فؤاد المقدم *
باب التسوية لم يُقفَل بعد، لكنه محكوم بمعادلة داخلية وإقليمية قائمة ومستمرّة، يدور معها الوضع اللبناني في حلقة مفرغة، وليس هناك من مؤشّرات حتى الآن بإمكان إحداث اختراق في جدار هذه المعادلة.
فريقا الصراع الداخلي ما زالا يمعنان في عقد الرهان على تطوّرات إقليمية يمكن أن تؤول في حسابات كلّ منهما، إلى رجحان كفّته. حركة المبادرات الداخلية والإقليمية والعربية والفرنسية وصلت إلى حائط شبه مسدود، وهي ما زالت تصطدم بسقف الموقف الأميركي، وتتحرّك على إيقاع بورصة الإشارات المتناقضة لسياسة واشنطن، صعوداً وهبوطاً.
التطوّرات التي شهدتها الساحة اللبنانية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، أعادت الدور الأميركي إلى دائرة الضوء، بل إن عودة الأضواء إليه، كانت أحد أهم التعبيرات عن افتتاح مرحلة جديدة من التجاذب الإقليمي والدولي بشأن لبنان، وأحد أهمّ التطوّرات التي فرضت الاصطفافات الجديدة على الصعيدين السياسي والشعبي، وألزمت بعض القوى إعادة النظر في الحسابات والتقديرات، ودفعت البعض الآخر إلى تعديل مواقفه وخياراته، والارتداد عن مواقف سبق أن حكمت ممارسته السياسية وأداءه خلال فترة مديدة من الزمن.
يكفي أن نشير إلى أنّ حال الوصاية الدولية التي يخضع لها لبنان حالياً، واستمرار أزمته الوطنية المفتوحة، هما من أهم أبعادهما، وإحدى ثمار الموقع المحوري الذي يلعبه الدور الأميركي في المعادلة الإقليمية والدولية المفروضة على الساحة اللبنانية.
من الواضح أن مقوّمات النفوذ الأميركي على الساحة اللبنانية، تتعدّى مجريات اللحظة الراهنة، فهي موجودة أوّلاً في هشاشة التوازنات الداخلية، وانفتاحها المستمر على المعادالات الإقليمية والدولية. وهي موجودة ثانياً في الخيارات الأساسية لفريق من أركان المعادلة، وفي الرهانات التي يعقدها هذا الفريق على الدور الأميركي والاستقواء به لتكريس غلبة سياسية وطائفيّة جديدة. ومقوّمات النفوذ الأميركي موجودة ثالثاً بقوّة العدوان الإسرائيلي وثقله المستمر على الساحة اللبنانية، كما هي موجودة رابعاً في تنامي نفوذ الدول العربية التابعة للسياسة الأميركية أو الدائرة في فلكها، وفي اتّساع صفوف المراهنين على حركتها للتوصّل إلى حلّ نهائي للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
إنّ ما تريده الإدارة الأميركية في الأصل، هو منع أي حلّ يضمن استقرار لبنان، لمنع استخدامه كورقة من ضمن وظائف إقليمية، يعدّ استمرار حال اللاحلّ شرطاً أساسياً لأداء هذه الوظائف. بكلام آخر، ما يهمّ أميركا وإسرائيل في لبنان، ليس ما ينطوي عليه أي مشروع من إمكان حلّ للأزمة اللبنانية، بل ما ينطوي عليه هذا المشروع بالتلازم مع التحرّك الأميركي على الساحة اللبنانية من دينامية عملية تصبّ في اتّجاهين، داخلي وإقليمي.
داخلياً، بمقدار ما تولّده هذه الدينامية من وقائع جديدة على الأرض، تدفع بالتحوّلات الجارية في لبنان إلى منتهاها المطلوب أميركياً وإسرائيلياً، بمقدار ما تولّده من حقن لنهج الرهان الداخلي على الدور الأميركي بمنشّطات إضافية، لا تنتج إلا رهانات جديدة، تزيد الارتهان لهذا الدور، وتساعد على إخضاع أي بحثٍ في الأزمة اللبنانية إلى المزيد من الشروط الأميركية والإسرائيلية، وتشلّ أي مبادرة لإيجاد تسوية للأزمة المتفجرة.
إقليمياً، ينطوي ارتباط الأزمة اللبنانية بأزمة المنطقة من البوابة الأميركية الإسرائيلية، ويتحوّل لبنان إلى مجرد ساحة ومسرح لتحسين شروط الإدارة في معركتها الطاحنة على مستوى المنطقة برمّتها.
أما الذين توهّموا بإمكان «لبننة» ما للموقع اللبناني تحت شعار «لبنان أولاً»، وما زالوا يتوهّمون بإمكان استيلاد نوع من التكيّف أو التعايش بين الحلّ الداخلي للأزمة من ناحية، وتحييد لبنان من ناحية ثانية، واستمرار النفوذ الأميركي من ناحية ثالثة، فقد أتت تطوّرات الوضع اللبناني، خلال العامين المنصرمين لتكشف أن هذه «اللبننة» المزعومة لم تكن تعني شيئاً آخر غير قلب المعركة رأساً على عقب، عبر تغيير وجهتها وميدانها، وتحويلها من معركة مع الهيمنة الأميركية والعدوان الإسرائيلي، إلى معركة في الداخل اللبناني. وأتت التطورات عينها بالغة الدلالة على أن إمكان تحييد لبنان لم يكن يعني شيئاً آخر غير إخراجه من دائرة المواجهة مع إسرائيل وزجّه في سياسات لا طاقة له على احتمالها، فضلاً عن أنّها تمس أمن واقتصاد وهوية البلد القومية.
ما عرضناه حتى الآن لا يعدو كونه توصيفاً للأهداف الأميركية على الساحة اللبنانية. وإذا كان لنا أن نلمَّ أكثر فأكثر بالعوامل التي تعطي هذه الأهداف كامل أبعادها، وتعطي لبنان الموقع الذي يحتلّه في إطار الخطة الأميركية العامة في المنطقة، فلا بدَّ أن نضع الأزمة اللبنانية في سياقها الإقليمي الذي تدور في إطاره، وفي سياق المأزق الأميركي المفتوح في هذه المرحلة.
في امتداد تجدّد التجاذب الإقليمي الدولي بشأن لبنان، في أعقاب احتلال العراق، وبالتوازي مع صدور القرار 1559، بدأ مسار جديد من التدويل الأميركي الغربي للأزمة اللبنانية، وبات لبنان إحدى العلامات الفارقة في السياسة الأميركية، وتحوَّل تباعاً إلى ساحة رئيسية من ساحات الصراع بين مشروعين، أوّلهما أميركي لشرق أوسط كبير، وثانيهما إيراني يسعى إلى تكريس إيران قوة إقليمية عظمى، وعنصراً أساسياً فاعلاً في المنطقة العربية.
في سياق هذا الصراع، وفي إطار المسار الجديد الذي تتّخذه المواجهة بين المشروعين، والذي دخل اليوم في مرحلة الحسم حرباً أو سلماً، وخصوصاً في ظلّ الفشل الأميركي المتمادي في العراق، بالتوازي مع العجز المتزايد في مواجهة «الإرهاب»؛ معطوفاً على الإخفاق الإسرائيلي في الحرب التي شُنَّت على لبنان بقرار أميركي، في هذا الإطار يمكن رؤية كيفية تعاطي الإدارة الأميركية مع كل ملفات المنطقة.
ليست واشنطن بصدد تغيير استراتيجيتها على صعيد المنطقة، فدون ذلك مترتّبات وتداعيات خطيرة على غير صعيد دولي وإقليمي، فضلاً عن الداخل الأميركي نفسه. بل إنها بصدد إعادة تنظيم عناصر حضورها، وتصميم مأزقها على صعيد المنطقة برمّتها، والتلويح بخطورة تداعياته على غير ساحة، ودفع من يمكن دفعه ليشارك في جبهة المواجهة مع الخطر المتصاعد الآتي من إيران. وعليه تبدي الإدارة الأميركية المزيد من التصلّب والتشدّد، وتمعن في دفع المسارات والتحوّلات التي طرأت بفعل الصراع داخل أكثر من بلد عربي، وعلى المستوى العربي العام، إلى نهاياته المطلوبة.
وينطبق ذلك على التحركات الأميركية التي تمثّل فعلاً جديداً من استدراج رهانات جديدة على إمكان حلّ الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، وذلك تحت عنوان «المؤتمر الدولي»، إحياءً للمفاوضات النهائية بين الفلسطينيين وإسرائيل، فيما المُراد هو دفع الانقسام الفلسطيني نحو المزيد من التصعيد.
وفعلاً، هذا ما حصل، إذ لم يعد هذا الانقسام صراعاً بين فصيلين، بل انتقل ليصبح صراعاً بين حكومتين وكانتونين، وتبدو خطورة هذا الوضع في ما ينطوي عليه من نتائج سياسية مدمّرة، من تفكيك لوحدة القضية الفلسطينية وعلى نحوٍ يؤسّس ربّما لجولات جديدة من حرب أهلية، بدأت فصولها في غزّة والضفة الغربية، وفي ما ينطوي عليه من إدخال لوزن القضية الفلسطينية على الصعيد العربي والدولي في مسار انحدار متسارع، ومن كشفٍ لبنيتها أمام كل أشكال التدخل الخارجي. ويتمحور آخر فصول هذا التدخل اليوم، حول اعتبار غزة إقليماً متمرّداً، يستدعي تدخّلاً دولياً مباشراً. وغني عن القول إن هذه التطوّرات تصب في مجرى إنضاج الوضع الفلسطيني لتقبّل الخطة الأميركية الإسرائيلية، والتسليم بأحكامها، فضلاً عن أنه يُقدّم تغطية فلسطينية لتشريع كل التنازلات العربية الراهنة والمقبلة.
ما يحصل على الصعيد الفلسطيني، يحصل شبيهه على الصعيد العربي العام: إنّ أحد أهم أبعاد الصراع الدائر في المنطقة، يتمثّل في التحوّل الذي طرأ على طبيعة الصراع وأولويّاته، والذي آل إلى شطر العرب إلى فريقين لكلّ منهما أولوياته.
محصّلة ذلك، تحويل الصراع مع الهيمنة الأميركية الإسرائيلية، إلى صراع عربي ـــــ عربي بين معتدلين ومتطرفين، وانزلاق متزايد لمحور «الاعتدال العربي» من حال العداء البارد لإسرائيل، إلى حال العداء لإيران، لاحتواء الجموح الإيراني في المنطقة، والذي نجح في تثبيت مواقعه في غير ساحة عربية.
وقل مثل ذلك في الحديث عن تداعيات الصراع الإقليمي على الساحة اللبنانية، وما آلت إليه من دفع للانقسام الطائفي والمذهبي إلى مستوى غير مسبوق، ومن مأزق لبناني شامل يراوح على حافّة تجدّد الحرب الأهلية، كما سبق وأسلفنا بإسهاب في مطلع هذه المقالة.
تتكامل وتترابط الساحات في إطار الخطة الأميركية. وإذا كان الضاربون على أوتار الهجوم الأميركي الشامل في المنطقة العربية، كُثُر داخلياً، وإقليمياً وعربياً، فإن أميركا تحتفظ لنفسها بدور «المايسترو» الذي يوزّع الأدوار، ويسعى إلى رهن كل ساحة من ساحات نفوذه، لمقتضيات خطّته العامة على مستوى المنطقة.
*كاتب لبناني