strong>ماجد الشيخ *
مثّل الدخول الفرنسي إلى خطّ العلاقة المتوترة بين إيران والولايات المتحدة عبر التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية برنار كوشنير، وما أثارته من تعليقات وتوضيحات، عودة قوية للحديث عن الخيار العسكري، وسط تباين أميركي ـــــ أوروبي، يسعى فيه الطرفان الى هزّ العصا في مواجهة طهران. وإن كان الأوروبيون ينظرون إلى الحرب كخيار أخير، فإنّ «العقوبات الفعالة» قد تكون بديلاً للحرب في منظورها الأميركي، رغم أن الاتحاد الأوروبي يعمل على درء خطر تحركات أحادية من جانب الكونغرس الأميركي لمعاقبة شركات أجنبية تتعامل تجارياً مع إيران، وذلك خشية خسارة مليارات الدولارات وفتح باب الاقتصاد الإيراني واسعاً أمام الشركات الروسية والصينية وحدها، وما يرتّبه ذلك من خسائر لشركات أوروبية تستثمر في إيران أو تتعامل تجارياً معها، وهدّد الأوروبيون باللجوء الى منظمة التجارة العالمية إذا اقتضت الضرورة.
وحدها إسرائيل أظهرت «طرباً» لا حدود له إزاء أحاديث الحرب الفرنسية ومن قبلها ومن بعدها الأميركية. فيما استبعد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية محمد البرادعي خيار استخدام القوة، متعهّداً حثّ الجميع على نبذ الحرب، وهو ما أثار ولا يزال مواقف المتطرّفين داخل الإدارة الأميركية ومعها إسرائيل بالطبع؛ فخيار الحرب لديهم راجح لا محالة، رغم الأخطار والتداعيات المحدقة بكل ما يحيط بالمنطقة من «انزلاق استراتيجي» نحو الخراب والدمار والاحتراق، والغرق في مستنقع «عراق فيتنامي» يتّسع باطّراد، موسّعاً معه تلك المغامرة المقامرة من لدن المحافظين الجدد أو بقاياهم، الذين تتجسّد اليوم وقائع هزيمتهم عبر معطيات الحرب على الإرهاب والحرب على كل من أفغانستان والعراق؛ كما في حرب تموز على لبنان العام الماضي، وإجهاض ولادة «الشرق الأوسط الجديد» كما أملوا ورغبوا. ذلك كلّه يمثّل إشارات حقيقية لخسارة مستقبلهم، وبالتالي اتجاههم الحالي للمغامرة بمستقبل الإمبراطورية.
وسط هذه المعمعة الفوضوية «الخلاقة»، هل تمثّل الحرب على إيران حاجة ملحّة للخروج من العراق، أو لبدء الانسحاب التدريجي منه في بداية العام المقبل، أو للغرق أكثر في وحول حرب أو حروب إقليمية تستدعي واحدتها الأخرى؟
لقد باتت الإدارة الأميركية تدرك أكثر من أي وقت سبق، أن صراعها على العراق بعد إسقاطها النظام السابق، لم يعد مع الشعب العراقي أو بعض قواه، بل مع إيران تحديداً، حيث التسابق على حسم معركة الهيمنة والنفوذ تحتدم بين القوات الأميركية وقوات مرتزقتها من الشركات الخاصة الأمنية، وقوات الجيش والشرطة غير المؤهّلة بعد لأي مهمات أمنية أو سياسية، وبين قوى عراقية محسوبة على إيران وقوى إيرانية (وخصوصاً في الجنوب)، تحت ذرائع الدفاع عن الاحتلال وإفرازاته ومصالح القوى المحتلّة وتحالفاتها المحلية من جانب القوات الأميركية، وأهداف عدم وقوع العراق والشعب العراقي والاحتياطي النفطي بأيدي قوات الاحتلال وحرمان قطاعات واسعة من الشعب العراقي ثرواته الطبيعية وريعها ومردوداتها المنهوبة.
وفي ذكرى الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، حملت الإشارات العسكرية الإيرانية رسالة واحدة في أكثر من اتجاه، مفادها أن طهران تستعد أيضاً من خلال التصريحات المكثّفة للقيادة الإيرانية، مروراً بالاستعراضات العسكرية التي شملت صواريخ جديدة بعيدة المدى (1800 كلم)، لحشد واستجماع قواها لمواجهة الخيار العسكري الأميركي أو الغربي ضدها.
هذا فيما كانت الصحف الغربية تغرق الملف الإيراني بالتلويحات العسكرية، المؤكدة على أن واشنطن تستعد فعلاً للحرب، ونقلت صحيفة «صاندي تايمز» البريطانية في عددها الصادر في 23 أيلول الماضي عن مصادر دفاعية أميركية، قولها إن سلاح الجو الأميركي كلّف مجموعة من خيرة ضباطه، بوضع خطة استراتيجية شديدة السرية للحرب مع إيران. وأوضحت أن المشروع المسمّى «تشيكميت» الذي يقف خلف المجموعة التي خطّطت للحملة الجوية في حرب الخليج الثانية عام 1991، أُعيد إنشاؤه على نحو هادئ في وزارة الدفاع الأميركية في حزيران الماضي.
وأعادت صحيفة «نيوزويك» الأميركية نائب الرئيس ديك تشيني إلى قلب «الحدث العسكري»، حين ذكرت أنّه فكّر في مرحلة ما، أن يطلب من إسرائيل توجيه ضربات صاروخية محدودة إلى موقع «ناتانز»، وذلك بهدف دفع إيران إلى الرد. ونقلت عن مصدرين قولهما إن المستشار السابق لشؤون الشرق الأوسط لنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني دايفيد وورمسر الذي ترك عمله مع تشيني خلال شهر آب الماضي، أبلغ مجموعة من الأشخاص قبل أشهر، أن تشيني أراد أن يكون الرد الإيراني ذريعة لواشنطن لتوجيه ضربات جدية إلى إيران.
ومنذ أيّام، تابعت الأجهزة الأمنية الفرنسية تسريب أنباء عن عقد الإدارة الأميركية العزم على توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، وذكرت صحيفة «لوكانار انشينيه» الأسبوعية الفرنسية الصادرة يوم 26 أيلول الماضي أنّ الاستخبارات الفرنسية أعلمت الإليزيه أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد نقل إلى طهران، تقارير أمنية روسية تؤكد أن واشنطن ستقوم قريباً بشن غارات على المجمعات النووية الإيرانية، في فترة تمتد من السابع عشر من تشرين الأول غداة عيد الفطر حتى رأس السنة الميلادية. وسجلت الاستخبارات الفرنسية تحليق أسراب إسرائيلية ـــــ أميركية مشتركة في طلعات عديدة على مقربة من الأهداف الإيرانية. وقد تكون الغارة الإسرائيلية على سوريا في السادس من أيلول الماضي تندرج ضمن استعدادات إسرائيلية خاصة للتدرب على مهمة المشاركة في ضرب المنشآت النووية الإيرانية.
في هذا السياق، يمكن إيراد ما تخطط واشنطن لفعله في الفترة القادمة، من خلال نيتها الإبقاء على وجود عسكري طويل الأجل في العراق، وذلك لتأمين شبكة أمنية للعراقيين والدول الأخرى في المنطقة. وقد جاء الإعلان عن ذلك على لسان الرئيس بوش ووزير دفاعه روبرت غيتس، في جملة الأحاديث المتتالية عن الانسحاب التدريجي من العراق، وذلك في أعقاب صدور تقرير بيترايوس ـــــ كروكر في منتصف أيلول. وقال المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية ريتشارد هاس في مقالة نشرها في النصف الأول من شهر أيلول، أن الأمر يتعلق بوجود أميركي يبلغ نحو 75 ألف جندي لسنوات عدة، أي أكثر من ثلث عدد الجنود المنتشرين حالياً في العراق، والسنوات العديدة المقصودة، ربما كانت مشابهة لسنوات الوجود العسكري الأميركي في كوريا الجنوبية، رغم مضي خمسين عاماً على انتهاء الحرب الكورية، نظراً للصراع المحتمل مع إيران، وسيناريوهات مواجهة طموحاتها الإقليمية الى جانب طموحها النووي، ونظراً لاحتواء المنطقة على شرايين رئيسيّة من النفط والغاز والأسواق، ولضمان تدفقه وتدفق دماء القوة والغطرسة والعنجهية في شرايين إسرائيل في هذه المنطقة من العالم.
من هنا، فإن أزمة إسرائيل البنيوية، وإخفاقها في حرب بالوكالة عن الولايات المتحدة في تموز 2006 على لبنان من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط، قد يكون أحرج إسرائيل وأخرجها من معادلة الاعتماد الكلي عليها، لمواجهة النفوذ الإيراني، أو أي نفوذ إقليمي آخر بالتحالف والتوازي مع القوة الإيرانية الصاعدة تقليدياً ونووياً. ومن ضمن ما تعنيه هذه الإشارة، أنّ درجة الاعتماد على القوة الأميركية مباشرة ازدادت على حساب الاستعانة بالقوة العسكرية الإسرائيلية الجوية إذا قررت واشنطن المغامرة بتوجيه ضربة إلى المنشآت النووية والاستراتيجية الإيرانية مستقبلاً. ويهدّد هذا الاحتمال بإدخال المنطقة كلها في أتون حرب شاملة تتعدى في تداعياتها حرب البلقان اليوغسلافية بمرات عدة، نظراً لتداخل وتشابك النفوذ الإيراني مع تحالفات عربية متعددة في جبهات صراعية ساخنة من العراق الى فلسطين ولبنان والسودان والصومال، وصولاً الى تلك الجبهات غير المنظورة المفتوحة، جبهات صراعها مع فكرة «القاعدة» وشقيقاتها من السلفيات الأصولية التي قد تجد ضالتها وسط نيران الحرب المستعرة، لتوجيه ضربات متعددة هنا أو هناك، ليس ضد إسرائيل والولايات المتحدة أو المصالح الغربية عموماً فحسب، بل وضد أنظمة عربية «معتدلة»، وربما تفجير آبار نفط وغاز ومصالح محلية.
إن حرباً على الطريقة اليوغسلافية (القصف الجوي المكثف) ضد آلاف الأهداف الإيرانية النووية، والبنى التحتية الاستراتيجية، المدنية منها والعسكرية، لن يكون في مقدورها التأثير على القوة الاستراتيجية العسكرية الإيرانية الى الحد الذي يمنعها أو يشلها عن الرد على الأساطيل والقواعد العسكرية الأميركية وقصف فلسطين المحتلة مباشرة، أو بالواسطة من لبنان أو سوريا، وحتى توجيه ضربات ضد أهداف داخل المدن الخليجية أو قواعد عسكرية أميركية خارجها، وربما لجأ الإيرانيون الى قصف وتدمير منابع ومنشآت نفطية وإغلاق مضيق هرمز، وبالتالي منع تدفق النفط الى شرايين الاقتصادات الغربية.
مثل هذه الحرب التي قد تستخدم فيها واشنطن أراضي وبحار وأجواء دول مجلس التعاون الخليجي، فإن هذه الدول لن تكون في محميّة من الردود الإيرانية، ما يعني أن قرار الحرب الأميركي، يغامر بأمنها واستقرارها وبمصالحها وثرواتها من النفط والغاز وطرق تصديرها. فهل تستطيع دول المنطقة أن تؤدّي دوراً في الحد من الجموح الأميركي الساعي إلى الوصول الى الكارثة، وهي الدول التي سيكون نصيبها الأكثر تضرراً من الحرب؟
أخيراً يجدر التساؤل؛ لماذا يتم الحديث دائماً بلغة الحرب، ولماذا لا يجري استبدال ذلك بلغة الدبلوماسية؟ وهذا بالتأكيد يعني ضرورة الاتجاه نحو تحرك منسق لدول الجوار الإقليمي، على غرار المباحثات السداسية التي أوصلت الملف النووي الكوري الشمالي الى سكة حلّ دبلوماسي، رغم الاختلاف البيّن بين ملفي بيونغ يانغ وطهران، واختلاف المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية للولايات المتحدة في البيئة الآسيوية البعيدة، وفي البيئة الآسيوية الأقرب الى وجود قواتها في كل من العراق وأفغانستان، والأقرب الى وجود مصالحها الاستراتيجية الأهم، حيث منابع النفط والغاز والأسواق المفتوحة على مصاريعها.
هل تتجه الأمور فعلاً الى نسف كل هذا الوضع الذي يشهد استقراراً نسبياً وجزئياً، حتى في ظلّ الاشتباك الراهن ضد المصالح الأميركية في المنطقة والعالم؛ وإلامَ يطمح من بقي من المحافظين الجدد؟ ولا سيما أنه لم يبقَ لهم سوى المغامرة بالدخول في عملية مقامرة كبرى بالإمبراطورية هذه المرة، بعدما فقد حلم «الشرق الأوسط الجديد» و«الحلم الإمبراطوري الكامل» كل إمكان بتحقّقه، فيما تشهد الإدارة الأميركية صراعاً بين الصقور والمتطرفين من جهة، ومعتدلين وعقلانيين يحاولون التأثير في قرار الحرب باتجاه إلغائه ولو عبر التصعيد الدبلوماسي لفرض المزيد من العقوبات ضدّ طهران من جهة ثانية.
* كاتب فلسطيني