طوني صغبيني *
حزب العدالة والتنمية، اسم تكرّر مرّتين في الآونة الأخيرة، وأضحى رمزاً للإيديولوجية الإسلامية «المعتدلة» التي حقّقت أخيراً انتصارات كبيرة في الانتخابات البرلمانية. من جهة أولى، هناك حزب العدالة والتنمية التركي الذي تسلّم الحكومة ورئاسة الجمهورية بعد انتصارات انتخابية مهمّة، ومن جهة أخرى هناك حزب يحمل الاسم نفسه في المغرب الذي أمل تكرار تجربة مثاله التركي، وقد أصبح بعد الانتخابات المغربية الأخيرة، ثاني أكبر حزب من حيث المقاعد التي يشغلها في البرلمان.
فهل تحمل الانتصارات الانتخابية للتيّارات الإسلامية المعتدلة، وما يرافقها من تباشير حصول انتصارات جديدة، وخصوصاً في العالم العربي، إشارة لتغيّرات أوسع ستطال أنظمة الحكم في المدى المنظور؟
نعتقد أنّ ذلك يشير إلى ظروف أضحت جاهزة على المستوى العربي لحصول تغييرات واسعة في فلسفات الحكم وصناعة القرار، حتى تصبح أكثر تماثلاً مع الظروف الإقليمية والدولية وطبيعة التحدّيات القائمة، والأسباب متعدّدة.
من الواضح أنّ الموجة الدينيّة في الدول ذات الغالبية الإسلامية، ومنها الدول العربية، تجذّرت الآن في المجتمع إلى حدّ لم يعد من الممكن تجاهل نتائجها السياسية. وبغضّ النظر عن الأسباب العميقة والتاريخية لهذا المدّ، فهو يظهر يوماً بعد يوم، على شكل أحزاب سياسية «معتدلة» نشأت من الالتفاف الشعبي، وتسعى لاستثماره انتخابياً. يضاف إلى ذلك، تحوّل جزء كبير من الرأي العام العربي إلى ضفّة دينية في ظلّ وجود جمهور عريض، حتى ولو كان بمعظمه غير مؤطّر حزبياً.
وتُعدّ هذه الظاهرة، تحوّلاً كبيراً على الساحة السياسية، وذلك بعد أن انحصر الإسلام السياسي بصورة الجماعة المتطرّفة المنعزلة عن المجتمع، والتي تتّخذ من العنف وسيلة تعبير أساسية عن طموحها وهويّتها.
وسنقصر بحثنا في هذا السياق، على الناحية السياسية البحت لهذه الظاهرة، على الصعيدين الداخلي والدولي.
من جهة أولى، وعلى الصعيد المحلّي، بالنسبة إلى أنظمة الحكم القائمة في العالم العربي، كالمغرب والجزائر وتونس ومصر وسوريا والأردن، لم يعُد من الممكن لها تجاهل هذا المدّ الشعبي الكبير، وأضحت مضطرّة لأخذه بعين الاعتبار في سياستها العامّة، على الأقل بما يكفي للحفاظ على شرعية الحكم أمام المعارضة، التي اقتصرت بعد عقود من الأحادية والاستبداد على تلك الدينية، ولا سيّما أنّ معادلة السلطة ـــــ المعارضة في العالم العربي، لا تقبل فكرة تداول الحكم، بل لا تزال تحمل مفهوماً يقوم على الدفاع عن النظام، أو الانقلاب عليه.
وعندما أدركت الأنظمة العربية أن مزاج الشارع بدأ يتحوّل إلى رأي عام ديني، تحوّل تكتيكها في التعاطي مع هذه المسائل من المواجهة مع كلّ ما يمتّ إلى الدين بصلة، إلى الاستيعاب، ثمّ إلى إدخال الدين كمكوّن ثابت من مكوّنات النظام.
في كلّ الدول المذكورة أعلاه، نرى الأنظمة العربية شبه العلمانية، تحاول اليوم الظهور بمظهر المدافع الأول عن الدين وعن عموم المسلمين.
وظهر ذلك بوضوح لأوّل مرة مع زعيم أكثر الأنظمة العلمانيّة تطرّفاً، صدّام حسين، خلال حرب الخليج الثانية في التسعينيات، حيث زيّن العلم العراقي بعبارة «الله أكبر»، وفاضت خطاباته بالآيات القرآنية، معتبراً أن معركته هي معركة المسلمين في وجه قوى «الاستكبار العالمي»، في محاولة لاستمالة الرأي العام إلى جانبه. ثم رأيناه مجدّداً في المحاكمات بمظهر «التقيّ» الذي لا يفارق القرآن يديه.
وفي مصر، فقد رأينا ذلك في البدء مع أنور السادات الذي عدّل الدستور المدني ليصبح دستور دولة إسلامية، ثم تدرّج بالتقوى حتى أواخر عهد مبارك الذي أعاد جعل الأزهر مجلساً أعلى، وآمراً ناهياً على العقل والثقافة والفكر المنتج في وادي النيل. ورأيناه أيضاً في المغرب الذي أصبح عاهله أميراً للمؤمنين أكثر من أي وقت مضى...
حتّى إننا نرى المسألة في فلسطين، حيث استبدلت حركة «فتح» على ما يبدو اجتماعات أعضائها الدورية، بصلاة الجمعة في الساحات العامّة!
لقد اكتسب المدّ الديني من القوّة، دفعاً جعل مواجهته بالعلمانية أمراً شاقّاً للغاية، بعد أن انحسرت قواعدها الشعبية وأحزابها ومفكّروها، وبعدما فشلت الأنظمة التي حملت لواءها في تحقيق أيّ وعد من وعودها بالحرية والوحدة والتقدم.
وفي مقابل مواجهة المدّ الديني بالعلمانية المنحسرة، بدأت الأنظمة ترى أنّه لا بدّ من مواجهته بمدّ ديني موازٍ، لكنه «معتدل»، محقّقة بذلك هدفين في آنٍ واحد: استغلال الصحوة الدينية لإسباغ الشرعية على النظام الذي أصبح الآن «نظاماً مؤمناً» من ناحية أولى، ومن الناحية الثانية انتزاع المبادرة من يد الجماعات الإسلامية المعارضة التي تحاول استغلال التيار نفسه لتحقيق مكاسب شعبية وانتخابية وسلطويّة، أو إطفاء فتيل الاشتعال الذي تجيد الجماعات المتطرّفة التي لا تؤمن بالوسائل السياسية استغلاله، حيث قد تقتنص فرصة إظهار النظام بمظهر «الكافر»، لكي تبرّر أعمال العنف أو القيام بالثورات والانقلابات.
لكن الأسباب التي ذكرناها، ليست الوحيدة التي تدفع الحكومات لتصبح أكثر إسلامية. فهناك أسباب خارجية تشدّها في هذا الاتجاه.
فإذا كان العدو الإسلامي «المتطرف» قد أثبت حتى الآن أنه العدو المناسب لتحقيق مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، فالحكومة «الإسلامية المعتدلة» هي الحليف الممتاز أيضاً!
فالإرهاب عدوّ، خدم واشنطن بشكل مثالي تقريباً: فهو عدو «متخلّف» ثقافياً، يدعو إلى القتل وإلغاء الآخر، غير قادر على تهديد الإمبراطورية الأميركية بالفعل، لكنه قادر على تسديد بعض الضربات بحيث يعطي الانطباع أنه عدو حقيقي. والأهم أنه واضح الهوية، لكنه غير واضح المعالم، بمعنى أنه خفي ومتشعّب وغير متشكّل في دولة مثلاً، يسقط بسقوطها، الأمر الذي يمكّن واشنطن من إيجاد الغطاء السياسي والعسكري وحتى الأخلاقي، لتنفيذ طموحاتها التي تتيح لها البقاء على عرش النظام العالمي لأطول فترة
ممكنة.
من هنا، تريد الولايات المتحدة المحافظة على هذا العدوّ المتطرّف، لكن من دون السماح له بالنموّ لدرجة يصبح فيها تهديداً حقيقياً، كأن يصبح دولة أو أن يتسلّم مقدّرات دولة معيّنة. وبما أن المدّ الديني قد تضخّم إلى درجة اهتزّت معها الأنظمة الحليفة، وهددّت بوصول الأصولية إلى الحكم، أو على الأقل هدّدت بخلق دول ممزّقة بين الأصوليّين وأعدائهم، كما كان من الممكن أن يحدث في لبنان لو نجحت مخطّطات «فتح الإسلام»، فيجب قطع الطريق على الإسلاميين المتطرّفين بالإستعانة بالمعتدلين، فيصبح حينها الاعتدال هو الرهان.
ونعتقد أن الغرب يرى اليوم، بنظرته السطحية، أن الأمر مشابه لمسألة الاشتراكية والشيوعيّة في عزّ المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، حيث دعمت واشنطن الأنظمة الاشتراكية ـــــ الاجتماعية في أوروبا الغربية، وبلغت دولة الرعاية الاجتماعية ذروة تألّقها، خوفاً من استلام الشيوعيين الحكم، ثمّ تخلّت عن الرعاية وعادت إلى تطرفّها الليبرالي بعد زوال الخطر
الأحمر.
وقد يجوز القول هنا إنّ واشنطن ترى اليوم في أسامة بن لادن، تشي غيفارا في نسخته الإسلامية، رغم التباين الشديد بين الحالتين والمشروعين.
ولا ننسى التذكير بأنّ النظام الإسلامي في إيران، صاحب الطموح النووي، والذي تخوض معه واشنطن وحلفاؤها الغربيّون والعرب، مواجهة تستعر يوماً بعد يوم، والذي كان في الماضي أحد المسبّبات الرئيسية في إطلاق جهود عدد من الدول العربية كالسعودية، للاضطلاع بحركة إعادة تنشيط «سنّية» مقابلة، جعل الدول المتخوّفة اليوم من امتداد نفوذ إيران النووية، تفكّر بإقامة أنظمة إسلامية تحدّ من الاندفاع «الشيعي الفارسي».
وبدأنا نرى منذ نحو سنتين، دعوات غربية لإقامة أنظمة إسلامية معتدلة، منها مثلاً كلام رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون في 5 آب الماضي، الذي دعا فيه إلى إقامة «تحالف للمعتدلين»، موضحاً التزام بلاده دعم «الإسلام المعتدل»، حيث برأيه «تحوّلت المعارك في العراق وأفغانستان إلى معارك بين الغالبية المسلمة التي تريد الديموقراطية، والأقلية التي أدركت أن إيديولوجيتها أصبحت في خطر».
ولعلّ قائد الجيش البريطاني ريتشارد دانات كان أكثر وضوحاً من رئيس وزرائه، حين دعا أخيراً إلى «إقامة دولة إسلامية حديثة في العراق، لمواجهة التطرّف والجهاد» اللذين وصفهما بأنهما «الجيل الجديد من الأزمات». ولا تقتصر الدعوات الغربية على السياسيّين، بل تتعدّاها إلى الأكاديميّين والمفكّرين، من أمثال الباحث الأميركي المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، والمعروف بتأييده للعدو الإسرائيلي، دانييل بايبس، حيث قال في محاضرة في لندن في الثامن من الشهر الجاري إن «جهودنا يجب أن تنصبّ على تشجيع الإسلام المعتدل الديموقراطي الليبرالي الإنساني». يُضاف إلى ذلك، ما تردّد في وسائل الإعلام عن ضغوط أميركية لإشراك الإسلاميين في الحكم، آخرها كان في المغرب قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة.
وتفتح مسألة دعوة باحث مؤيد لإسرائيل إلى دعم «الإسلام المعتدل» أفقاً أوسع للمسألة، حيث تذكّرنا أن دولة الاحتلال في فلسطين، هي أكبر المهلّلين لتحوّل الحكومات إلى إسلامية معتدلة، أي إلى صورة مشابهة لها تقريباً كدولة دينية بديكور علماني، مبرّر وجودها أنها يهودية.
إذا كان المنطق الذي تحدّثنا عنه فيما سبق صحيحاً، فسوف نرى في المستقبل القريب حكومات تحكم بلغة «الإسلام المعتدل». ولا نقصد أن الحكومات ستكون إسلامية، أو دينية، بل نقصد أن قوّة صنع القرار وسنّ السياسات العامة ستخضع أكثر فأكثر لتأثيرات دينية، وستصبح أكثر فأكثر في قبضة إسلاميين، على شاكلة تأثير المحافظين الجدد واليمين المسيحي المتهوّد في واشنطن في إدارة بوش الأولى، حيث لم يوجد المحافظون أمثال بول وولفوفيتز ودوغلاس فايت وريتشارد بيرل إلاّ في الصفّ الثاني، ولم يكن هناك سوى وزير واحد لليمين المسيحي، هو جون أشكروفت في وزارة العدل، لكن هؤلاء هم من يرسمون فعلاً سياسة الولايات المتحدة.
* من أسرة «الأخبار»