نادية الذوادي *
كانت لاغتيال رفيق الحريري تداعيات سياسية مهمة في لبنان، عمقت انقساماً ظهرت بوادره قبل مقتل الحريري. وسرعان ما تجاوزت عملية الاغتيال حدود توصيف «الشأن الداخلي» أو «الجريمة المحلية» لتصبح شأناً دولياً بل جريمةً تهتم بها الأمم المتحدة وتدرجها ضمن جدول أعمال مجلس الأمن، أحد أجهزتها المهمة وربما أهمها. وقد كان رد فعل مجلس الأمن أسرع من ردود الفعل التي عرفناها في قضايا وأزمات أخرى، إذ قرر إنشاء لجنة بحث وتقصٍّ في مرحلة أولى ثم محكمة ذات طابع دولي «تتولى تتبّع قتلة» الحريري في مرحلة ثانية.
يوم 15 شباط 2005، أصدر مجلس الأمن بياناً رئاسياً يدين فيه التفجير الذي أودى بحياة السياسي اللبناني، واصفاً إياه بالعمل الإرهابي، وداعياً إلى تقديم مرتكبيه إلى العدالة. وهكذا ربط مجلس الأمن، منذ البداية، بين محاكمة قتلة الحريري و«مكافحة الإرهاب» التي تجنِّد لها المجموعة الدولية حالياً كل إمكاناتها. وانتهى البيان الرئاسي إلى أن يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة متابعة ما سماه «الحالة في لبنان» من دون أن يوضح له محتوى هذا الطلب وأي «متابعة» يريد.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن البيان الرئاسي، الذي يقوم بإصداره رئيس مجلس الأمن، ليس من وضع ميثاق الأمم المتحدة، بل هو نتيجة ممارسة دولية متواترة. وهو، من وجهة نظر قانونية، لا يتضمن أي إلزام بتطبيق ما ورد فيه. هذا البيان الرئاسي انطلق منه الأمين العام للأمم المتحدة لتكوين بعثة تحقيق وتقصّي حقائق، رأت في أول تقرير لها أن «ثمة حاجة لإجراء تحقيق دولي مستقل»، بناء على استنتاجاتها الأولية حول الاغتيال.
اللافت للنظر في استنتاجات البعثة أنها أقرب إلى الافتراضات. فقد بدأ التقرير بالقول إنه: «لا يمكن تأكيد الأسباب المحددة لاغتيال السيد الحريري بشكل موثوق إلا بعد أن يجري إحضار مقترفي هذه الجريمة أمام العدالة». وأكد ضرورة إجراء أبحاث للوقوف على حقيقة ما وقع. وانتهى إلى استنتاج ما يلي: «(....) إن حكومة الجمهورية العربية السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية عن التوتر السياسي الذي سبق اغتيال رئيس الوزراء السابق السيد الحريري»، بل إن البعثة ستبني على هذا الاستنتاج استنتاجاً أخطر. فهي ترى أنه «من دون المساس بنتائج التحقيق يبدو جلياً أن هذا المناخ وفر الخلفية لاغتيال السيد الحريري». نحن إذاً إزاء بعثة تدوّن فرضياتها وتجعل منها استنتاجات مسبقة تبنيها على معلومات أولية لم يُبحث في شأنها بعد.
وفي نهاية تقريرها، أوصت البعثة مجلس الأمن بإنشاء ما سمته «بعثة تحقيق مستقلة». وبرّرت هذا الطلب بما وقفت عليه، وهو الاستنتاج الثاني لها، من أن عملية التحقيق التي أجرتها الأجهزة اللبنانية «تشوبها عيوب جسيمة. حكمت إذاً البعثة على أجهزة الأمن اللبنانية بالعجز عن الوصول إلى قتلة الحريري ووجدت البديل. إنه هيئة دولية مستقلة».
جعل مجلس الأمن هذا التقرير منطلقاً للقرار 1595 الذي أصدره في 7 أفريل 2005، وأنشأ ما سماه «لجنة دولية مستقلة للتحقيق». وعلى رغم أن مجلس الأمن أعرب عن «استعداده لمساعدة لبنان في البحث عن الحقيقة»، إلا أنه بدا جلياً أنه يريد الوصول إلى هذه الحقيقة بنفسه عن طريق اللجنة التي أنشأها.
القرار 1595 يضعنا أمام أكثر من تساؤل قانوني، لكن أهم تساؤل يظل: هل مجلس الأمن مخوّل قانوناً إحداث آلية تحقيق قضائي حول اغتيال أشخاص؟ من جهة أخرى، التحقيق لن يكون نهاية المطاف، فهو يقدم لمحاكمة من سيثبت تورطهم في الجريمة. القرار 1595 يبين مآل التحقيق منطلقاًَ من «إجماع الشعب اللبناني على المطالبة بالكشف عن هوية المسؤولين عن الجريمة ومحاسبتهم»، يبدو جلياً إذاً أن المجلس لن يكتفي بآلية تحقيق بل يسعى إلى إنشاء آلية حكم وقضاء أيضاً.
نحن نعرف تبعات تدخل مجلس الأمن وقراره على الحياة السياسية اللبنانية وعلى العلاقات الدولية، لكن هذا التدخل يضعنا أمام أكثر من تساؤل قانوني يتصل باختصاص مجلس الأمن. هل اغتيال الحريري جريمة «عادية» كأي جريمة قد تحصل في أحد شوارع بيروت أو باريس؟ هل هو «جريمة دولية» وهذا التكييف يجعل الحادثة تخرج من أنظار القضاء الوطني وتدخل ضمن «اهتمامات» القضاء الجنائي الدولي؟ وعلى فرض أننا انتهينا إلى أنها جريمة دولية، فهل مجلس الأمن، الجهاز المكلف بحفظ الأمن والسلم الدوليين، مخول تتبع مرتكبي هذه الجريمة ومقاضاتهم، أو بعث هيئات تتولى ذلك؟ هل هو مخول استعمال مواد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لفرض هذه المقاضاة؟
استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة، لا يمكن مجلس الأمن أن ينشئ هيئات قضائية تنظر في جرائم يفترض أنها من أنظار القضاء الوطني. لكنه أنشأ أكثر من هيئة قضائية. أنشأ مجلس الأمن محكمتين جنائيتين تحاكمان حالياً مرتكبي جرائم حرب حدثت في يوغسلافيا السابقة ورواندا. هذا يعني أن هناك سابقة قانونية يمكنها أن تعوض غياب النص وتؤسس بذلك لاختصاص قضائي لمجلس الأمن.
لكن اغتيال الحريري ليس بمثل بشاعة ما حدث في يوغسلافيا أو في رواندا. ولبنان لم يفقد مؤسساته القضائية ومكوناتها بحيث تعجز عن تقديم خدمة العدالة لمواطنيه كما حصل في رواندا أو في ما اصطلح على تسميته يوغسلافيا السابقة.
علينا ألا ننسى مع ذلك أن اغتيال الحريري ومحاكمته مرتبطان بظرفية عالمية وإقليمية ولبنانية شديدة التعقيد. نحن في خضم حرب معلنة ضد الإرهاب تشنها دول عظمى. نحن إزاء توتر سياسي يسود المنطقة العربية، له أبعاد متداخلة تتصل بالهوية، بالانتماءات الطائفية وبالتنظيم السياسي وأيضاً بما يسمى الحرب على الإرهاب. نحن أيضاً نشهد تحوّلاً عميقاً لمفهوم ساد قروناً هو سيادة الدولة، بفعل العولمة وتشابك مصالح الدول وبفعل ما يسمى القطبية الآحادية، وتعاظم سيطرة الولايات المتحدة على مواقف الدول وتحركاتها في المحافل الدولية والمنظمات الدولية.
كل هذا من شأنه أن يجعل التحليل القانوني الصرف قاصراً وغير كاف للإحاطة بهذه القضية، لكنه مع ذلك أحد أهم الجوانب، وهو يمكّن من فهم مسار المسألة وكيفية حلها على الأقل في المرحلة الراهنة وهي مرحلة تكوين المحكمة التي سيعهد لها مقاضاة قتلة الحريري.
الميثاق لم يمنح مجلس الأمن صلاحية إنشاء هيئات قضائية ينص الفصل 24 من ميثاق الأمم المتحدة على أن مجلس الأمن يملك «التبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدوليين»، أي أنه المسؤول الأول عن حفظ السلم الدولي. وتجدر الإشارة إلى أن «حفظ السلم والأمن الدوليين» اختصاص عام وفضفاض لم يضع له الميثاق محتوى دقيقاً، ولم يضبط له معايير وحدوداً ثابتة يمكن الانطلاق منها لرسم صلاحيات المجلس.
وعليه، فقد حظي مجلس الأمن بحرية، أريد لها أن تكون غير محدودة، لضبط الحالات التي تمثل تهديداً للسلم أو انقطاعاً له أو حالات العدوان. عدّد الفصل 39 الحالات التي تقتضي من مجلس الأمن اتخاذ قرارات ملزمة، والتي يمكن أن تتضمن إجراءات عقابية صارمة قد تصل إلى استخدام القوة المسلحة، من دون أن يعرّفها بدقة.
يعطي غياب التحديد الدقيق مجلس الأمن هامشاً مهمّاً من حرية التصرف، فهو قادر على تصنيف الحالة التي تعرض عليه ضمن الإطار القانوني الذي يراه ملائماً، ذلك أننا إذا فرضنا على الجهاز السياسي للأمم المتحدة تعريفات محددة سلفاً، فإننا سنسجنه داخل قوالب جاهزة وجامدة من شأنها أن تحدد طريقة إدارته للحالات المعروضة عليه. ولا ننسى أن مجال حفظ السلم الدولي مرن ويخضع باستمرار للتغير والتحول، ولا يمكن أطر جامدة ومحددة سلفاً أن تديره. لا ننكر إذاً أن مجلس الأمن يحتاج في التعامل مع هذه الحالات إلى حرية موسعة.
تمكّن هذه الحرية مجلس الأمن من تكييف أي حالة تعرض عليه واتخاذ ما يراه من التدابير للتصدي لها، فهي التي تمكّنه من اختيار الإطار الذي سيتصرف ضمنه، فإما أن يقوم بإصدار توصيات لا إلزام لها وإما أن يختار الفصل السابع ويتخذ قرارات ملزمة، يمكنه فرضها باستعمال القوة المسلحة. هذا يعني أنه قد يرى في حادثة اغتيال وزير سابق تهديداً للسلم الدولي، بل يمكنه أن يرى فيها عدواناً من دولة على استقلال دولة أخرى وسيادتها.
وفي هذا السياق اعتبر القرار 1595 اغتيال رفيق الحريري عملاً إرهابياً، و«جريمة شنيعة»، ودانه ودان الأحداث التي تلته واصفاً إياها بأنها «اعتداءات على لبنان»، لكنه لم يدرج مقتل الحريري ضمن الحالات التي عدّدها الفصل 39 من الميثاق.
للوهلة الأولى يتبادر إلى أذهاننا أننا بعيدون عن إلزام الفصل السابع. لعل مجلس الأمن لم يرغب في وضع نفسه تحت طائلة هذا الفصل بما يعنيه ذلك للدول والأفراد من إلزام وفرض سيكونان محميّين بالتدابير القسرية المتاحة له.
يبدو أن مجلس الأمن ما زال يريد منح فرصة للاتفاق بين الأطراف المعنية، لكنه ليس بعيداً تماماً عن لغة الإلزام، ذلك أن مجلس الأمن، وفي إطار حرية العمل التي يمنحه إياها الميثاق، ليس مقيداً بتوصيف الحالة المعروضة عليه، أو بذكر النص القانوني الذي سيبني عليه قراراته. وإذا كانت المناقشات التي دارت بين الدول حول القرار 1595 شحيحة ولا تسمح بفهم نية مجلس الأمن حول هذا الموضوع، فإن نص القرار يؤكد بوضوح أنه لا يتضمن اقتراحات يمكن الأخذ بها أو تجاوزها، ذلك أن مجلس الأمن «يقرر (....) إنشاء لجنة دولية مستقلة للتحقيق»، وهو أيضاً «يقرر (....) أنه ينبغي للجنة أن تلقى تعاوناً تاماً من جانب السلطات اللبنانية». هذا يعني أن مجلس الأمن أراد الإلزام لا الطلب أو الاقتراح.
يعطي الميثاق مجلس الأمن حرية تامة ليقرر الإطار الذي يضع ضمنه تصرفه. هو حر في أن يقرر إن كانت الحالة المعروضة عليه تشكل خطراً على السلم الدولي أو لا. وهو مخيّر تماماً في نهج طريق الإلزام أو الاكتفاء بالاقتراح. وجليٌّ أن مجلس الأمن اختار الإلزام منذ البداية في قضية رفيق الحريري.
حرية مجلس الأمن تتقلص مع ذلك عندما يتعلق الأمر بالتدابير التي يتخذها لمتابعة الحالة التي اختار أن يدرجها ضمن نفوذ الفصل السابع. الفصل 41 من الميثاق يحدد له التدابير التي لا تتطلب استخدام القوة المسلحة والتي عدّد منها كأمثلة «وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً، وقطع العلاقات الديبلوماسية».
أما الفصل 42 فهو يحدد ما يمكن مجلس الأمن أن يتخذه «من طريق القوات الجوية والبحرية والبرية» لحفظ الأمن والسلم أو إعادتهما إلى نصابهما. وكأمثلة على هذه الأعمال ذكر الميثاق: «التظاهرات والخطر والعمليات الأخرى...». القائمة قابلة للتوسيع بطبيعة الحال ولفظ «العمليات الأخرى» يمنح إجراءات عديدة إمكانية الانضواء تحت منطوق الفصل 42 وفي إطار سلطته.
فأين يمكن وضع التحقيق والتتبع القضائي لعملية اغتيال رأى فيها المجلس تهديداً للسلم الدولي؟ في الواقع، العمل القضائي لا يدخل ضمن الفصل 41 ولا ضمن الفصل 42 من ميثاق الأمم المتحدة، إذ لا يوجد أي تجانس أو تقارب بين الآليات القضائية والأمثلة المذكورة في الفصلين.
لكن الأهم من ذلك أن مجلس الأمن جهاز سياسي، بإنشائه لجاناً وآليات تحقق وتقاضي، سينتصب قاضياً أيضاً، والحال أن تركيبته وطرق التصويت على قراراته تحدث عدم توازن لمصلحة الدول الدائمة العضوية، ما قد يبعده عن أهم صفات القضاء: الحياد والموضوعية. وهو ما قد يسمح باستعمال مجلس الأمن وإخضاعه لإملاءات سياسية وإبعاده عن الغايات المعلنة للتتبع القضائي: الوصول للعدالة والتصدي لظاهرة الإفلات من
العقوبة.
لكن مجلس الأمن سبق له أن أنشأ هيئات قضائية وقرر تتبع ومقاضاة المتهمين بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في يوغوسلافيا السابقة وراوندا. وعليه هناك أكثر من سابقة قد تؤسس لهذا الاختصاص إن سلمنا فرضاً بعدم تنصيص ميثاق الأمم المتحدة عليه.
* باحثة ومدرّسة قانون في جامعة تونس


اجزاء ملف "مجلس الأمن ينشئ محكمة!":
الجزء الأول | الجزء الثاني