ورد كاسوحة*
يبدو أن السياق الذي بدأ مع مقتل الرئيس رفيق الحريري، ولم ينته مع أحداث نهر البارد واغتيال النائب وليد عيدو، مرشح لمزيد من التفاقم، بدليل أن المحطات المتتالية للعبث بالتركيبة المجتمعية اللبنانية منذ صبيحة 14 شباط 2005 وحتى اليوم لم تؤت مفاعيلها، ولم تفضِ إلى نتائج ملموسة يمكن البناء عليها وجعلها قابلة للتثمير عملياً، من ائتلاف الوصاية الدولية والعربية (المعتدلة)، وهي كما يعلم «الجميع» الوريثة الشرعية للحقبة السورية، ولو بشكل أقل عنفاً، وأكثر براغماتية واعتباراً للحساسيات التقليدية اللبنانية.
ولكي يكتمل هذا السيناريو التصعيدي، كان لا بد من إحداث انعطافة ما في النهج التخريبي والتدميري للبنية السياسية والمجتمعية اللبنانية، بحيث يغدو من المتعذّر والمستحيل العودة إلى ما قبل هذه الانعطافة. وهذا يعني في التحليل الأخير إعطاب القرار الوطني اللبناني، وجعله رهينة «المجتمع الدولي»، مع ما يعنيه هذا الارتهان من تكريس لمفهوم التدويل، وصيرورته إطاراً وحيداً للصراع السياسي ما بين الطوائف اللبنانية المتنازعة في ما بينها على الحكم.
من هنا كانت أحداث نهر البارد، والاستحضار الفوري والميكانيكي للنموذج العراقي، وربما الأفغاني في ما بعد، إذا ما ساءت الأمور، وشاءت قوى الوصاية الجديدة نقل لبنان إلى حيّز الصراع العدمي والعبثي الذي تخوضه الولايات المتحدة منذ أيلول 2001 ضد ما تسميه «الإرهاب الدولي». وليس أدلّ على ذلك من الاستهداف الأخير الذي تعرّضت له قوات اليونيفيل، العاملة في الجنوب، إذ لا يخفى على أحد أن هذه العملية أقرب إلى نهج المنظمات الأصولية التكفيرية المنضوية في لواء «القاعدة» من تلك العمليات المتفرقة في بيروت هنا وهناك، والمنسوبة إما إلى القاعدة وشبكاتها، إذا كان لها من شبكات أصلاً، أو إلى الاستخبارات السورية وعملائها في الداخل اللبناني.
وهاتان الروايتان ما هما إلا نموذج عن فداحة الخسارة التي ألحقتها الوصايات المتعددة والمتنقلة بهذا البلد، وبوعي أبنائه لطبيعة الصراع الدائر في المنطقة، حيث لم يعد هناك من مكان لقراءة مركّبة ومستقلّة تحلّل معطيات الواقع وتبني على هذا التحليل خلاصات منطقية من شأنها أن تقود اللبنانيين إلى وعي حقيقي غير مفبرك وغير خاضع لبروباغندا الإعلام والإعلام المضاد.
هذا الوعي الناقض للزيف الأيديولوجي اللبنانوي هو وحده الكفيل في هذه المرحلة الدقيقة بإسقاط «أساطير» شائعة ومبتذلة من قبيل: «التطرف» و«الاعتدال»، «8 آذار» و«14 آذار»... إلخ، وأخذ اللبنانيين إلى موقع لا يكونون فيه مجبرين على التموضع المدرسي والساذج إما في معسكر 14 آذار، أو في معسكر 8 آذار.
وهذا يعني في الوضعية المتعلقة بأحداث نهر البارد ضرورة تسليم لبنانيي 14 آذار بالحالة الأصولية المتفاقمة والمتفشية في شمال لبنان، وفي طرابلس خصوصاً، لأسباب شتى لا مجال للخوض فيها هنا، وهي حال غذتها طبيعة الصراع المذهبي القائم في المنطقة من جهة، والدعم الأميركي غير المحدود لبعض التيارات الأصولية وغير الأصولية المستفيدة من تفاقم الوضع وصيرورته إلى ما هو عليه الآن، من جهة أخرى.
وذلك في مقابل تسليم الطرف الآخر، أي لبنانيّي 8 آذار باحتمال ضلوع المخابرات السورية في دعم هذه الجماعات، نظراً لارتباطــــــــــات سابقــــــــة جمــــــــــعتها مع قائد مجموعة «فتح الإسلام»، الذي كان مسجوناً في سوريا سابقاً. وهي فرضية نقضتها تقارير صحافية أميركية وغير أميركية، لسيمور هيرش ولغيره، أكدت أن الصراع قد اتخـــــــذ بعد إخراج سوريا من لبنان وجهة مختلفة.
هذا الصراع الذي بدأ مع أطياف شبحية تفخخ السيارات والمحال والطرقات العامة، وتزرع الرعب والموت أينما حلت، من دون أن تترك وراءها أثراً يذكر، ارتدى ـــــ أي الصراع ـــــ شكلاً جديداً منذ 22 ـــــ 5 ـــــ 2007، أي منذ بدء الاشتباكات في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني ومجموعات فتح الإسلام. إذ لم يعد العدو ذاك الكائن الطيفي، الذي نجهد في اقتفاء أثره من دون طائل، بل بات عدواً واضحاً ومحدد المعالم. والأهم من هذا وذاك أنّه ذو بنية لوجستية وعملياتية مرئية، متموضعة في حيز جغرافي ساحلي تحتضنه مدينة طرابلس.
ليس من قبيل المبالغة القول إذاً إن لبنان قد استحق بجدارة «قندهاره» الخاص، وربما أيضاً «تورابوراه» الخاصة، أو حتى «فلّوجته» اللبنانية. هذه أسماء وعناوين لمناطق بات من السهولة بمكان إيجاد نظائر لها في لبنان، حتى لو كانت هذه النظائر حالياً تكاد تنحصر في عنوان واحد ووحيد، هو مخيم نهر البارد.
فالرغبة في تفجير الصراع وقلب المعادلة القائمة في لبنان منذ اتفاق الطائف رأساً على عقب، باتت تقتضي نمطاً آخر من العبث يقارب ولو بشكل أكثر توازناً وأقل تدميراً حرب أميركا على كل من أفغانستان والعراق، فضلاً عن الحرب التي تخاض بالوكالة عنها في فلسطين المحتلة، وآخر محطاتها الفتنة الدموية بين «فتح» و «حماس».
والحال أن هذه الوجهة التي أرادتها الولايات المتحدة في لبنان لا تستقيم ولا تغدو في طور الإنفاذ الكامل، ما لم تحظ بتغطية رسمية وشعبية، تكسبها شرعية ما، لن تنعقد لها حتماً ما دامت مستمدة بالكامل من شرعية الحرب الأميركية والدولية ضد الإرهاب. وهذه شرعية لا يمكن المرء إلا أن يشتبه بها، مثلما اشتبهت بها سابقاً قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي والعربي والمحلي، خرجت في مسيرات مليونية رافضة بالمطلق لغزو العراق بذريعة صلة نظامه «الصدّامي» البائد بالقاعدة!
من هنا يمكننا فهم التعاطف الهائل الذي حظي به الجيش اللبناني في تصديه لاعتداءات مجموعة «فتح الإسلام»، وهو تعاطف مع دماء شهداء الجيش في المقام الأول، فضلاً عن تضحياتهم في مواجهة مجموعة من المقاتلين، وقعوا كما وقع غيرهم من قبل في أفغانستان والعراق والشيشان «ضحايا» لوعي زائف كان من نتائجه الكارثية تعويم صورة مبتذلة ورثّة عن الإسلام، تكاد تحصره في وجهه »الجهادي» أو التكفيري الذي مثلته على نحو بائس نماذج أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري و... إلخ.
لكن التعاطف المذكور مع عوائل ضحايا الجيش لا يجب أن يحجب عنا صورة مفارقة أحالتنا عليها الأحداث الدامية فـــــــــي نهر البارد، وهي صورة يصح القول فيها إنها مدعاة للألم والحزن والسخرية والتأمل في آن.
إذ كيف يمكن تفسير ظاهرة تسليح الجيش اللبناني بأحدث الأسلحة الأميركية في مواجهاته مع عناصر «فتح الإسلام»، في حين أن هذا الجيش هو نفسه الذي تعرض للاستباحة في تموز من العام الفائت بالأسلحة ذاتها التي يحارب بها اليوم أعداءه «المتأسلمين». لكن مع فارق «طفيف» في الصورة يتعلّق بعملية تبادل أدوار حل بموجبها الطرف الأصولي اليوم محل ذاك الإسرائيلي في الأمس!
على ما يبدو، إن الانقلاب الشرق أوسطي ـــــ لم نعد ندري ماذا نسميه... شرق أوسط كبير أم جديد أم وليد ـــــ الذي يجري الإعداد له على نحو حثيث، يتطلب في ما يتطلبه قدراً كبيراً من الدقة والحذق في رسم التفاصيل، حتى تبدو الأمور غير ما هي عليه حقيقة. وهذا يعني العمل على تجاوز كل الخطوط الحمر، التي لم تعد حكراً على الجيش اللبناني ومخيم نهر البارد كما صرّح البعض.
إذ يكفي اليوم أن يعلن أيمن الظواهري لبنان «أرضاً للجهاد» حتى ندرك أن الخطوط الحمر هذه باتت بخلاف ما أراده «منظّرها» مزحة سمجة. فالمخطط اكتمل، وما كان ناقصاً من قبل لم يعد كذلك الآن: إنه الجحيم وقد بات على الأبواب، أبواب لبنان وفلسطين والعراق.
* كاتب سوري