيحه استخدام وسائل الضغط النابعة من موقع القوّة ونزعة التعاطي غير المتكافئ بدافع «إمبريالي» حيثما لاحت فرصة تجاور إقليمي أو مصلحة استراتيجية.
على هذه المقوّمات يتبدّى مدى لا تاريخية الهروب إلى الوراء، واللجوء إلى المربّع الموقوف على مكوِّنات بعينها، كالقول بإيكال أمر رئاسة الجمهوريّة إلى المسيحيّين، واضطلاعهم بإيجاد الحلّ على سبيل الأولويّة والامتياز، واعتبار ذلك دواءً شافياً يُنقذ القرار من التدخّل الأجنبي ويُحيي المنطق السيادي. فحيث تصعب اللبننة الصافية، يتعذّر على المخرج الفئوي المرتدّ إلى ما دون الدولتي الحفاظ على النقاوة والاستقلاليّة الكاملة. بذلك تُدَكّ الأسافين في مدماك العمارة الوطنية، ويتّخذ المسار منحى القهقرى والعيب البنيوي، وصولاً إلى مقترحات زائفة تتّصل بالبدعة وتُحيل إلى مقام بكركي الروحي، مسؤولية وصلاحية تسمية الرئيس العتيد خلافاً للمبادئ الدستورية والممارسة الجمهورية.
تفيد معاينة الجاري من لقاءات ومبادرات توفيقية تلتفّ على الوفاق المرجأ، إنّ المداولات تزاحم الاستعصاء وتعمل على تفادي الوصول إلى طريق مسدود أغلقته طموحات العظمة، متّكئة على النرجسية البائِنة ووصولية قافلة من المُسترئسين بغير أوراق اعتماد تُذكَر. الحال أنّ قنديل ديوجين بهتت شعلته الدستورية في غمرة التطواف وغموض موقف الطرف الممانع الملوّح بعدّة خفيّة سنداً لتفسيرات انتقائية تتناول أصول اللعبة الديموقراطية ومبدأ الانتخاب. لذا استوطن النقاش مملكة السوريالية، تدور رُحاه بين نصاب وأكثرية مطلَقة، وتبتعد عن التيسير المفترَض المعمول به في كل الدساتير.
فمن النافل أنّ سلاح النصاب المشهور من المعارضة تكتيك بامتياز للمناورة، شكلي عملاني، لا يجرؤ على مخاصمة النصّ المثبَت دستورياً والقاضي بجواز الانتخاب بالأكثرية المطلَقة عقب دورة اقتراعيّة أولى. وإذ يحتجّ الساهرون على النصاب بمفعوله، يعود إليهم تأمينه إذا ما أرادوا احترام العُرف. ولن يغيّر حضورهم للمشاركة في الاقتراع النتيجة على قاعدة الأكثرية المطلقة المتوافرة مبدئياً.
في المقابل، ليس من شكّ أنّ المعارضة تملك مفتاح الحلّ السياسي وتحصين الرئاسة بتأييد واسع ينزع عنها صفة البتراء والخصومة، ويجعل من الرئيس الجديد قاسماً مشتركاً على مسافة نظامية من جميع الأطراف. فوفق المبادئ القانونية المستقرّة، لا يُعتدّ فاعل بسلوكه للانتقاص من حقوق الغير، ولا يمكن مقايضة الانتخاب السرِّي، أي الجوهري بمسألة إجرائية ظرفيّة متبدّلة اسمها النصاب.
إنّ حسنات التوافق، في ظروف الانقسام الحادّ، بادية للعيان، لا يحوجها برهان. سوى أنّ تشعُّب الملفات السياسية يسمح بالتنازلات المتبادلة والأخذ والعطاء وتجميد النقاط الخلافية، فيما تستحيل قسمة المنصب الواحد في الاستحقاق الرئاسي، الذي يؤول إلى شخص بالذات، يحتّم عليه أن يكون حكماً في موقعه، ضنيناً بالمؤسّسات، بعيداً عن الخلافات.
وعليه، ثمّة مقاربة مختلفة في مجالي السياسة والانتخاب، أكثر مرونة على مساحة السياسة، وأصعب تجسيداً في مسألة الانتخاب، حيث يترتّب على منع الفوز خسارة للجميع وإدخال البلاد في فراغ دستوري ونزاعات.
إغفال هذه المعادلة مثابة استبدال قنديل ديوجين بفانوس سحري، والدوران في دائرة مفرَغة، أو بالأحرى إفراغ الساحة من مستحقّي الرئاسة الأولى والمجلس النيابي من صلاحيّاته، وزجّ الاختيار في بازار عجيب يخوّل طارئاً مغموراً الجلوس في مقصورة القيادة، ناتج نفي واستبعاد لا نعمة استحقاق.
* كاتب لبناني