strong>فرانسوا فورستنبرغ *
طبعت أحداث 11 أيلول 2001 معالم معظم ولاية جورج بوش الhبن، كما شكّلت أحداث 14 تمّوز المؤلمة من عام 1789، رمزاً لنشأة الثورة الفرنسية. ورغم أنّ فرنسا القرن الثامن عشر تبدو بعيدة جدّاً عن الأميركيّين المعاصرين، إلّا أنّ المؤرّخين الذين سيدرسون رئاسة بوش على امتداد التاريخ الفكري والسياسي الأوسع قد يجدون الثورة الفرنسية مفيدة في فهم نسخة بوش المثيرة من محافظي القرن الواحد والعشرين.
بعد اقتحام سجن الباستيل، سرعان ما شكّلت العناصر الثورية جمعيّة عُرفت في ما بعد باسم «نادي اليعقوبيّين» كمظلّة جامعة للسياسيّين، الصحافيّين، والمواطنين الملتزمين بدفع مبادئ الثورة.
تشارك اليعقوبيون بإطار أيديولوجي واحد. إذ قسّموا العالم بين المؤيّدين للثورة ومناهضيها ـــــ المدافعين عن الحرية ضدّ أعدائها. الثورة الفرنسية، كما فهموها، كانت الحدث العظيم الذي سيحدّد ما إذا كانت الحرية ستنتصر على الكوكب، أو أنّ العالم سيغرق في الطغيان والحكم المطلق.
كان الرهان مرتفعاً، وفي هذه المسائل لم يكن هناك مكان للتساهل أو للتردّد. كان هناك إمّا الثورة أو الطغيان.
بحلول عام 1792، كان الجدل محتدماً في فرنسا حول كيفيّة التصرّف تجاه عدائية الدول المجاورة. انقسم اليعقوبيّون، ووقف الصحافي والقائد السياسي جاك بيير بريسو ليدعم خيار الحرب. بريسو فهم الحرب على أنّها رادعة ـــــ «حرب هجومية» على حدّ تعبيره ـــــ لهزيمة قوى الاستبداد في أوروبا قبل أن تستطيع توجيه ضربة مضادّة للثورة. لم تكن حرباً بهدف ربح المكاسب، كما رآها بريسو، بل حرباً «بين الحرية والطغيان».
اعتبر اليعقوبيّون المؤيّدون للحرب أنّ رسالتهم لم تكن لأمّة واحدة، أو حتّى لقارّة واحدة، بل كانت بكلمات بريسو نفسه «حملة مقدّسة من أجل الحرية العالمية».
لكنّ منافسي بريسو كانوا مرتابين. وأعلن روبيسبير أنّه «لا أحد يحبّ الإرساليات المسلّحة»، بكلمات تنطبق على ذلك الزمن، كما على يومنا هذا. وبعد اجتياح النمسا بوقت قصير، انقلبت الموازين العسكرية بسرعة ضدّ فرنسا.
رفضت وقتها الولايات المتحدة، «الشقيقة الجمهورية» لفرنسا، أن تدخل الحرب إلى جانبها. وثار جنون الفرنسيّين ممّا اعتبروه «نكراناً للجميل»، أتى من أمّة نشأت من حضن الفرنسيّين، الذين أنقذوها من الاحتلال في حرب سابقة.
عن طريق مواجهة الملكيّات المطلقة التي تحكم أوروبا، الموحّدة في مواجهة فرنسا الثورية ـــــ أوروبا القديمة كما كانوا سيسمّونها ـــــ استأصل اليعقوبيّون المعارضة السياسية الداخلية. وكانت تلك بداية الحقبة الشائنة التي عُرفت في ما بعد بـ«الإرهاب».
أحد انتصارات اليعقوبيّين العظيمة، كان قدرتهم على استعمال مقولة «الفرنسي الوطني» (كان اسم صحيفة بريسو)، وترويج برنامجهم السياسي عبر شبكة منظّمة بدقّة من الصحف، والقادة الحزبيّين، وموزّعي المنشورات والنوادي السياسية.
وكان «للوطنيّين الحقيقيّين» من اليعقوبيّين لباسهم الخاص: الشارات الوطنية كقبّعة الحرية، أو الوشاح الثلاثي الألوان (الأحمر، الأبيض، والأزرق) على قبّعاتهم أو على ستراتهم.
وانطلاقاً من أنّ وجهات نظر محازبيهم تعبّر عن إرادة الأمّة، وأنّهم وحدهم سينقذون فرنسا من الدمار النهائي، لم يتحمّل اليعقوبيون المعارضة المشروعة. الخصوم السياسيّون كانوا بالنسبة لهم خونة، يطعنون فرنسا والثورة في ظهرها.
ولحماية البلاد من أعدائها، وسّع اليعقوبيون صلاحيات أجهزة الشرطة الحكوميّة على حساب الحريات المدنية، عبر إعطاء الدولة حقّ اعتقال واستجواب وسجن المشتبه بهم من دون إجراءات قضائية. تلك السياسات، كحملات التفتيش الواسعة بلا مذكّرات عام 1972 ـــــ التي سُمّيَت «الزيارات المنزلية» ـــــ كانت مبرّرة «عندما يكون أمن الوطن في خطر»، بحسب القائد اليعقوبي جورج دانتون.
وأدان روبيسبير ـــــ الذي أصبح الآن ملتزماً بالتيار المتطرّف من اليعقوبية ـــــ «دسائس الخيانة» التي قام بها أولئك الذين شكّكوا «في الصرامة الشديدة للإجراءات التي أملتها المصلحة العامّة». وحذّر خصومه السياسيّين من أن «هذه الصرامة تهدّد فقط المتآمرين، وأعداء الحرية». إجراءات كهذه، في السابق كما اليوم، تُتّخذ بذريعة حماية الأمة ـــــ وحماية الحريّة نفسها.
إذا كان للإرهاب الفرنسي من شعار، فهو ذلك المنسوب إلى الخطيب الشهير لويس دوسان جوست: «لا حرية لأعداء الحرية». جملة سان جوست المشفقة (مثل تعبير بوش الشبيه «لا يجب أن نسمح للأعداء الأجانب باستغلال مجالات الحرية لتدمير الحرية نفسها») تعبّر بشدة عن نقيض التقاليد الليبرالية الغربية.
ارتكازاً على هذا المبدأ، جعل الإرهاب من خصومه السياسيين شياطين، سجن أعداء مشتبه بهم دون محاكمة وفي نهاية المطاف أرسل الآلاف إلى المقصلة. كل تلك الأفعال انبثقت من رؤية اليعقوبيين للعالم بأنّ أعداء الحرية لا يستحقّون حقوقاً.
ورغم أنّ تعبير «الإرهاب» كان محور الكثير من الانتباه في السنوات السابقة، إلا أنّ أصل الكلمة لم يلقَ اهتماماً بشكل واسع من السياسيّين والباحثين على السواء. هذا التعبير كان اختراعاً للثورة الفرنسية، ولم يُستعمَل للدلالة إلى أولئك الذين يكرهون الحرية، أو إلى لاعبين من خارج الدولة، ولا في سياق «الإسلام الفاشي».
الإرهابي كان في معناه الأصلي، قائداً يعقوبياً حكم فرنسا خلال حقبة «الإرهاب».
* عن صحيفة «نيويورك تايمز» (ترجمة طوني صغبيني)