صباح علي الشاهر *
في هذا الزمن الذي يُراد أن يُهيمن فيه قطب واحد أوحد، قطب يدّعي أنه حامل لواء الديموقراطية والليبرالية، وحامي حقوق الإنسان والحيوان والنبات، تزداد وعلى نحو مريع ـــــ وحيثما دسَّ هذا القطب أنفه ـــــ المناطق المشتعلة، أو التي على وشك الاشتعال. فلماذا تدمّر بيوت وقرى ومدن وأوطان؟ سؤال من بين كلّ الأسئلة يبحث عن جواب.
حينما كان العالم يشكو من سياسات الحرب الباردة وصراع الجبّارين، وهيمنة الأنظمة الشمولية، كما يقولون، كانت المساحات المضطربة في شرقنا العربي والإسلامي، وحجم الدمار أقلّ. وعندما أصبح العالم أحادي القطب، تتحكّم به العمّة أو الخالة أميركا، وعلى قول إخوتنا المصريّين (ماما أميركا)، اشتعلت منطقتنا كلّها تقريباً، وعمّها فساد لا مثيل له.
أينما تضع إصبعك على خريطة ما سُمّي الشرق الأوسط، لا يهمّ أكان كبيراً أم صغيراً، فإنّك تقع ولا شك على حرائق تبدأ ولا تنتهي، وألغام على وشك الانفجار.
أرادوا التخلّص من «طالبان» وبناء الديموقراطية في أفغانستان، فأشعلوا حريقاً لم يعد بإمكانهم إطفاءه حتّى لو أرادوا، وهم لا يريدون ما لم يستقم الأمر لهم على النحو الذي أملوا وخطّطوا.
دمقرطة أفغانستان تُرجمت خراباً وموتاً، ولم يجنِ هذا الشعب المُبتلى من حلم الرفاه الأميركي الذي وُعد به سوى نعمة أن يُحكم من العملاء الفاسدين.
وزعموا أنّهم أرادوا القضاء على النظام الديكتاتوري في العراق لأنّه يهدّد أمن المنطقة والعالم، بعدما تخلّوا عن فرية أسلحة الدمار الشامل التي جاءوا للقضاء عليها، فأصبحوا هم وجيوشهم ومرتزقتهم أخطر ما يُهدّد استقرار المنطقة والعالم. ومنذ ما يُقارب خمس سنوات، وهم غارقون حتى الهامة في المستنقع العراقي الذي ستُدفن في وحله أحلام إمبراطوريتهم.
على هامش احتلال أفغانستان، فجّروا باكستان التي لا ولن تهدأ إلّا بالخلاص كلياً من التبعية لأميركا، وانتهاج سياسة مستقلة لمصلحة الباكستانيّين قبل كل اعتبار، لا المصالح القومية الأميركية التي لا يعرف أحد حدودها ومداها. لم يكن المطلوب من الهيمنة على أفغانستان التمدّد بحرية نحو دول بحر قزوين فحسب، بل أيضاً الانقضاض على كل الدول الآسيوية التي كانت تندرج في ما كان الاتحاد السوفيتي سابقاً. وما ذريعة الحرب على الإرهاب إلا عنواناً مُخادعاً، يخفي وراءه عناوين فرعية من العيار الاستراتيجي الثقيل، كمحاصرة روسيا والصين، والسيطرة على طريق النفط من بحر قزوين إلى شرق المتوسّط، ووضع إيران في فكّي كمّاشة، باعتبارها الهدف التالي
للتحرّك.
لا بدّ من تصفية الحساب، عاجلاً أو آجلا، مع المارد الذي خرج من قمقمه، والتهيّؤ لتصفية الحساب المؤجّل مع روسيا التي لم تمت وإن ضعُفت. إنّها خطر شاخص لا بدّ من أن يُؤخَذ بالحسبان. ها هي روسيا بوتين تنهض من جديد، وتقف في وجه تمدُّد أميركا لا لدواع أيديولوجية، كما كان يحدث سابقاً، بل لدواعي المصالح، فمثلما لأميركا مصالح كذلك للروس.
أسخف تحليل قرأته منذ فترة هو لكاتب أميركي يقول إنّ ما يحدث في دول بحر قزوين إنّما هو حرب الكافيار! هذه محاولة بالغة السذاجة لصرف النظر عن الأسباب الحقيقية لِما جعل أميركا تغامر على ضفاف قزوين وتدسّ أنفها في كل شاردة وواردة فيه. فهذه المنطقة أصبحت، ومنذ العقد الأخير من القرن الماضي، منطقة استراتيجية عالمية بسبب كونها مستودعاً واعداً بالنفط، إذ تقدَّر الاحتياطيات المحتملة للبترول بـ200 مليار برميل. أمّا احتياطيات الغاز فتقدَّر بأكثر من 9 تريليونات متر مكعّب مؤكّد وجودها، مع احتمال وجود أكثر من 8 تريليونات متر مكعب أخرى. ويُتوقَّع أن يصل إنتاج النفط في دول قزوين في عام 2010 إلى أكثر من أربعة ملايين برميل يومياً، ولذا هذه المنطقة مرشّحة لأن تكون بؤرة صراع جديدة.
النفط هو كلمة السر والمفتاح الأساسي لكلّ ما حدث ويحدث في المنطقة، لا باعتبار سلعه البالغة الأهمية والربحية فقط، بل لأنّها أهمّ سلعة استراتيجية في هذا العصر، يتوقف على الهيمنة عليها والتحكم بها مستقبل القطب الأوحد في العالم حاليّاً. فبهذه الهيمنة، وبهذا التحكّم، لا تنفرد أميركا بالهيمنة على العالم فقط، بل تحول عملياً وفعلياً دون انبثاق أقطاب أخرى. وإن حدث فستكون هذه الأقطاب، على رغم كلّ جبروتها الاقتصادي، مرهونة وتابعة لاقتصاديات القطب الأوحد. إذا كانت أميركا متحكّمة بإنتاج النفط وتسويقه، فستكون سيّدة العالم بلا منازع، ولأمد غير منظور، أو على الأقلّ ما دامت اقتصاديّات العالم تعتمد على النفط بصفته عصب الإنتاج.
السبب عينه تقريباً هو ما حرّك لعاب الأميركيّين، ودفعهم لغزو العراق واحتلاله. فهل سيتم لواشنطن ربط نفط قزوين بنفط الخليج؟ يبدو ظاهريّاً، وللوهلة الأولى، أنّه لم يعد ثمّة من عائق سوى تلك التي تسند رأسها إلى حوافي قزوين، وتنسرح على شواطئ الخليج الدافئة. ولكن هل حُسم الأمر حقّاً لأميركا في بحر قزوين، كي يصبح العائق الأوحد إيران، أم الأمور جرت على نحو آخر، بعدما استيقظ الدب الروسي من غفوته؟
اجتماع الدول المطلّة على بحر قزوين، وإنشاء تحالفها الجديد هو الردّ. لقد قلب تحالف دول قزوين الطاولة، وغيّر قواعد اللعبة. أمّا خطّ أنبوب الغاز من تركمانستان إلى أوروبا عبر روسيا فكان طعنة نجلاء في الخاصرة، فهل يمكن بعد هذا، الادّعاء أنّ الوضع في بحر قزوين قد حُسم لمصلحة أميركا؟ واستطراداً، هل حُسِم الوضع في أفغانستان كلياً؟ وهل يستطيع أحد الزعم أن رجل أميركا في باكستان ينام ليله مطمئناً، وخصوصاً هذه الأيام؟ وهل لأحد أن يتصوّر أنّ جنوداً مدحورين وخائفين، تتفشّى بينهم آفة المُخدّرات، ويتسابقون للهرب من الميدان، يمكنهم أن يُقامروا ويشنّوا حرباً أخرى؟ وحتى لو فعلوا، فهل ستكون حربهم المنتظرة أفضل حالاً من حروبهم السابقة؟
من سيضع الجواب عن سؤال: لمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف؟
* كاتب وصحافي عراقي