ياسين تملالي *
بعد سنتين من دخول اتفاقية الشراكة الجزائرية ـــــ الأوروبية حيّزَ التنفيذ، يتساءل الكثيرون: ماذا جنت الجزائر منها سوى ذيوع صيتها كدولة من «أكثر الدول صيانة لحرية التجارة الخارجية»؟ والجواب هو لا شيء: أوروبا هي وحدها من قطفت ثمارها. وكما يقول المثل الجزائري، «لنا الشيعة (أي الشهرة) وللأوروبيّين الشبعة»، وشتّان بين الاثنين.
ولا يتردد الكثير من المحللين في القول إن نتيجة الاتفاقية الرئيسية كانت «تعزيزَ حضور الاتحاد الأوروبي في السوق الجزائرية» لا غير. ويفسرون اللاتوازن في مبادلات الطرفين بسياسة الحماية الاقتصادية اللامباشرة التي يتبعها الاتحاد عن طريق فرض تلاؤم وارداته مع «مقاييس الجودة الأوروبية» ودعم مزارعيه في مواجهة المنافسة. ويؤكد هؤلاء المحللون أن جلّ الصناعات الجزائرية، باستثناء بعض الصناعات الخاصة، مرشّحة للاندثار في أمد ليس بالبعيد بعدما تخلت الدولة عن حمايتها باسم «متطلبات العولمة».
وللاقتناع بفشل الجزائر في الإفادة من تحرير مبادلاتها مع أوروبا لا داعي للاستماع إلى خطابات النقابات والأحزاب اليسارية، فقد تُتّهم بالتحيّز والحنين إلى عهد مضى هو «عهد الاقتصاد المسيَّر»، الذي أصبح إطلاق اللعنات عليه مظهراً من مظاهر الحداثة. يكفي للاقتناع بذلك النظر ملياً إلى الإحصائيات الرسمية.
وتفيد هذه الإحصائيات أن الصادرات الجزائرية نحو أوروبا، من غير المحروقات، لم تزد في 2006 على 700 مليون دولار، بزيادة هزيلة لا تتعدى 98 مليون دولار مقارنة بعام 2005. ونحن نتحدّث هنا عن 700 مليون دولار من أصل 52،82 مليار دولار هي قيمة صادرات البلاد الإجمالية في 2006!
وعلى رغم الإلغاء التام للرسوم الجمركية على الكثير من البضائع الصناعية، لم تتمكن الجزائر من تنويع صادراتها منها، إذ تلخّصت هذه الصادرات أساساً في 2006 في بعض مشتقّات البترول وفي فضلات المعادن الحديدية بقيمة لا تتعدى 638,33 مليون دولار!
ومن الواضح أن الجزائر عاجزة تمام العجز عن تصدير منتجاتها الزراعية إلى أوروبا. ويكفي رقم واحد للدلالة على ذلك: صادراتها من فاكهة الكرز مثلاً لم تتعدَّ في 2006 القنطار الواحد اليتيم! وليس الوضع أقل كارثية في ما يخص المنتجات الزراعية المحوَّلة، إذ لم يُصدّر منها نحو أوروبا في السنة الماضية سوى منتجين اثنين، وبكميات كانت ستثير السخرية لو لم يكن الأمر داعياً للرثاء: 11 طنّاً من العجائن الغذائية و119 طنّاً من
الكسكسي.
هذه هي الحال بعد سنتين من دخول اتفاقية الشراكة حيز التنفيذ. تُرى ما ستكون عليه يوم تتوضح معالم منطقة التبادل الحر بين الجزائر وأوروبا؟ من الأكيد أننا سنشهد يومذاك المأتمَ النهائي لمعظم الصناعات المحلية، وبالتالي تبخّر جهود تنموية ابتلعت المليارات من الدولارات منذ الاستقلال، ومكّنت البلاد من إنشاء قاعدة صناعية حمتها لسنوات من التبعية الاقتصادية المطلقة.
والمدهشُ في الأمر أنّ الآثار السلبية لاتفاقية الشراكة كانت معروفة قبل توقيعها بسنوات، فلَكَم حذّر أرباب الأعمال والنقابيّون منها على بلد مهلهل جلُّ صادراته من المحروقات (97،98 في المئة في 2006)، ولكم ذكروا أن «برامج التأهيل الصناعي» الأوروبية التي سبقت تنفيذ الاتفاقية مجرّدُ ذرّ للرماد في العيون، فهي لم تمنع تدحرج القطاع الصناعي العمومي نحو هاوية الإفلاس ولم تجد الصناعات الخاصة نفعاً في سوق أغرقَها طوفان البضائع المستوردة الأوروبية.
لم يكن وقوع الجزائر في شرَك اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي إذاً وقوعَ الأعمى الذي لا يبصر الطريق، فالحكومة آثرت الاستهتار بتحذيرات المتعاملين الاقتصاديّين والنقابيّين، بل وقامت، لمجرد «إثبات حسن نواياها»، بخفض الرسوم الجمركية على واردات البلاد أربع سنوات قبل البدء بتنفيذ بنود الاتفاقية، وهو ما اندهش له الكثير من المراقبين، حتى أكثرهم ليبرالية.
لماذا تصرّفت الحكومة الجزائرية بهذه الصورة؟ لأنه لم يكن يعنيها التمهيدُ لانطلاقة جديدة للاقتصاد الجزائري بقدر ما كان يهمها أن تبرهن للقوى العظمى عن نيتها دخول «العالم الحديث»، عالم الليبرالية، من بابه الواسع. ويمكن القول إن «سياسة إثبات حسن النوايا» أصبحت إحدى قواعد سياسة الدولة الخارجية، فهوسُ النظام بأن يحظى باحترام «المحافل الدولية» أصبح يصدّه عن مجرد التفكير في مصالح البلاد الاستراتيجية.
وعلى رغم ما ستسفر عنه اتفاقية الشراكة من تدمير منهجي للنسيج الصناعي المحلي، ما زالت حكومة عبد العزيز بوتفليقة تدرجها ضمن كبرى نجاحاتها، ولا يزال مسؤولوها يطنبون في ذكر مزاياها المزعومة، مردّدين أن تحرير مبادلات البلاد التجارية سيدفع الصناعة المحلية دفعاً نحو أعلى ذروات «المردودية»، وهو ما تكذبه الإحصائيات تكذيباً قاطعاً.
ولا يبدو أن الحكومة اتّعظت بدروس الشراكة مع أوروبا في تسيير علاقاتها التجارية مع باقي بلدان العالم، ففيما يؤكد بعض المسؤولين ـــــ وبصريح العبارة أحياناً ـــــ أن الجزائر لم تفد من هذه الشراكة شيئاً، يدعو آخرون إلى الإسراع في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لا لشيء سوى البرهنة على «انفتاحهم» وتخليهم عن «بقايا الاقتصاد الإداري». وبالطبع فإن هذه الدعوات ليست سوى صدى للضغوط الأميركية «الصديقة»، فليس من مصلحة أميركا أن تبقى السوق الجزائرية حكراً على الاتحاد الأوروبي.
ومن المثير للسخرية أن الهرولة نحو منظمة التجارة العالمية لا تمنع كبار المسؤولين من التنديد بما يسمونه «اقتصاد البازار». فلا يمر يوم من دون أن يعنّف أحدهم الجزائريين على «قدرتهم الخارقة على الاستهلاك» و«عجزهم التام عن الإنتاج»، كما لو أنّ الإرادة وحدها كافية لأن تنافس الجزائرُ قوى صناعية عظمى تسيطر على مراكز القرار في كل الهيئات الدولية. وبالطبع، يتناسى هؤلاء المسؤولون أن هذه القوى لا تتورّع لحماية اقتصادياتها عن اللجوء إلى أكثر الوسائل تعارضاً مع الأيديولوجيا الليبرالية، وهو ما تبين للمرة الألف بعد قرار الاتحاد الأوروبي إعاقة استثمارات الشركة البترولية الجزائرية (سوناطراك) فيه باسم «أمن أوروبا الطاقوي».
* صحافي جزائري