strong>تشارلز كوبتشان وبيتر تربوتز *
إنّ الولايات المتّحدة تشهد نقاشاً مستقطباً ومؤلماً حول طبيعة ومنظور ارتباطها بالعالم، فمنذ أن ظهرت كقوّة عالمية، يحاول زعماؤها ومواطنوها قياس التكاليف بالنسبة لفوائد الطموح الخارجي بدقّة.
ففي عام 1943، عرض والتر ليبمان صياغة كلاسيكية لهذا الموضوع، فكتب «في العلاقات الخارجية، كما في كلّ العلاقات الأخرى، يتمّ تشكُّل السياسة فقط عندما تجلب الالتزامات والقوة والتوازن، ويجب على الأمّة أن تحافظ على أهدافها وقوّتها في حال توازن».
ورغم أنّ ليبمان كان مدركاً للتكاليف الاقتصادية الهائلة للارتباط العالمي لبلاده، فقد كان قلقه المبدئي يتركّز على «القدرة على الإيفاء السياسي» للسياسة الخارجية لبلاده، لا على «كفاية المصادر المادية». ونعى «التحيّز المسبّب للخلاف» الذي لم يمنع واشنطن في أغلب الأحيان، من «إيجاد سياسة خارجية مستقرة ومقبولة عموماً».
وحذّر ليبمان من أنّ ذلك «خطر على الجمهورية»، وأضاف «عندما ينقسم الناس بين بعضهم حول العلاقات الخارجية، ويصبحون غير قادرين على التوافق حول مصالحهم الحقيقية، لا يعود باستطاعتهم الاستعداد بشكل كاف للحرب أو لحماية أمنهم بنجاح، هذا هو المشهد اللافت للنظر لهذه الأمة العظيمة».
لكنّ قلق ليبمان أثبت بالملموس أنه عديم الأساس؛ إذ بدا أنّ هناك إجماعاً واسعاً في الداخل تجاه الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة في ما بعد، والتحيّز الذي ذكره فسح المجال لإجماع واسع على السياسة الخارجية التي دامت خمسة عقود.
أمّا اليوم، وبعد زوال الاتحاد السوفياتي وصدمة 11 أيلول 2001، وفشل الحرب في العراق، فإنّ قلق ليبمان بالقدرة على الإيفاء السياسي، يبدو حقيقياً أكثر من أيّ وقت مضى، فالجمهوريون والديموقراطيون يقفون على أرضية تفتقد لما هو مشترك، وهم منقسمون تجاه الأغراض الأساسية لقوّة بلادهم أكثر من أيّ وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية.
هناك فجوة فعلية وحرجة فُتحت بين الالتزامات العالمية للولايات المتحدة من جهة، وشهيّتها السياسية المفتوحة من أجل استمرارها وديمومتها من جهة ثانية. وكما بات واضحاً من خلال الاصطدام بين الرئيس جورج بوش والكونغرس ذات الغالبية الديموقراطية، حول ما العمل في العراق، فإنّ الإجماع الحزبي في البلاد إزاء السياسة الخارجية قد انهار، وسيتواصل تفكّك المؤسّسات السياسية، ما سيعرّض البلاد لأخطار سياسية خارجية كبيرة.
وعلى المرشّح الرئاسي المقبل أن يفهم خطورة انهيار التوازن الجديد بين أغراض الولايات المتحدة، وأدواتها السياسية التي تستخدمها للمحافظة على توازنها أو لجني جائزة مضاعفة. ومن المحتمل أن ينجذب هذا المرشّح إلى التأييد الشعبي القوي، كما حصل في الانتخابات النصفية عام 2006، لكن الحرب في العراق وإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة تبقى قضايا حاسمة.
على المرشّح الذي سيتمّ انتخابه، أن يعزّز أمن الولايات المتحدة من خلال براعته في استخدام الاستراتيجية الكبرى الجديدة، وذلك بثبات المجتمع العالمي الذي ينظر باستمرار إلى الولايات المتحدة كقائد عالمي.
إن الصيغة المطلوبة للوصول إلى استراتيجية قادرة على «الايفاء سياسياً»، تتطلّب خفض التزامات الولايات المتحدة، وتجعل من أيّ إدارة جديدة تلجأ إلى «تقليل الأدوات». وفي الوقت نفسه سيكون ذلك ضرورياً لاستقرار السياسة الخارجية عن طريق «تقوية الدعم العام» من أجل رؤية جديدة للمسؤوليات العالمية للولايات المتحدة.

إيجاد حافة الماء

بالنسبة للأميركيّين الذين عاشوا الإجماع الحزبي لعهد الحرب الباردة، فإنّ النزاع السياسي الحالي حول السياسة الخارجية يبدو انحرافاً عن القاعدة، غير أنّ الحقيقة هي أنّ التعاون الحزبي الذي ساد سنوات الحرب الباردة، كان الاستثناء لا القاعدة.
فبعد تأسيس الجمهورية مباشرة، تشكّلت الأحزاب السياسية لتساعد في التغلّب على العقبات المتمثّلة في الفيدرالية وفصل السلطات بين الولايات. وخلال العقود الأولى للأمّة، بدا الخط الرئيسي للمنافسة الحزبية على طول التقسيم شمال/ جنوب، بين الفيدراليين الهاملتيّين في الشمال الشرقي، والجمهوريّين الجيفيرسيّين في الجنوب، واختلف الطرفان على القضايا الاستراتيجية الكبرى ـــــ وخصوصاً فيما إذا كان على الولايات المتحدة أن تميل نحو بريطانيا العظمى أو فرنسا ـــــ بالإضافة إلى قضايا الاقتصاد السياسي الذي تمحور النزاع حولها.
وكان قلق الفيدراليّين من أنّ الجمهوريّة الجديدة قد تفشل إذا ما وجدت نفسها في صراع مع البريطانيين؛ لذا فقد فضّلوا الميل نحو لندن بدلاً من توسيع التحالف مع فرنسا. أمّا بالنسبة للخلافات الاقتصادية، فقد دافع الفيدراليّون عن مصالح رجال الأعمال الطموحين في الشمال، ودافعوا عن التعريفات الجمركية لحماية الصناعات الناشئة في المنطقة، بينما واصل الجمهوريون، الميل نحو فرنسا على أمل موازنة قوّة بريطانيا العظمى بالاعتماد على منافس أوروبي رئيسي.
وفي وصية جورج واشنطن، وجد الطرفان أساساً مشتركاً في الحاجة لتجنّب «التحالفات المعقّدة». وبردت العواطف الحزبية بنهاية الحروب النابليونية في أوروبا، ونشأ عصر القدرة على الإيفاء في إدارة الشؤون الخارجية للأمّة. ومع انهيار الخلاف الفيدرالي، وانبعاث الاقتصاد الذي لم يتعطّل بفعل الحرب، فقد نشرت صحيفة «بوسطن» ما سمته «عصر المشاعر الطيبة». وللمرّة الأولى، تمتّعت الولايات المتحدة بفترة من الإجماع السياسي. وفي هذه الأثناء، تمّت حماية السلام من خلال اتفاق الدول الأوروبية، وهو ما اقترن بالتقارب المؤقّت مع لندن، والذي بدوره تلى حرب 1812. وسمح ذلك لمسؤولي الجمهورية المنتخبين، بدءاً بجيمس مونرو، لتحويل وإدارة نشاطاتهم إلى مطالب «التحسين الداخلي»، وركّز الأميركيون على توسّع الاتحاد غرباً.
وعام 1846، تمّ قلب هذا الإجماع عندما أخذ جيمس بولك البلاد إلى حرب ضد مكسيكو باسم «قدر واضح». دافع الديمقراطيون (الورثة الجنوبيّون لجمهوريّي جيفرسون) عن الاستيلاء على الأراضي المكسيكية ونظروا إلى الحرب كفرصة لتقوية قبضتهم على القدرات الوطنية.
ودفع الخوف الشماليين الشرقيين (أجداد الجمهوريين المعاصرين) إلى معركة دفاعية متحدّين بولك. فحرب بولك هي حرب الولايات المتحدة الأولى التي أطلقت العنان لدورة جديدة من الصراع الحزبي، وفاقمت التوتّرات الإقليمية التي أدّت في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب الأهلية.
وحلّ هدوء محلّي ضعيف بعد الحرب الأهلية، لكنّه سرعان ما انتهى بالانقسامات حول تطلّعات الولايات المتحدة إلى مكانة القوّة العظمى، وعلى مدى التسعينات من القرن التاسع عشر، بنت الولايات المتّحدة أسطولاً عالمياً كسبت من خلاله أراضي أجنبية، وضمنت أسواقاً خارجية جديدة.
ومع الحرب الإسبانية ـــــ الأميركية، حيث انخرطت الولايات المتحدة في ما سمّاه ليبمان «عجز الدبلوماسية»، تجاوزت التزامات الولايات المتحدة الدولية رغبة الجمهور في تحمّل الأعباء الضرورية.
وبعد نهاية القرن، ترنّحت السياسة الخارجية الأميركية بشكل غير متماسك بين بدائل شديدة وصارمة. وتجاوزت مغامرة «الإمبريالي» روزفلت في الفيليبين، شهية البلاد في الطموح الخارجي، وحاول وليم تافت من خلال «دبلوماسية الدولار» ملاحقة أهداف واشنطن في الخارج وفق «الوسائل السلمية والاقتصادية». وسبّب بذلك غضب الديموقراطيين الذين نظروا إلى استراتيجيته باعتبارها «ليست إلّا معاهدة تمثّل مصالح الشركات الكبرى». واعتنق الرئيس ولسن مبادئ «الأمن الجماعي» وعصبة الأمم، للتخفيف من تكاليف الارتباط العميق للولايات المتحدة بالعالم.
لكنّ مجلس الشيوخ كان مشلولاً كليّاً بـ«الحقد الحزبي»، فقال أحد معارضي عصبة الأمم في مجلس الشيوخ هنري كابوت لودج مستهزئاً «لم أتوقّع أن أكره أي شخص في السياسة بمثل الكراهية التي أشعر بها نحو ولسون». وحلّ المأزق السياسي في فترة بين الحربين، وتمّ اللجوء إلى الانعزالية التي تمّ الدفاع عنها من قبل كل من وارن هاردنك وكالفن كوليدج وهيربيرت هوفر.
وكان أحد إنجازات فرانكلين روزفلت التغلّب على هذا الانقسام الحزبي، وذلك بقيادة البلاد نحو عصر جديد من تعاون الحزبين.
وساعدت طبيعة التهديد الجيو سياسي الذي واجه الولايات المتحدة كلاً من روزفلت وورثته على تحمّل وتقوية هذا الميثاق الدولي الحر، واحتاجت واشنطن إلى حلفاء لمنع الهيمنة على أوراسيا من قبل قوّة «معادية»، وشجّعت الضرورات الاستراتيجية للحرب العالمية الثانية والحرب الباردة الديموقراطيّين والجمهوريّين على حدّ سواء على التوحّد حول سياسة خارجية مشتركة. وعندما تفجّرت العواطف الحزبية، كما حصل خلال الحرب الكورية وحرب فيتنام، تمّ احتواؤها من قبل أولويات تنافس القوة العظمى.
إن رسوخ التعاون الحزبي حول السياسة الخارجية، كان النتيجة ليس فقط للضرورة الاستراتيجية، لكن أيضاً للتغيّرات في المشهد السياسي؛ فالتقسيمات الإقليمية اعتدلت بعد تشكيل الشمال والجنوب حلفاً سياسياً للمرّة الأولى في تاريخ البلاد، وهو حلف قوّاه معاداة الشيوعية.
كما كبح قلق الشعب من المعركة النوويّة جماح اليمين، وخفّف الرخاء الاقتصادي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من الانقسامات الاجتماعية الاقتصادية للعصر الجديد، مُضيّقاً المسافة الأيديولوجية بين الجمهوريّين والديموقراطيّين، ما جعل من الإجماع أكثر سهولة.

أمّة يُعاد تقسيمها

لم يبدأ انهيار التعاون الحزبي مع جورج بوش الابن. فهذا التعاون سقط بحدّة بعد نهاية الحرب الباردة، ووصل إلى مستوى منخفض بعد الحرب العالمية الثانية بعد سيطرة الجمهوريّين على الكونغرس عام 1994، وتكرّرت الصدامات بشأن السياسة الخارجية بين إدارة كلينتون والكونغرس على مختلف المواضيع. ولاحقاً، فكّكت إدارة بوش ما تبقّى من المركز المعتدل للولايات المتّحدة، والانقسام الحزبي اليوم يوسّع الانشقاق حول الحرب. ويحمل المشرّعون الديموقراطيون والجمهوريّون اليوم، وجهات نظر متباعدة جدّاً حول السياسة الخارجية وبشأن الأسئلة الأكثر إلحاحاً، بدءاً من الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، وصولاً إلى مصادر وأغراض قوّتها، مروراً بحقّ استخدام القوة، دور المؤسسات الدولية، حتّى وصل الأمر بالبعض إلى حدّ القول بأنّ ممثّلي الحزبين يعيشون على كواكب مختلفة.
ويؤكّد معظم الجمهوريّين في الكونغرس، على أنّ قوّة الولايات المتحدة تعتمد بشكل رئيسي على استعمال القوة العسكرية، وينظرون إلى التعاون المؤسّسي كعائق، ويدعمون بقوّة الجهود الثابتة والمتواصلة لإدارة بوش لتهدئة الوضع في العراق. وعندما أجرى الكونغرس الجديد تصويته الأوّل حول الحرب في العراق بداية هذا العام، فقط 17 من أصل 201 من الجمهوريّين في الكونغرس، خرقوا الخطوط الحزبية ليعارضوا بقاء القوات الأميركية في بلاد الرافدين. أمّا في مجلس الشيوخ، فقط جمهوريّان انضمّا إلى الديموقراطيين في الموافقة على قرار الدعوة لتحديد جدول زمني للانسحاب.
وبعكس ذلك، يزعم الديموقراطيّون، أن قوة بلادهم يجب أن تعتمد على عنصر «الإقناع»، لا القوّة، وبالتالي فمن الضروري أن تمارس القيادة العالمية بشكل متعدّد الأطراف.
ومن المؤكّد أنّ الحزب الجمهوري لا يزال موطناً للقليل من الملتزمين حزبياً، مثل أعضاء مجلس الشيوخ: ريتشارد لوغار وتشوك هاغيل. وبعض الديموقراطيين ـــ وخصوصاً هؤلاء الذين ينظرون إلى الرئاسة ـــ متحمّسين لعرض عزيمتهم وتصميمهم بشأن قضايا الدفاع الوطني، لكنّ زعماء الحزب يُدفعون إلى اليسار من قبل نشطاء الحزب الأقوياء جدّاً.
إنّ التداخل الأيديولوجي بين الطرفين ضئيل، ومناطق الاتفاق سطحية في أحسن الأحوال. وما زال معظم الديموقراطيّين والجمهوريّين يعتقدون أن الولايات المتحدة تقع عليها مسؤوليات عالمية، لكن ليس هناك اتفاق حول كيفية الملاءمة بين الوسائل والأهداف، فالطرفان يتحرّكان في اتجاهين متعارضين، والفجوة تزداد اتّساعاً بين أفراد الشعب بالإضافة إلى النخب السياسية.
وفي استطلاع لمركز الأبحاث «بيو» في آذار 2007، رأى أكثر من 70 في المئة من الجمهوريين أن «الطريق الأفضل لضمان السلام يتمّ من خلال القوة العسكرية». وفقط 40 في المئة من المصوّتين الديموقراطيين شاطروا وجهة النظر هذه. وكان «بيو» قد أجرى استطلاعاً مشابهاً عام 1999 كشف عن نفس الانشقاق الحزبي الذي لا يقتصر على السياسة الخارجية لبوش، لكن أيضاً حول الأهداف الأوسع لقوة الولايات المتحدة. وسجّل استطلاع شبكة «سي أن أن» عام 2007، أن 24في المئة فقط من الجمهوريين يعارضون الحرب في العراق، مقابل 90 في المئة من الديموقراطيين.
ووجدت دراسة صندوق مارشال الألمانية في حزيران 2006، بأن 35 في المئة من الديموقراطيين يعتقدون أنّ الولايات المتحدة يجب «أن تساعد على قيام الديموقراطية في البلدان الأخرى»، مقارنة مع 64 في المئة من الجمهوريّين.
إنّ جذور هذه العودة إلى الحقد الحزبي تعود إلى الوضع الدولي الراهن، بالإضافة إلى الوضع الداخلي. أمّا خارجياً، فإن زوال الاتحاد السوفياتي وغياب منافس قويّ جديد قضى على «الانضباط» واللحمة الوطنية التي سادت خلال الحرب الباردة، وتركت هذه السياسة الخارجية البلاد عرضة لتقلبات السياسة الحزبية. ولم يشكّل تهديد الإرهاب الدولي عاملاً موحّداً بين الأميركيّين.
ويختلف اليوم الأميركيون الديموقراطيون والجمهوريون حول طبيعة ارتباط البلاد في العالم، بالإضافة إلى القضايا المحلية مثل الإجهاض والرقابة على الأسلحة والضرائب.
ومع تصاعد وتيرة الحملة الرئاسية، فالمواجهة الحزبية تستعدّ لمشهد جديد من المنافسة، من المأزق السياسي في الداخل وقيادة فاشلة في الخارج.

إعادة القدرة على الإيفاء

في أوائل القرن العشرين، أنتجت الانقسامات الحزبية العميقة تأرجحات سياسية خطيرة ومتقلبة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، والتي أدت في نهاية المطاف إلى العزلة عن العالم، وها هي دينامية مماثلة تتجلّى في بداية القرن الواحد والعشرين. إن استقلالية السياسة الخارجية القوية الأحادية بالنسبة لإدارة بوش تثبت أنه لا يمكن دعمها سياسياً. وهنا تتركّز الأنظار على الانتخابات المقبلة في 2008، فالديمقراطيون يستعدون لخطط طموحة «لاستنشاق حياة جديدة في المؤسسات الدولية». أمّا الحزب الجمهوري، فحُرم من معتدليه بعد انتخابات 2006، وصبره بات قليلاً بالنسبة للتعددية التشاركية وسيسعى لمنع أي محاولة مبرمجة لربط واشنطن بالاتفاقات والمؤسّسات الدولية، وخصوصاً وسط الخلاف الناتج عن الحرب في العراق.
يبدو أنّ الناخبين في الولايات المتحدة يحتلّون العنوان الأهم في الأحادية الأميركية في السياسة الخارجية، بحسب الاستطلاع الذي أجرته المحطة الإخبارية «سي بي أس في كانون الأول 2006، الذي أشار إلى أنّ 52 في المئة من الأميركيّين يعتقدون بأنه يجب على الولايات المتحدة «أن تتدبّر أمرها منفردة دولياً»، بينما حمل 36 في المئة من الأميركيين وجهة النظر هذه في خضم حرب فيتنام.
ويتمّ الإعلان عن مثل هذه المواقف المنعزلة بين الأصغر سناً: 72 في المئة من بين البالغين من 18 إلى 24 عاماً لا يعتقدون أنه يجب على بلادهم أن تحتلّ مركز الصدارة في حل الأزمات العالمية. وإذا استمرت واشنطن في مواصلة استراتيجيتها الكبرى التي تتخطى قدراتها السياسية، فمن المؤكد أن الرأي «الانعزالي» بين الأميركيّين سيتوسّع.
في المشهد الاستقطابي اليوم، يريد الديموقراطيون ظهوراً أقل لعامل القوة، بينما يريد الجمهوريون مشاركة دولية بنسبة أقل. لذلك، فإنّ إيجاد حالة توزان محليّة جديدة تضمن قيادة مسؤولة للولايات المتحدة في العالم تتطلّب استراتيجية حكيمة وهادفة، وقائمة على الآتي:
أولاً، تستلزم هذه الاستراتيجية مشاركة أكبر مع الدول الأخرى حول الأعباء. يجب على الولايات المتحدة أن تستعمل قوتها ومساعيها الحميدة لتحفيز الاعتماد الذاتي في مناطق مختلفة، مثلما فعلت في أوروبّا، ويجب على واشنطن أن تعمل على إيجاد كتل إقليمية فاعلة. فعلى سبيل المثال، يجب تشجيع دول مجلس التعاون الخليجي لتعميق التعاون الدفاعي في شبه الجزيرة العربية، ومساعدة الاتحاد الأفريقي لتوسيع قدراته، ودعم جهود منظمة جنوب شرق آسيا لبناء منتدى أمني لآسيا الشرقية. ويجب على واشنطن أن تحثّ الاتحاد الأوروبي لصياغة مقاربة أكثر جماعية للسياسة الأمنية التي تفترض أعباء دفاعية أكبر.
كما ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمّق من روابطها مع القوى الإقليمية الصاعدة، مثل البرازيل والصين والهند ونيجيريا لتكون قادرة على التأثير الأفضل على سلوكهم.
ثانياً، لا بدّ من القول إن «الحرب على الإرهاب» تقلق الولايات المتحدة، فيجب على استراتيجيتها أن تستهدف الإرهابيين بدلاً من الدعوة لتغيير الأنظمة. وهذا يعني العمل على تركيز الجهود العسكرية لتدمير الخلايا والشبكات الإرهابية وضرب مصادر انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، وبالتالي ضرورة الاعتراف بأنّ الإصلاح في العالم العربي سيكون بطيئاً. ويجدر بواشنطن أن تتابع السياسات التي تدعم التنمية الاقتصادية بصبر، واحترام حقوق الإنسان، والتعددية الدينية والسياسية، ومحاربة التطرف، لأنّ متابعة العمل على تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط، ستؤثّر عكسياً.
ثالثاً، على الولايات المتحدة أن تعيد بناء قوتها الصلبة. وللنجاح في ذلك، يجب أن يخصّص الكونغرس الأموال الضرورية لتصحيح التأثير المدمّر للحرب في العراق على الاستعداد والجهوزية ومعنويات القوات المسلّحة. وعلى وزارة الدفاع أيضاً أن تدّخر مواردها لدعم قواعدها التي يصل تعدادها إلى 750 قاعدة خارج الولايات المتحدة.
رابعاً، على الولايات المتحدة أن تعيق الخصوم بواسطة «الارتباط»، مثلما فعلت القوى العظمى في القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، عدّل بيسمارك علاقات ألمانيا ببراعة مع الدول الأوروبية الرئيسية من أجل أن يضمن بأن لا تواجه بلاده تحالفاً أوروبياً قوياً. في منتصف القرن العشرين، قلّصت المملكة المتحدة الولايات المتحدة واليابان بنجاح من تكاليف إمبراطورياتها وراء البحار، وهو ما مكّنها من مواجهة الأخطار الأقرب إلى حدودها.
وفي أوائل السبعينات من القرن الماضي، أدّى انفتاح الرئيس ريتشارد نيكسون على الصين إلى التخفيف من أعباء الحرب الباردة.
على واشنطن اليوم أن تسعى وراء استراتيجيات مشابهة، وذلك من خلال استخدامها لدبلوماسية فطنة وذكية لترطيب المنافسة الاستراتيجية مع الصين وإيران ومنافسين محتملين آخرين. على جهود الولايات المتحدة أن تعتمد على مبدأ «السياسة بالمثل»، وإذا تمّ رفض واشنطن، عندها يجب أن تكون على أهبة الاستعداد لتفادي التعرض لخطر استراتيجي.
المكوّن الخامس لهذه الاستراتيجية الكبرى، يجب أن يكون مسألة استقلال الطاقة. إنّ إدمان الولايات المتحدة على النفط، يقلّص من مرونتها الجيو ـــ سياسية، وهذا ما يدفعها إلى لعب دور الحارس للخليج الفارسي، إضافة إلى تركيب اصطفافات سياسية معقّدة. علاوة على ذلك، فإن أسعار النفط المرتفعة، تشجّع المنتجين مثل إيران وفنزويلا وروسيا على تحدّي مصالح الولايات المتحدة الأميركية.
على الولايات المتحدة التقليص من اعتمادها على النفط، وذلك في الاستثمار لتطوير وقود بديل ولو كان هذا على الأمد الطويل.
أخيراً، يجب على الولايات المتحدة أن تفضّل شراكات براغماتية على حساب المؤسّسات الدولية التي تشكّلت في عصر الحرب الباردة.
لقد بات واضحاً أن دعم الكونغرس للتحالفات الثابتة وللمؤسّسات المتينة الذي وجُدت بعد الحرب العالمية الثانية قد تضاءل وبات من غير جدوى. إن المنظّمات غير الرسمية، مثل «مجموعة الاتصال لدول البلقان»، واللجنة الرباعية والمحادثات السداسية حول كوريا الشمالية، والتحالف بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني... أصبحت اليوم الوسائل الدبلوماسية الأكثر فعالية. ففي مناخ استقطابي كالذي نعيشه اليوم، يجب أن تكون الاتفاقات المرنة والتحالفات الخاصّة بمهمات معينة مصادر رئيسية لصنف جديد من أصول الحكم الأميركي.
وعلى عكس ذلك، فإن الاستمرار باتّباع سياسة خارجية مفرطة في طموحها بات أمراً لا يمكن للولايات المتحدة ولا للعالم تحمّل نتائجه.
*عن مجلّة Foreign Affairs ترجمة وإعداد ليلى نقولا الرحباني