إسكندر منصور *
السؤال الذي لا يزال مطروحاً وبحاجة إلى جواب أو أجوبة، يدخل في صميم الشروط الضروريّة لاستقرار لبنان واستمراره وطناً متماسكاً وصلباً أمام العواصف العاتية، الإقليميّة منها والدوليّة، التي ما زالت تعصف به منذ أن وُلِد الكيان اللبناني كياناً سياسياً مستقلاً ذا حدود معترف بها دولياً.
إذاً السؤال لا يدخل ضمن الشروط الوجوديّة للكيان اللبناني، لكون لبنان موجوداً بالفعل، بل يدخل ضمن الشروط التي توفر استقرار هذا الكيان واستمراريّته في الوجود بلداً حراً وسيداً ومستقلّاً وفاعلاً في جامعة الدول العربيّة ومؤسّساتها لكونه عربي الهويّة والانتماء.
نحن أمام رؤيتين لطبيعة العلاقة بين الدولة والنظام السياسي في الشروط اللبنانيّة.
الرؤيا الأولى يمثِّلها أصحاب الفصل بين الدولة من جهة، والسلطة/النظام السياسي من جهة أخرى. الفرضيّة تقول إنّه علينا الآن، لا بل من أولوياتنا غير القابلة للتأجيل، أن نؤسّس أوَّلاً الدولة المستقلّة الحديثة ذات السيادة، ومن ثمّ ندخل في نقاش حول النظام السياسي وشكله ومعالمه، ونختار النظام الانتخابي «الأفضل»، ونناقش إذا كانت الديموقراطيّة التوافقيّة نعمة أو لعنة، وربّما أيضاً سنولي بعض اهتمامنا لطرح المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعانيها
لبنان.
إذاً المسألة تدخل في إطار الأولويّات بالنسبة إلى أصحاب إمكانيّة الفصل بين الدولة والنظام السياسي. فقبل النقاش أو حتّى قبل طرح السؤال عن أي لبنان نريد، أو أي نظام انتخابي يصلح للبنان، أو طبيعة علاقات لبنان مع محيطه، علينا أن نعمل ونؤكّد وجود هذا «اللبنان» واستقلاله وسيادته.
مقابل أصحاب مقولة إمكانيّة الفصل، هناك الذين يقولون إنه يوجد علاقة أو ترابط ضروري بين قابليّة الدولة اللبنانيّة للاستمرار في الوجود، وبين طبيعة النظام السياسي في لبنان. فهم يستمدّون التأييد لمقولتهم من تجارب وأحداث جسام مرّت على لبنان كادت تعرّض الوطن ووحدته ووجوده للخطر، حيث كان النظام السياسي عائقاً أمام الحلول الضروريّة لتفادي الانفجار، حتى وإن كان بعض الأسباب يرجع إلى عوامل إقليميّة، وأحياناً دوليّة.
إنّ أصحاب مقولة الترابط يحذّرون من أنَّ عدم الإصلاح أو التباطؤ في الإصلاح السياسي، سيؤدّي حتماً إلى انفجارات مماثلة لما حصل ويحصل في لبنان. هذا التباين في مقاربة هذا الموضوع بين الرؤيتين المذكورتين يقودنا إلى طرح السؤال بصيغة
أخرى.
هل النظام السياسي اللبناني القائم على فرضيّة أن لبنان يتكوّن من مجموعة طوائف تعاقدت في ما بينها لتؤلّف وطناً تحت مظلّة توافق الطوائف، أو ما سُمّي الديموقراطيّة التوافقيّة، قادر على أن يحمي البلد ويوفّر استمرار وحدته ووجوده في وجه الرياح العاتية الإقليمية منها والدوليّة؟ هل النظام السياسي الحالي في لبنان يتمتع بمناعة أمام محاولات القوى الخارجيّة التدخل في شؤون لبنان الداخليّة؟ هل التركيبة الداخلية تشرّع الأبواب أمام الطامحين إلى دخول لبنان من بوابة مساندة طائفة ضدّ الأخرى في صراعها على الوطن؟ أو بكلام آخر هل تناحر الطوائف، نتيجة النظام السياسي الهشّ، يؤدّي دوماً إلى الاستقواء بالخارج لترجيح طائفة على أخرى عوضاً من الانخراط في إيجاد صيغة سياسيّة تحول دون الانفجار؟
إنّ مقولة فصل الدولة وإمكانيّة بقائها أو استمراريّتها بمعزل عن النظام السياسي في لبنان كانت مقولة خاطئة في لبنان ماضياً وحاضراً وربّما مستقبلاً.
استناداً إلى تاريخ لبنان منذ نشوئه حتّى اليوم، فإن النظام السياسي القائم على الاعتراف بالمواطنة عبر الطائفة، والنظام الانتخابي، وهويّة لبنان وطبيعة توجّهه القومي والإقليمي، وإلى حدّ ما سياسته الاقتصادية والاجتماعيّة، كانت وما زالت ضرورات لاستمراريّة الكيان اللبناني. فمعظم المحطّات المتفجّرة في تاريخ لبنان كادت تطال وجود لبنان دولةً وكياناً. فحوادث 1958 و1969 و1973 و1975 والأزمة الراهنة التي بدأت تعصف بلبنان نتيجة اغتيال الرئيس الحريري، كلّها تنتمي إلى هذا النوع من الأزمات الوجوديّة بالنسبة إلى لبنان، المهدِّدة لوحدة الوطن ووجوده بلداً موحّداً لجميع أبنائه ضمن حدود معترَف بها دولياً. فقابليّة الأزمات الإقليميّة للتأثير في الأوضاع الداخليّة اللبنانيّة رهن بمدى هشاشة الوضع الداخلي أو بمدى تماسكه.
وللأسف حتى الآن ما زال الوضع الداخلي هشّاً نتيجة النظام السياسي الضعيف والمفتِّت لوحدة أبنائه الذي ما زال قائماً يعيد إنتاج نفسه، كأنّه قدر، من خلال ظاهرة دعاها البعض بفخر وما زالوا «المعجزة
اللبنانيّة».
ليس من قبيل الصدفة أنّ الأزمات التي عاشها لبنان كانت تستدعي قلقاً من الذين يتمنّون لهذا الوطن السلام والاستقرار. فالأزمات التي عصفت به لم تكن حدثاً عابراً، بل شاهد على هشاشة نظامه وأسسه السياسية والاجتماعية والثقافيّة. فالرياح الناصريّة دخلت في مجابهتها مع مشروع أيزنهاور على الأراضي اللبنانيّة نتيجة الخلل الذي كان قائماً في هرم السلطة السياسيّة وتوزّعها حسب الميثاق الوطني اللبناني.
وهذا الخلل يكمن في كون «المارونيّة السياسيّة» كانت قد أصبحت الطرف المهيمن شبه المطلق على المسار السياسي داخلياً وإقليمياً ودولياً. فالرئيس كميل شمعون المطلق الصلاحيات، وضع لبنان في تحالف إقليمي يتعارض مع توجهات أكثرية اللبنانيّين ويتعارض مع هويته بلداً عربياً ملتزماً بالقضايا العربيّة ضمن استقلاليّة واضحة.
فالأزمة ببعدها الدولي المتمثّل بمشروع أيزنهاور وببعدها القومي المتمثّل بتصدّي الناصريّة للأحلاف العسكريّة المناهضة لطموحات شعوب المنطقة، انعكست خللاً داخلياً كامناً في ميثاق 1943، ما أدّى إلى انفجار لم توقفه إلا صيغة مؤقّتة وغير مكتوبة عُرفت بـ«صيغة الخيمة» نسبة إلى اللقاء الشهير بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس فؤاد شهاب في خيمة تقع على الحدود اللبنانيّة ــــــ السوريّة.
هذا اللقاء ليس إلّا التناغم المطلوب ما بين العروبة الناصريّة والوطنيّة اللبنانيّة العربيّة الانتماء بمقدار ما تؤكّد العروبة استقلال لبنان.
إنّ هيمنة الموارنة، منذ إنشاء دولة لبنان حتى اتفاق الطائف، السياسيّة والاقتصادية والثقافيّة، أمر لا جدال فيه، حيث تمثّلت الهيمنة السياسيّة بصلاحيّات رئيس الجمهوريّة. فالسلطة الإجرائيّة التي كانت بيده، وقيادة الجيش، وحاكمية مصرف لبنان جعلت من المعارضة للهيمنة المارونية تكبر وتتحوّل إلى مطالبة علنيّة وجدية بالمشاركة في القرار السياسي، أي أنّ القرار السياسي يجب أن لا يكون حكراً على المسيحيّين عامّة والموارنة خاصة. ولقد عبّر الرئيس الشهيد رشيد كرامي عن هذا التأفّف والتذمّر عندما أعلن ترشيح نفسه لرئاسة الجمهوريّة. بالطبع هذا التأفف من جانب القيادات الإسلاميّة ورفع الصوت، لم يحصل في جو طبيعي ومستقرّ، بل أخذ مكانه بعد حرب 1967 وحوادث 1969 و1973 بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية.
الأزمة السياسيّة التي واجهها النظام اللبناني عكست إلى حدّ ما عدم إمكانيّة النظام السياسي الطائفي استيعاب الأزمة الإقليمية والتعامل معها. ربّما كانت أيضاً نتيجة عدم الإعداد التام لوضع كان يتطلّب من لبنان أن تكون قوّته بقوّته لا بضعفه. لقد أصبح النظام الطائفي ذو الهيمنة المارونيّة عبئاً على الوطن وخطراً على وحدته واستقراره.
وكلّما تعرّض لبنان لخضّات ذات طابع إقليمي أو دولي، كانت الأزمة الخارجية تنعكس على الوضع الداخلي الهش أصلاً، فتغرق الدولة في أزمة حادّة كثيراً ما كان الوطن ووحدته من ضحاياها.
وهذا ما حصل منذ 1943 مروراً بما عرف بثورة 1958 وبدء الحرب الأهليّة سنة 1975 حتى إقرار الطائف. وبعد الطائف، دخل الوطن عهد الهيمنة والوصاية السوريّتين حيث أُعيد إنتاج الصيغة اللبنانية بأدوار مختلفة أدّت فيها سوريا دور «الطائفة» المهيمنة وتحولت بقيّة الطوائف إلى تأدية أدوار مساعدة تكرّس الأمر الواقع وتوفر استمرار الدور الأول للطائفة
المهيمنة، سوريا.
كان اغتيال الحريري وما تبعه من اغتيالات طالت بارزين في الحياة الثقافيّة والسياسيّة اللبنانيّة، بداية الانحسار وتراجع الدور السوري حتى الانسحاب العسكري التام من لبنان. لقد أدّى هذا الانسحاب إلى كشف عورة النظام السياسي اللبناني أكثر فأكثر. وها نحن بعد مرور سنتين وأكثر على «ثورة الأرز»، لم نشهد أي تغيير جوهري في صلب النظام اللبناني، أكان في النظام الانتخابي أم في دائرة علاقة المواطن بالدولة خارج الدور الوسيط للطائفة، وهذا يعود إلى طبيعة وبرامج القوى المتحالفة، في الموالاة والمعارضة، وعدم توافقها على إحداث تغيير في جوهر النظام السياسي اللبناني. إنّ الأزمة السياسيّة المستمرة التي كان التعاطي مع حرب تموز وتأليف الحكومة وانتخابات الرئاسة من مظاهرها البارزة، مرشّحة للاستمرار مع نتائج كارثيّة بأبعاد وجوديّة إذا لم ينتقل مفهوم المواطنة وعلاقتها بالدولة، من علاقة مقيدة تمرّ عبر الطائفة إلى علاقة مباشرة وحرّة عبر المؤسّسات.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة