عبد الإله بلقزيز *
تبعث حرب تموز 2006 في النفس مزيجاً من الشعور بالكرامة وبالحسرة في الوقت عينه. فالحرب، التي شنّتها إسرائيل على المقاومة اللبنانية وعلى لبنان، انتهت ملحمة وطنية نادرة في تاريخ الحروب العربية مع الدولة العبرية: مرّغ فيها أبطال المقاومة هيبة الجيش الصهيوني، وهزّوا شعوره بالثقة الزائدة بالنفس، وكسروا عقيدة القوة لديه، ولقّنوا مغامراته العسكرية درساً لن تنساه إسرائيل.
لكن لا أحد من العرب أدرك ـــــ بكل أسف ـــــ مغزى ما حصل في صيف العام الماضي، بل في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وما بادر إلى استثمار نتائجه سياسياً على نحو ترتدّ فوائده على الحقوق والمصالح العربية إيجاباً وتحسيناً وتصليباً. والأكثر في الحكام ورجالات السلطة تصرّف ـــــ في أحسن أحوال الظن به ـــــ كأن شيئاً ما حصل وغيّر في المشهد، أو كأن الذي حصل حادث سير عارض؛ بينما تصرّف البعض منهم كأننا هُزِمنا في الحرب! وأخشى ما يخشى المرء أن يكون في جملة هذا البعض مَن يرى أن انتصار «حزب الله» «هزيمة» للعرب وأن هزيمته «نصرٌ» للعرب!
قدّم «حزب الله» للسياسة العربية إنجازاً عسكرياً متميّزاً ـــــ بل استثنائياً ـــــ لم تشهد «مثله» منذ ثلث قرن: أعني منذ حرب أكتوبر 1973. لكنها ما كانت معنيّة باستثمار نتائجه على ما بدا من سلوكها وبدر، حتى لا نقول إن عنايتها الوحيدة بأمره كانت في شكل انصرافٍ كاملٍ إلى تبديد تلك النتائج والإتيان عليها بمعول الهدم والردم! لم تكن الحرب قد بدأت، حتى تعالت صيحات الاستنكار لمسؤولية «حزب الله» في «توريط» لبنان والعرب في مواجهةٍ كانوا في غنى عنها. ولم تكن الحرب نفسها قد وضعت أوزارها حتى انطلقت مناحةٌ عربية (رسمية) حيث كان على العرب أن يستبدلوا المراثي ـــــ لأول مرة ـــــ بالمفاخر. في الحالين، تحوّلت المقاومة من شرفٍ قومي إلى عارٍ جماعي، وتحوّل رجالها العظام من حماةٍ إلى عُماة. أما العدوّ، فارتفع عنه أي سبب للاتهام أو الإدانة: فالذي ابتدأ كان المقاومة (والبادي أظلم)، والذي قاد لبنان إلى الخراب ما فعلته المقاومة! أمّا إسرائيل، فكأنها كانت بجرائمها «تدافع عن نفسها» في وجه «عدوانٍ» «فاجأها» على حين غرّة!
كان واضحاً ـــــ أشدّ الوضوح ـــــ أن القرار السياسي العربي الرسمي (إلاّ مَن رحم ربّك) حسم أمره منذ الساعات الأولى للحرب وقرّر موقفه: رأس المقاومة اللبنانية وحزبها («حزب الله»). وكان واضحاً أن ما تحرّج من الجهر بموقفه ابتداءً من دون مساحيق ومن غير كبير حاجة إلى مداهنة الرأي العام، فقال ما قال محمّلاً مقاومة لبنان مسؤولية ما حصل بعباراتٍ جاوزت في صراحتها حدود الصراحة. ثم كان واضحاً أن تلك الجرعة العالية من الجهر والصراحة في الموقف العربي الرسمي (من «مغامرات» المقاومة «غير المحسوبة») إنما تنهل شجاعتها من شعور أصحابها بأن الحرب مفضيةٌ لا محالة إلى تدمير المقاومة، وإلاّ ما كان الجهر بالموقف ليبلغ ذلك المبلغ من الوضوح الحاد. لكن المقاومة صمدت وانتصرت وأفسدت على بعض العرب سيئ توقّعاتهم من دون أن تمنع ذلك البعض من فرصة التكفير عن الخطيئة السياسية من خلال تثميره نصر المقاومة وحمايته من التبديد.
انتهت الحرب، وخرجت المقاومة مرفوعة الرأس. غير أن رياح السياسة العربية لم تجرِ بما اشتهته سفن «حزب الله» والرأي العام العربي. إذ سرعان ما عادت هذه السياسة إلى البحث عن وسيلة أخرى لسرقة نصر المقاومة أو الالتفاف عليه أو تعطيل مفاعيله حتى لا يضخّ نتائجه في الداخل العربي، أو يرسم آفاقاً جديدة لصراع عربي صهيوني أُريد له أن ينتهي عند الحدود التي بلغتها السياسة العربية وارتضتها لنفسها عقيدة سياسية، أي الحدود التي عبّرت عنها مقولة «السلام خيارٌ استراتيجيّ»! هكذا توالت محاولات حصار ذلك النصر والنيل منه وممّن صنعوه بالبطولة والشهادة والصبر والمصابرة، فسلكت لنفسها مسلكين: تجهيل الفاعل (= المقاومة) بتحويله إلى ناطق بالنيابة عن الغير لا بالأصالة عن النفس، واستدراج «حزب الله» إلى معارك تختطف نصره وتستهلك رصيده لدى جمهوره العربي والمسلم خارج لبنان.
ولا يماري المرء في أن حِيَلَ الدعاية السياسية العربية الرسمية وأحابيلها انطلت على قسم عريض من الجمهور العربي الذي سبق ومحض «حزب الله» تأييداً عزّ له نظير في التأييد. فلقد تحسّس الناس كثيراً من الرواية الدارجة عن اتصال حرب لبنان بجدول أعمال إيراني في المنطقة يبدأ بالدفاع الوقائي عن برنامج طهران النووي ولا ينتهي بطموحها في الإمساك بمقاليد الإقليم ومصائر كياناته. وتحسّسوا أكثر في تقديم الرواية نفسها «حزب الله» كأنه قطعة غيار في الماكينة العسكرية والسياسية الإيرانية: قراره من قرارها وإرادته من إرادتها. وما أغنانا عن بيان الأسباب الحاملة على ذلك التحسّس، فسيرةُ إيران في العراق وأدوارها فيه كانت وحدها تكفي كي تصطنع لها ملايين الناقمين عليها ممّن لا يمكنهم أن يفهموا لماذا تتصرف إيران في العراق وكأن بعض ترابه الوطني حصّتها من القسمة الاستعمارية مع الاحتلال الأميركي! وقطعاً، لا يملك هؤلاء الناس أن يستسيغوا كيف يتحوّل «حزب الله» من حزب لهم إلى حزب لإيران! لقد جرى تجهيل الفاعل (أي الذي صنع النصر في لبنان)، فبات الفاعل هذا (أي المقاومة) مجرد اسم حركي لإيران. وحينها، لا يعود الموضوع هو أن إيران خاضت حرباً بالوكالة في لبنان ضد إسرائيل والولايات المتحدة، بل يصبح أن لبنان دفع من أرواح شعبه ومن مقدّراته ثمن حرب ارتأت إيران خوضها خارج حدودها لتقليل الخسائر. ومن المؤسف أن هذه الرواية وجدت مَن يصدقها بوصفها الرواية الوحيدة الصحيحة لما جرى في لبنان صيف عام 2006. ومثلما لعبت الدعاية الرسمية على وتر العلاقة العربية الإيرانية المتفسخة في المعترك العراقي، لعبت على الحساسية المذهبية السنية الشيعية، مستثمرة ما جرى في لبنان بعد الحرب من تحريك للغرائز المذهبية من هذا الفريق ومن ذاك، وخاصة بعد أن جرى تقديم نزول «حزب الله» إلى معترك السلطة والحصص الحكومية، تحت عنوان حكومة الثلث الضامن، ونزول قواعده إلى الساحات العامة، كأنه محاولة لاستثمار نتائج الحرب في الداخل اللبناني قصد تغيير التوازن السياسي والطائفي والقضم من مركز السنة في لبنان. وعلى المرء أن يعترف بأن نجاحات الدعاية الرسمية على هذا الصعيد كانت كبيرة، وآيُ ذلك أنه حتى المجتمعات التي لا تعرف حساسيات مذهبية مثل مجتمعات المغرب العربي ـــــ وهي خزّان شعبي هائل نصيرٌ تقليدياً للمقاومة و«حزب الله» ـــــ وجدت الدعاية تلك سبيلاً إلى اختراقها والنيل من صورة «حزب الله» فيها في زمن قياسي مخيف!
بلغت السياسة العربية الرسمية مبتغاها وحاصرت النصر الذي حققه «حزب الله»، بل زوّرته وأساءت إلى صورته لدى قسم عريضٍ من المجتمع العربي. لكن للحزب مسؤولية في ما جرى: لم يستطع أن يقدّم رواية أكثر تماسكاً عن استقلالية قراره، وعن لبنانيته بمعزل عن بيئته المذهبية، وعن وطنية مطالبه. ربما كان أمينه العام الأكثر إقناعاً والأقدر على طمأنة الهواجس؛ لكن السيد حسن ليس ناطقاً إعلامياً باسم الحزب بحيث يكون عليه أن يطلّ كل يوم للحديث. عليه أن يُتقن الانتقال من الإعلام الحربي إلى الإعلام المدني المتقدم لكي يحمي صورته من المتربّصين.
* كاتب عربي