عصام نعمان *
شاركتُ قبل يومين في حلقة مناقشة مغلَقة ضمّت نحو عشرين من قادة الرأي في لبنان. بعض المشاركين يمثّلون تيارات سياسية رئيسة. بعضهم الآخر مستقلّون يقتربون إزاء بعض القضايا، من هذا التيار أو ذاك أو يبتعدون إزاء بعضها الآخر. لكنّهم يظلّون، في مجموعهم، معارضين ديموقراطيّين للفريق الحاكم ولقوى 14 آذار المساندة له.
تمحورت المناقشة حول سؤال مفتاحي: أمام الاستحقاق الرئاسي...ما العمل؟ استخلصتُ من مداخلات المشاركين الملاحظات والتوصيات الآتية:
أوّلاً: إنّ الأزمة الراهنة تتعدّى في جوهرها ومدلولاتها مسألة التوافق على الشخصية المناسبة لتولّي رئاسة الجمهورية. قد يكون انتخاب الرئيس الجديد مدخلاً للبحث في حلٍّ للأزمة، لكنّه ليس الحلّ بالتأكيد. جوهر الأزمة أنّ ليس في لبنان دولة. ما لدينا هو نظام سياسي أشبه بآلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان طبقة سياسية قابضة، قوامها متزعّمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال، وآمرو أجهزة أمنية واستخبارات. هذا النظام الفاسد المهترئ، بات خطراً على الكيان نفسه. من هنا تنبع حاجة استراتيجيّة لتجاوز النظام من أجل تحقيق تسوية تاريخية هي اتفاق الطائف نفسه، بعدما أصبح مواد دستورية واجبة التطبيق، جوهرها إقامة دولة مدنية ديموقراطيّة على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية.
ثانياً: قوى الموالاة غير معنيّة بتجاوز النظام السياسي الفاسد، فهي مستفيدة منه ولها مصلحة في إدامته. قوى المعارضة تبدو بدورها متضرّرة من هذا النظام وراغبة في تجاوزه، لولا هاجسان يحدّان من حركتها وفعاليّتها: إعطاؤها للمقاومة ـــــ في ضوء خطورة الظروف الراهنة ـــــ أولويّة شبه مطلَقة على ما عداها من القضايا، وتخوّفها من مخاطر الفتنة المذهبيّة وآثارها التدميرية في الداخل.
ثالثاً: إنّ للقوى الخارجيّة عموماً، نفوذاً لدى قوى الموالاة وتأثيراً في صنع قرارها أكثر ممّا لها بين قوى المعارضة. ثمّة تبعية لأميركا ولأوروبا لدى بعض قوى الموالاة تخالطها أحياناً، استقلالية حيال بعض القضايا والمصالح، تصل حدّ التمرّد. في المقابل، ثمّة مراعاة خاصّة لسوريا وإيران لدى بعض قوى المعارضة، تتطلّبها ضرورات سياسية ولوجستية. يمكن توصيف العلاقة بين الطرفين بالشراكة أو بالتفاهم الاستراتيجيّين، لكنها ليست بالضرورة علاقة تبعية.
رابعاً: تشعر قوى الموالاة عموماً بأن سوريا وإيران، هما الخطر الماثل، فيما إسرائيل «جار مقلق للراحة»، لكنّه لا يؤذي إلاّ من يحاول إيذاءه. في المقابل، تؤمن قوى المعارضة بأنّ إسرائيل عدوّ قومي مدعوم ومحمي من طرف الولايات المتحدة، له مطامع في الأرض والمياه، وأنّ الصراع معه مفتوح، وأن للمقاومة ـــــ والحال هذه ـــــ دوراً أساسياً في مواجهته لكونها الرادع الوطني الفاعل والمتكامل مع الجيش اللبناني.
خامساً: ثمّة حملة واسعة تشنّها الولايات المتّحدة لتثبيت هيمنتها على المنطقة وحماية مصالحها النفطية والاستراتيجية فيها، ما يقتضي مقاربة الأزمة اللبنانية من هذا المنظور، والتنسيق تالياً مع القوى المناهضة للهيمنة على مستوى المنطقة بأسرها.
سادساً: يمكن تقويم الوضع السياسي ومستقبله في ضوء ما تعتزم قوى المعارضة عمله اختياراً أو ما قد تلجأ إليه اضطراراً، كردّ فعل على قوى الموالاة. في هذا الإطار، لا يبدو أنّ لدى قوى المعارضة خطّة حيال الاستحقاق الرئاسي، فيما قوى الموالاة تفاضل، على ما يبدو، بين خيارات ثلاثة لاعتماد إحداها:
إمّا انتخاب مرشّح من صفوفها رئيساً بأكثرية النصف زائداً واحداً، خارج مقر مجلس النواب، وخلال الأيام العشرة التي تسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس إميل لحّود. أو انتخاب رئيس من صفوفها بالأكثرية البسيطة في المكان والزمان عينهما، كما في الحالة الأولى. أو أخيراً الامتناع عن حضور الجلسات الانتخابية لمجلس النواب لتقطيع المهلة الدستوريّة المحدّدة لانتخاب الرئيس، بغية إحداث فراغ في سدّة الرئاسة، ما يؤدّي إلى إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء، أي بحكومة فؤاد السنيورة، عملاً بأحكام المادّة 62 من الدستور.
سابعاً: يعتقد معظم المشاركين في المناقشة أنّه محكوم على قوى المعارضة بأن تدرس كلّاً من الخيـارات أو الاحتمالات، سالفة الذكر، لكي تتّخذ حيال كلٍّ منها الموقف المناسب. في السياق، قدّر بعضهم أنّ مواقف قوى المعارضة ستكون على النحو الآتي:
ـــــ انتخاب رئيس من صفوفها إذا خالفت قوى الموالاة أحكام المادة 49 من الدستور، ولا سيّما لجهة نصاب الثلثين في دورة الانتخاب الأولى، ما يضع عملها خارج إطار الدستور، وبالتالي يفسح في المجال أمام قوى المعارضة للقيام بعمل مماثل أيّاً كان عدد النوّاب الذين سينتخبون مرشّحها الرئاسي.
ـــــ أن تتقبّل قوى المعارضة، بالنظر إلى الظروف الاستثنائية السائدة، قيام رئيس الجمهورية العماد لحّود باعتماد نظرية «لا فراغ في السلطة»، وبالتالي اعتبار ولايته ممدّدة حكماً لسدّ الفراغ الناجم عن إخفاق مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد في المهلة الدستورية، وهو ما يعني بقاء لحّود رئيساً انتقالياً وبقاء السنيورة رئيس حكومة انتقاليّة أيضاً.
ـــــ أن تدعو قوى المعارضة الرئيس لحّود إلى ترجمة موقفه القائل إنّ حكومة السنيورة باتت غير موجودة لمخالفتها الدستور وميثاق العيش المشترك بأن يُصدر مرسوماً يكرّس انعدام وجودها، وبالتالي الدعوة إلى إجراء استشارات نيابية يُسمِّي بنتيجتها، بالاتفاق مع قوى المعارضة، شخصية وفاقيّة لتأليف حكومة وطنية جامعة، ويصدر بالاتفاق مع رئيس الوزراء المكلّف، مرسوم تأليفها بحسب المادّة 53 من الدستور.
ثامناً: تفاوتت آراء المشاركين في تقويم الخيارات والاحتمالات المُشار إليها آنفاً ومفاعيلها ومضاعفاتها. ومع ذلك، يمكن تلخيص تقويماتهم في فئات ثلاث:
1ـــــ فريق من المشاركين رأى أنّ إدارة بوش لا تشجّع على انتخاب رئيس توافقي، ما يؤدّي إلى اختيار رئيس من قوى الموالاة خارج إطار الدستور، أو عدم انتخاب رئيس ضمن المهلة الدستورية، وبالتالي إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بحكومة السنيورة. في كلا الحالين، ستبقى الأزمة قائمة ومتفاقمة.
2ـــــ فريق ثانٍ استبعد لجوء إدارة بوش إلى التصلّب إزاء التعثّر الذي تعانيه سياستها في أفغانستان والعراق وتركيا وفلسطين ولبنان، ما سيحملها على دعوة قوى الموالاة، في ربع الساعة الأخير، إلى القبول بانتخاب رئيس توافقي يُرضي قوى المعارضة، ويؤمّن التعاون مع الرئيس السنيورة في حكومته الجديدة.
وفي مطلق الأحوال، حذّر مشاركون كُثُر من عواقب قيام قوى المعارضة بمواجهة قوى الموالاة في الشارع بالنظر إلى الاحتقان المذهبي السائد ومخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية من جهة، ومن جهة أخرى إلى تفاقم الضائقة المعيشيّة وتردّي الخدمات العامّة وتصاعد أسعار المواد الضرورية مترافقة مع تزايد الدين العام. ذلك كلّه قد يؤدّي إلى الانفجار والانفلات الأمني والفوضى العارمة.
3ـــــ فريق ثالث تفهّم مخاوف الفريق الثاني وتحفّظاته، إلاّ أنّه قلّل من مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية، وحذّر من مداواة الأزمة بعقارٍ لتسكين الأوجاع مؤقّتاً لئلّا تعاود الانفجار لاحقاً، فيبقى لبنان عرضةً للمزيد من الشيء نفسه، أي مسرحاً لتسوياتٍ داخلية ظرفية وسطحية بين أركان الطبقة السياسية القابضة المترعة بالفساد، وتدخّلات خارجية تُتقن توظيف المشهد اللبناني في مسرحية إقليميّة متعدّدة الأبعاد والأخطار. ذلك كلّه دفع هذا الفريق من المشاركين إلى طرح منطق مغاير، قوامه اغتنام فرصة التكافؤ البازغ وغير المسبوق في موازين القوى الإقليمية، والترسمل على أخطاء الفريق الحاكم ومخالفاته الدستورية الفاقعة، من أجل التوجّه بالبلد، بحزم ولكن برفق، نحو تسوية تاريخية قوامها اتفاق الطائف نفسه، الذي أضحى في جوهره مواد دستورية واجبة التطبيق، ومآله إقامة دولة مدنية ديموقراطية على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية. ويكون السبيل إلى ذلك كله بأن تتنادى قوى المعارضة والقوى الوطنية الديموقراطية الحيّة إلى عقد مؤتمر وطني جامع، في النصف الأول من تشرين الثاني المقبل، تتوافق خلاله على تشخيصٍ مشترك للأزمة المستفحلة، وفي ضوئه تتوافق على برنامج مرحلي للإنقاذ والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتتّفق بالتالي مع الرئيس لحّود على تأليف حكومة وطنية انتقالية جامعة، بصلاحيات اشتراعية تفرضها الظروف الاستثنائيّة، وتلتزم إنجاز مهمّة تاريخية طال انتظارها قوامها:
أ ـــــ انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، وذلك بالتزامن مع استحداث وانتخاب مجلس للشيوخ على أساس طائفي، يختصّ بالقضايا المصيرية والأساسية، ويتساوى فيه تمثيل الطوائف الست الكبرى والأقليات المسيحيّة والإسلامية (المادة 22 من الدستور). ولتحقيق ذلك، تضع الحكومة الوطنية الانتقالية قانوناً ديموقراطياً عادلاً للانتخابات النيابية على أساس التمثيل النسبي في انتخاب أعضاء مجلس النواب على قاعدة «لكلّ ناخب صوت واحد» في انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، مع اعتماد البلاد كلّها دائرة انتخابية واحدة بالنسبة للمجلسين، وذلك تدعيماً لوحدة اللبنانيين والعيش المشترك.
ب ـــــ إنشاء الهيئة الوطنية المختصة بإلغاء (الأصح تجاوز) الطائفية السياسية تدريجاً، وفق خطة مرحلية (المادة 95 من الدستور).
ج ـــــ إقرار قانون اللامركزية الإدارية وتنفيذه.
د ـــــ وضع استراتيجية متكاملة للدفاع الوطني، يتحدّد فيها دور المقاومة الوطنية في خلال مرحلة إعادة بناء الدولة وجيشها الوطني وصولاً إلى اندماجها فيه.
هـ ـــــ إجراء انتخابات عامّة خلال ستّة أشهر لاختيار أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، تحت إشراف ورقابة المنظّمات والجمعيات الدولية المختصّة بديموقراطية الانتخاب وحقوق الإنسان.
تنشأ عن هذه الانتخابات غالباً، سلطة اشتراعية ديموقراطية ذات طابع تأسيسي، أيّاً تكن أحجام التيارات والكتل والأحزاب الممثلة في مجلسَيها. بمثل هذه السلطة الاشتراعية الديموقراطية تتأمّن «صحّة التمثيل السياسي لشتّى فئات الشعب وأجياله وفعالية ذلك التمثيل»، كما جاء في اتفاق الطائف.
من خلال انتخاب أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ، تنجز الحكومة الوطنية الانتقالية الجامعة مهمّاتها الأساسيّة، فيُصار إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد، يقوم بإجراء استشارات نيابية لتأليف حكومة جديدة.
تقوم هذه المقاربة الجدّية في معالجة الأزمة على ثلاثة رهانات واقعية: حياديّة الجيش اللبناني وحاكمية مصرف لبنان المركزي ما يسمح للحكومة الوطنية الانتقالية والقوى المساندة لها باتّباع سلوكية هادئة ومتوازنة في ممارسة السلطة، وعزوف الناس عن الاقتتال بعد محنة الحرب الأهلية في ثمانينيات القرن الماضي ولا جدواها، وإبقاء باب الحوار الوطني مفتوحاً مع قوى 14 آذار، ما يمنح الحكومة الوطنية الانتقالية مركزاً تفاوضياً قويّاً في سعيها وراء تسوية مشرّفة للصراع، تكون جزءاً من التسوية التاريخية الجاري صنعها.
هذا باختصار ما توصّل إليه فريق من قادة الرأي... والرأي قبل شجاعة الشجعان.
* وزير سابق