ورد كاسوحة *
أيّاً تكن النتائج التي أفضت إليها حرب تموز 2006، ومهما اختلفنا في تقويم أسبابها المعلنة وغير المعلنة، وسواء عقدت الغلبة فيها للطرف المعتدي أو للطرف المقاوم، فإن الخلاصة الوحيدة الممكنة التي يمكن الزعم أننا خرجنا بها من هذه الحرب هي التالية: إنها ببساطة حرب البديهيات والمسلّمات والمنابع الأولى. الحرب التي أعادت تذكيرنا بالجذور، جذورنا وجذورهم وجذور حروبنا المشتركة الطاحنة. هذه الحروب التي لم توفر من فرط عنفها ودمويتها و«عبثيتها» ذاكرتنا الجمعية، فأعطبتها إعطاباً تاماً. صحيح أنها حرب فرضت «علينا» وعلى لبنان، بفعل مخطط دولي وإقليمي معد مسبقاً وجاهز للتفعيل في أقرب فرصة سانحة، ونتيجة «سوء تقدير» و«خطأ في الحسابات» وقع فيهما الغريم التقليدي، لكن الصحيح أيضا أنها قد وقعت وانتهى الأمر، وهذا يعني أن كل مرافعات التظلم والتشكي والندب والوقوف على الأطلال التي أعقبت قرار خطف الجنديين واندلاع الحرب كانت في النهاية من دون طائل.
وكان يفترض بالأصوات المشككة أن تؤجل قليلاً تحفظاتها وشكوكها إلى ما بعد انتهاء الحرب، مع الاحتفاظ بحق النقد والمساءلة ووضعه على بساط البحث والمراجعة بمجرد انتهاء الحرب. وهذا حق مشروع، فضلاً عن كونه واجباً أخلاقياً، لا بل واجباً نقدياً.
ألم يكن من الأجدى في ذلك الوقت، أن نرى إلى أمر هذه الحرب من منظور آخر مختلف يتجاوز مقارباتنا التقليدية لتاريخ هذا الصراع، ولتاريخه السلمي تحديداً منذ كامب ديفيد عام 1978 وحتى الآن، إذ إن ما حصل في لبنان قبل عام كان تأريخاً فعلياً وحقيقياً لنهاية مرحلة كاملة من الصراع مع إسرائيل قامت مشروعيتها على إعادة إنتاج معناه ـــــ أي الصراع ـــــ وتالياً تظهيره وتصديره على أنه صراع حدود لا صراع «وجود»، وذلك حتى تاريخ 12 تموز 2006، وهو تماماً تاريخ الإيذان ببداية مرحلة جديدة بدت وقتها كأنها النقيض الجذري للحقبة السابقة، السلمية.
ليس من الضروري حسب هذا التحليل أن تتشكل الحقبة الحالية على إيقاعات الحروب والصراع المسلح، كحل وحيد وأخير للمسائل الأساسية والمبدئية العالقة منذ البدايات المبكرة لهذا الصراع التاريخي. لكن الأمر الأكيد أن التاريخ سيذكرها دوماً بأنها الحقبة التي أعادت الصراع إلى أصله ومصدره، إلى جذره التاريخي وعلته الأولى: الاستيطان الصهيوني في فلسطين، بما هو إحلال لكيان غريب وغير متجانس، لا حقّ ولا تاريخ ولا مشروعية له.
بهذا المعنى يغدو الحديث عن مستقبل هذا الكيان ومستقبل علاقته بمحيطه أمراً مصيرياً، لكونه يتصل بمعنى الوجود نفسه، وجودنا ووجوده في هذا الشرق، إذا كان لوجوده من مستقبل وسط هذا السيل من الحقد والكراهية والموت والدم الذي دأبت على إنتاجه وتصديره آلته الحربية العمياء. وبات في شكل من الأشكال جزءاً لا يتجزأ من هويته الكيانية ومشروعه السياسي والقومي.
وسط هذه الدورة المتصلة والمتواصلة من العنف الكياني والإرهاب التكويني منذ عام 1948، يصير التطرق إلى مفردات من قبيل: السلام، التفاوض، معاهدات الصلح المنفرد وغير المنفرد... أمراً مفوّتاً وغير ذي جدوى، ذلك لأن إسرائيل بمكوناتها المجتمعية المختلفة، أثبتت غير مرة قدرة فائقة وتصميماً مواظباً على استعداء الدول المحيطة بها، حتى تلك التي ارتبطت معها بمعاهدات سلام.
يمكن هذا كله أن يصب في تأكيد فكرة واحدة: هي أن دولة إسرائيل، كياناً ومجتمعاً وجيشاً وثقافة ـــــ ونميز هنا بين الثقافة اليهودية الثرية والثقافة الصهيونية الملتحقة بشكل كامل بالمشروع الديني والأيديولوجي الصهيوني ـــــ تشكل النموذج الأمثل وشبه الأوحد لتبني العنف المؤدلج دينياً وعرقياً، وسيلة وحيدة لحل مشكلاتها الاندماجية والديموغرافية والأيديولوجية، واختصاراً الوجودية مع محيط عربي وإقليمي رافض لها بالكامل، أقله بالمفهوم الحضاري لمعنى الرفض. ربما لم نصل بعد إلى المرحلة التي نقطع فيها جذرياً بإمكانية التعايش مع هذا الكيان الملتبس، لكننا حتماً وصلنا إلى الحد الذي نستطيع الجزم معه بإمكانية أخرى، ونحن نلمسها ملمس اليد: بداية حقبة الشعوب والتيارات الجذرية، مهما كانت درجة شعبيتها وشعبويتها، وأياً كان شكل اعتراضنا على مذهبها في الاعتراض وحق التعبير عن النفس. فهذه هي الديموقراطية التي اتخذناها سبيلاً لإدارة اختلافاتنا السياسية والمجتمعية، حتى لو كانت نتيجتها وصول «الأصولية» الدينية إلى الحكم.
عوداً على بدء، سيسجل التاريخ لهذه الحرب أنها أرّخت لأفق صراعي جديد بين العرب وإسرائيل، أفق استعادة القضية العربية والفلسطينية من الوكالة الحصرية لأنظمة البؤس والتصحر والقمع العربية، وردّها إلى أصحابها الحقيقيين الذين حسموا على ما يبدو خيارهم، وأعادوا الصراع إلى شكله الأصلي وصورته الأولى: «الوجودي» لا الحدودي.
* كاتب سوري