حسن شامي *
«أحب هذا العنف». صاحب هذه العبارة ليس شاعراً من هواة المشاكسة الوجودية الطابع أو الادّعاء، وليس روائياً من النوع الذي يتوسّم في عنف الجماعات المضطهدة جمالية للانتفاض والتمرّد تغسل الروح وتطهّرها من أوساخ تاريخ ووضعيات مفروضة بالقوة، كما هي حال كاتب كبير مثل جان جينيه. العبارة المذكورة هي لدبلوماسي أميركي كبير، وقد جاءت في معرض تعليقه الحكمي على أول اشتباك جدي ومسلّح بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين في قطاع غزة، أي قبل وقوع المواجهات الضارية التي أدّت إلى سيطرة حماس على غزة. فلندع جانباً وجه التلذّذ الشهواني الذي تفصح عنه العبارة والذي يمكننا تخيّله مصحوباً بفرك اليدين وبشيء من التلمّظ حيال مشهد الاقتتال الداخلي بين الفلسطينيين. ذلك أن الاستشهاد بهذه العبارة في تقرير دولي هو ما يثير الانتباه. والحال أن المصير البائس لهذا التقرير وجعله من قبيل لزوم ما لا يلزم، كي لا نقول مروره مروراً خاطفاً، هو ما يعنينا أكثر.
صدر هذا التقرير قبل ثلاثة أشهر تقريباً، وجاء حصيلة معاينة دولية استمرت سنتين قام بها الموفد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط واسمه ألفارو دو سوتو. يمتلك هذا الأخير، المنحدر من البيرو في أميركا اللاتينية، خبرة في التعاطي مع الأزمات بعد أن أمضى ربع قرن ساعياً إلى إيجاد حلول للعديد من النزاعات في مختلف أنحاء العالم. وهذا ما حمل الأمين العام إلى إرساله في مهمة دولية لتقصّي وتشخيص أحوال النزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني. ولهذا الغرض أمضى الرجل عامين كاملين في منطقة الشرق الأوسط، ومع انتهاء مهمته وضع تقريره عن الموضوع وقدمه إلى الأمانة العامة بوصفه، أي التقرير، خاصاً جداً. إلى أن كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن مضمونه وذلك بعد شهر ونيّف على صدوره. ينضح التقرير بتشاؤم كبير حيال انسداد الآفاق لتسوية فعلية بين طرفي النزاع، ملقياً المسؤولية على السياسة الأميركية والإسرائيلية وعلى الأمم المتحدة. ويبلغ التشاؤم حد التساؤل إذا كان مفيداً وضرورياً إحلال خبير دولي آخر في الوظيفة التي شغلها دو سوتو، وإذا كان ثمّة جدوى من عمل اللجنة الرباعية، كما يدعو إلى إعادة نظر جديّة بدور الأمم المتحدة.
ويدين التقرير قرار قطع المساعدات الدولية عن الفلسطينيين لأنه أفضى إلى نتائج كارثية على الصعيد الإنساني وإلى إضعاف المؤسسات الفلسطينية. لا يخفي ألفارو دو سوتو شعوره بحزن كبير إزاء السياسات الدولية النافذة في الموضوع الفلسطيني، مشيراً إلى أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة كان محل استخدام من قبل آرييل شارون للحصول على تنازلات مهمة من الولايات المتحدة فيما استمر العمل في بناء الجدار الأمني وتوسيع المستوطنات. ويلحظ دو سوتو أن غزة تحوّلت إلى «سجن مفتوح على السماء»، معتبراً أن رفض نتائج الانتخابات التي أوصلت حركة حماس إلى السلطة كان خطأ.
ذلك أن حركة حماس، بحسب الموفد الدولي وتقريره، كانت آخذة في التطور وقادرة على المزيد منه «وكان ينبغي علينا تشجيعها على ذلك، بحيث يمكن أن يتأسّس حوار تؤدّي فيه الأمم المتحدة دوراً». ويرى دو سوتو أن المرجعية الدولية تتحدث مع حزب الله، «ونحن محقّون في ذلك لأنه ليس هناك حل في لبنان من دون هذا التنظيم. وينبغي أن يكون الأمر كذلك مع حماس». بدلاً من أن يحصل هذا، دائماً بحسب دو سوتو، واصلت إسرائيل سياسة فرض الأمر الواقع، مما يجعل من الصعب، بل من المستحيل، إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. ويؤكد دو سوتو أن الإدارة الأميركية «دفعت نحو المواجهة العسكرية بين حماس وفتح».
تأزم الوضع الفلسطيني وتعاظم العنف يعودان إلى السياسة الأميركية التي تملي إرادتها على الرباعية وعلى إسرائيل، وهي سياسة قائمة على النبذ والرفض من خلال التمسك بشروط مسبقة يستحيل تنفيذها. ويأسف دو سوتو على أداء الأمم المتحدة خلال السنتين اللتين أمضاهما في المنطقة، إذ تعاملت الهيئة الدولية مع إسرائيل «باحترام فائق يكاد يكون أشبه بالحنو والعطف»، مما يستوجب وضع حد للرقابة الذاتية التي تمارسها المرجعية الدولية، «لا أعتقد أن الأمم المتحدة تسدي خدمة لإسرائيل عندما لا تتحدث بصراحة عن تهرّب الدولة العبرية من التزاماتها في عملية السلام، وليس من الصداقة في شيء أن نسمح لإسرائيل بالاسترسال في إرضاء ذاتها بحيث يكون الفلسطينيون وحدهم موضع لوم ومحاسبة، أو بأن نسمح لهذا البلد (إسرائيل) بأن يواصل بخفّة تجاهله لواجباته المتصلة بالاتفاقات المعقودة، من دون أن يدفع ثمناً دبلوماسياً في المدى القريب وثمناً أكبر بكثير في ما يتعلق بالهوية والأمن على المدى الأبعد».
لم يحظَ تقرير ألفارو دو سوتو، الواقع في 51 صفحة، سوى بإشارات عابرة في بعض وسائل الإعلام ولم يكن له أن يصير قاعدة ومادة لمناقشة جدية حول إحدى أبرز المشكلات المستعصية ذات البعد الدولي والواضح والصارخ. لم ينل التقرير الاهتمام الذي يستحق، وإذا كان البعض شبّهه بالوصية، فإن هذا لا يبدّل كثيراً في كونها عبارة عن صيحة (أو صحوة) دولية ضائعة كي لا نقول مضيّعة. وهذه الصيحة الضائعة أو الطائشة تضاف إلى لائحة صيحات أخرى مشابهة قد يكون أقربها إلى ذاكرتنا إقرار الأمم المتحدة بلبنانية مزارع شبعا وتأهّبها لمطالبة إسرائيل بالانسحاب منها ومن ثم تأجيل البحث في الموضوع إلى ما بعد شهر أيلول بناءً على طلب إسرائيلي ضاغط، بحسب ما أشارت قبل شهرين تقريباً قناة إخبارية تلفزيونية فرنسية. وهناك بالطبع حكاية رئيس المفتشين الدوليين في العراق، هانز بليكس، الذي أعلن قبل الغزو الأميركي للعراق، عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل فيما بقي جهابذة الإدارة الأميركية يضخّون على الملأ أنباءً ويقينيات عن وجودها. ليس هنا مجال استعراض الصيحات، أو الصحوات، الدولية الضائعة، من لجنة كينغ ـــــ كراين في أعقاب الحرب الأولى، مروراً بحكاية الكونت برنادوت واغتياله بعد صدور قرار التقسيم عام 1947، وصولاً إلى وصية ألفارو دو سوتو وما نراه اليوم. ما يعنينا أكثر هو الوضعية القلقة والرجراجة للهيئة الدولية الأم وشروط استوائها مرجعية دولية لحل النزاعات والأزمات. من الخطأ ربما اعتبار الأمم المتحدة ومجتمعها الدولي جسماً معادياً للمطالبين بالعدالة، وخصوصاً في الشرق الأوسط وفي ما يتعلق بالنزاع الفلسطيني والعربي ـــــ الإسرائيلي، إذا شئنا تصديق بعض الأدبيات الشعبوية في منطقتنا. إلا أن من السذاجة أن نعتبر المرجعية الدولية أمراً ناجزاً وهيئة متعالية تماماً على علاقات القوة بحيث يمكن تفويض كل شيء إليها. فالقاصي والداني يعلمان اليوم أنها موضع تجاذب بين تصوّر أحادي القطبية والقوة يريد لها أن تكون غطاءً لشرعنة السيطرة حتى عندما تكون هذه السيطرة عارية ومن دون معايير قانونية حقيقية، وبين تصوّر يسعى إلى إعطائها المكانة الحقوقية اللائقة بها. ويبدأ هذا، في منطقتنا، بالتخفّف من استعمال مصطلح المجتمع الدولي عندما يكون الأمر يتعلق بسياسة دولة عظمى بعينها. فالترويج الإعلامي والدعوي لهذا المصطلح يؤدي إلى إفقاره وتجفيفه. والتجاذب المشار إليه مقيم داخل هيئة الأمم المتحدة نفسها. ويصل هذا إلى بلد ذي طابع تنازعي، مثل لبنان، في صورة تجاذب بين تيري رود لارسن وبين غير بيدرسون.
* كاتب لبناني