داود خير اللّه *
يقتضي التقويم الدقيق والمفيد لأبعاد نزاع ما، المعرفة الصحيحة لأهمّية الأهداف والحاجات والأولويات لدى كل أطراف النزاع. فالدوافع لبدء الحروب وإنهائها هي من أهمّ العوامل في تقويم أبعادها ووسائل شنّها، وهي تكمّل ولا تقلّ أهمّية عن معرفة مكامن الضعف والقوّة لدى أطراف النزاع.
ما سأحاول معالجته في ما يلي هو تعيين وتقويم الهدف الرئيس الذي دفع ويدفع إسرائيل في حربها على لبنان، والوسائل التي اعتمدتها وتعتمدها في سبيل تحقيق هذا الهدف. وكذلك سوف أعرض تفاعل وسائل هذه الحرب وأدواتها في الداخل اللبناني وأبعاد الأزمة القائمة وطريق الخروج منها.
إنّ الهدف الرئيس لإسرائيل في حربها على لبنان يتعدّى الحدود اللبنانية، ويتعلّق بدفع خطر وجوديّ عليها وعلى المشروع الصهيوني بعامة. والدافع الأساسي لكلّ عمل عدائي ضدّ لبنان، أقلّه في السنين التي تلت الانسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانية عام 2000، محكوم بديناميكية العلاقة بين الظالم والمظلوم، بين مغتصب الحقّ وصاحبه، التي تميّز العلاقة بين إسرائيل والأطراف التي هي ضحايا لنشأة إسرائيل وتوسّعها، وكذلك عوائق في طريق نجاح المشروع الصهيوني. فالمظلوم يحاول تغيير الواقع بما من شأنه رفع الظلم واسترجاع الحقّ. والظالم يحاول الإبقاء على مكاسبه من طريق تضخيم قوّته وزرع ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع لدى المظلوم.
المراقب لقيام إسرائيل ووضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ وما نتج منه من تدمير وتهجير وسلب للحقوق، يدرك مدى ارتهان نجاح هذا المشروع بنجاح انتشار ثقافة الهزيمة لدى أصحاب الحقوق السليبة الذين تُخشى ثورتهم على الظلم والمطالبة الفاعلة باسترجاع الحقوق. زرع ثقافة الهزيمة وتثبيتها يقتضيان، بالإضافة الى إضعاف الخصم وتدمير معنوياته، دفعه الى اليأس والشعور بعدم جدوى المقاومة.
لقد نجحت اسرائيل منذ نشأتها، وخاصة بعد حرب عام 1967، في إيجاد هالة من القوة حول قدراتها العسكرية والسياسية، وفي نشر حالة من اليأس والاستسلام للأمر الواقع لدى الحكّام والنخب المثقّفة العربية، كانت ثمارها اتفاقات سلام مع دولتين من دول المواجهة ومحاولات تطبيع مع دول عربية أخرى.
في المقابل، انتشار ثقافة المقاومة لدى صاحب الحق هو أخطر ما يمكن أن يواجه المشروع الصهيوني من تحدّيات وأشدّها مدعاة للقلق، وخاصة عندما تصبح المقاومة مقرونة بمعنويات عالية وانتصارات فعلية على الأرض. فعندما يقول شيمون بيريز وسواه من القادة في إسرائيل إن المقاومة اللبنانية، ممثلة بحزب الله، تشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل، فليس في قوله الكثير من المغالاة.
من هذا المنطلق يجب النظر الى الحرب الإسرائيلية على لبنــــــــــان الذي شهد صيف عام 2006 أعنف مظاهرها. لكنّ الثاني عشــــــــر من تمّوز الماضي لم يكن تاريخ بدء هذه الحــــــرب، والخامس عشر من آب وتاريخ قـــــــــرار مجلس الأمن رقم 1701 لم يكن تاريخ انتهائها. فالهــــــــدف الرئيــــــــــس للحرب هو في منتهى الأهمّية بالنسبـــــــة إلى إسرائيـــــــــــل ولم يتحقق إطلاقـــــــــاً نتيجة تلك المغامرة العسكرية.
بداية هذه الحرب تكمن في الفترة الزمنية التي اتضح فيها لإسرائيل خطر انتشار ثقافة المقاومة بشكل فعّال انطلاقاً من لبنان، ومن ثمّ بدء أعمال غايتها القضاء على المقاومة كعامل ردع ومصدر قلق، وخاصة أن أثرها يتعدّى الإطار اللبناني الى الوضع الفلسطيني والعربي بعامة.
إذا سلّمنا أن الهدف الفعلي للحرب الاسرائيلية على لبنان هو القضاء على المقاومة فيمكن إرجاع بدئها الى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، عندما كانت المقاومة الفلسطينية ناشطة في لبنان وكان لبنان يتعرّض لاعتداءات إسرائيلية متكررة بهدف قمع المقاومة الفلسطينية وعقاب الدولة المضيفة للّاجئين الفلسطينيين والذراع المقاوم فيهم. لكنّ تركيز الحرب على لبنان كمصدر أساسي للمقاومة وثقافتها، يمكن ردّ بدئها الى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بعد خروج المقاومة الفلسطينية المسلّحة من لبنان وظهور المقاومة اللبنانية بشكل مستقلّ وفعّال.
إنّ خروج إسرائيل الاضطراري من لبنان عام 2000 يشكّل نقطة مفصلية في تقدير خطورة المقاومة اللبنانية على مصالحها واستراتيجياتها الردعية، إلا أن الضرورات الميدانية والظروف التي أملت الانسحاب الإسرائيلي في حينه، كان يمكن وضعها في إطار التكهّن بأنّ الانسحاب الإسرائيلي سوف ينهي المقاومة لأنه سوف يزيل المبرّر لديها لحمل السلاح، فتعود الجبهة الشمالية إلى ما كانت عليه من ضعف قبل الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978.
الانسحاب الإسرائيلي الاضطراري من لبنان أوجد من دون شك سابقة خطيرة في تاريخ التعاطي الإسرائيلي مع كل الدول والمجتمعات العربية. وقد أوجد هواجس وقلقاً لدى اسرائيل في ما يتعلّق بترسيخ الثقة بثقافة المقاومة وتطويرها لدى الشعب الفلسطيني، وخاصة بعد التأكّد من التأييد المعنوي، إن لم يكن التنسيق الميداني، الذي لقيته المقاومة الفلسطينية من المقاومة اللبنانية. فبقدر ما كان للمقاومة اللبنانية من تأثير على الانتفاضة الثانية في فلسطين وعلى انتشار ثقافة المقاومة بعامة، كان الاستعداد الإسرائيلي يزداد بالقدر نفسه للقيام بكلّ ما من شأنه القضاء على المقاومة كمصدر قلق لإسرائيل وكعقبة في طريق نجاح المشروع الصهيوني وتطوّره. فالاستعداد للحرب على لبنان بغية القضاء على الوجود المسلّح للمقاومة كان سابقاً بزمن بعيد لتاريخ بدء الاعتداء المسلّح على لبنان في 12 تمّوز 2006، والأدلّة على ذلك عديدة ومعظمها من مصادر إسرائيلية وأميركية.
لننظر الآن الى بعض وسائل هذه الحرب وأدواتها ومفاصل أساسية لها.
لا يقتصر القضاء على المقاومة على تجريدها من السلاح المادي، فبالإضافة إلى إزالتها كطاقة ردع فعّالة في وجه المطامع والممارسات الإرهابية لإسرائيل، يجب القضاء عليها كمؤسسة لها تأييد في الرأي العام اللبناني والعربي، وبالتالي يجب تجفيف كل مصادر الدعم لها مهما كان شكل هذا الدعم ومدى فعاليته. وكذلك يجب تدميرها كمرجع قيمي يساعد في انتشار ثقافة المقاومة.
تعطيل المقاومة اللبنانية كمصدر فاعل في نموّ ثقافة المقاومة ورفع الظلم يقتضي تجريدها من الصفات القيمية والقوّة المعنوية التي تتمتع بها. فلكي لا تبقى رمزاً للدفاع عن الوطن والأداة الرئيسية في تحرير الأرض واستعادة السيادة الوطنية، تعمل إسرائيل وحلفاء لها في الداخل والخارج على تحويلها في الوجدان الشعبي اللبناني والعربي وكذلك العالمي الى حفنة من الإرهابيين التي تشكّل تهديداً للسيادة الوطنية ومصدراً لإثارة الهواجس الطائفية والمذهبية، فضلاً عن أنها تشكّل خطراً على السلم العالمي. وبالتالي يجب العمل على كل ما من شأنه تدميرها معنوياً. فتجريد الجندي المدافع عن أرض وطنه وسيادته وكرامة شعبه من السلاح لا يلقى تأييداً مهما اشتدّت الضغوط، خارجية كانت أو داخلية، بينما نزع سلاح الإرهابي الذي يستسهل قتل الأبرياء ويهدد السلم الأهلي والعالمي يلقى تأييد الجميع في الداخل والخارج.
إضافة الى تدمير المقاومة معنوياً كوسيلة من وسائل الحرب عليها، يشكّل تجريدها من أي تأييد عربي أو إقليمي هدفاً مهماً في إضعافها والحدّ من إمكانية انتشار ثقافتها. من هذا المنطلق يجب تقويم الحملة على سوريا وكل من يمدّ يد العون للمقاومة اللبنانية.
بدأ العمل على إخراج سوريا من لبنان في الولايات المتحدة بقانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان، وتلاه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي تبنّى محتوى القانون الأميركي. حصل كلّ ذلك بعد مضي ما يقارب خمسة عشر عاماً على المباركة الأميركية لدخول الجيش السوري لبنان، فكان المسؤولون الأميركيون يصرّحون خلال تلك الفترة علناً أن الوجود العسكري السوري هو عامل استقرار في لبنان. فجأة، ومن دون أي تطوّر غير مسبوق على الساحة اللبنانية، أصبح الوجود السوري في لبنان يشكّل تهديداً فورياً للسلم العالمي يستدعي تدخّل مجلس الأمن الدولي.
الحملة الأميركية على سوريا، بما فيها استصدار قرار مجلس الأمن رقم 1559، بدأت بعدما رفض السوريون التعاون في نزع سلاح حزب الله وحلّه تنظيمه العسكري. وأكتفي لضيق الوقت بعرض دليل واحد. أذكر هنا تصريحات علنية للسفير السوري في واشنطن الدكتور عماد مصطفى بشأن عرض من قبل النائب في الكونغرس الأميركي توم لانتوس، الصديق الحميم لإسرائيل، الذي يشغل الآن مركز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، بأنه يتعهّد بالعمل ويضمن بقاء سوريا في لبنان لمدّة غير محددة مقابل التعاون السوري في نزع سلاح المقاومة.
أرجو أن لا يتصوّر أحد أن في سرد ذلك تغاضياً عن أي من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها مسؤولون سوريون وحلفاء لهم أثناء الوجود السوري في لبنان، أو القبول بعودة تلك الأيام. لكنّ ذلك أو أية مشاعر شخصية يجب أن لا تكون حائلاً دون تقويم الواقع بصورة مجرّدة عن الأهواء والهواجس.
لا شك لديّ في أنّ استقلال لبنان وسيادته لم يكونا الدافعين لقانون محاسبة سوريا واستقلال لبنان، أو لتبنّي قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي كان عاملاً أساسياً في اغتيال الرئيس الحريري وانهيار الوضع الداخلي في لبنان، كائناً من قد يظهر التحقيق بأنه المسؤول عن هذا الاغتيال.
قرار مجلس الأمن رقم 1559 أداة مهمة وأساسية في حرب اسرائيل وحلفائها على المقاومة. فعلى الرغم من أنه لم يكن هناك أي تهديد للسلم العالمي، وهو المبرر الوحيد لاختصاص مجلس الأمن الدولي وتدخّله تاريخ اتخاذ هذا القرار، سُخّر مجلس الأمن لهذا الغرض، لا بل تجب الملاحظة أنّ اغتيال الرئيس الحريري والاضطراب الأمني الذي عاناه لبنان ولا يزال، حدثا بعد اتخاذ ذلك القرار وعلى الأرجح نتيجة له. فتوسّل «الشرعية الدولية» سلاحاً لبلوغ المآرب الأساسية للحرب الاسرائيلية على لبنان بدأ بالقرار رقم 1559 الذي تلته عدة قرارات لمجلس الأمن بالهدف عينه.
محتوى القرار 1559 أمران أساسيان هما في جوهر الهدف الإسرائيلي: انسحاب القوى الخارجية المؤيدة للمقاومة من لبنان، من دون ذكر سوريا بالتحديد، ولكن فسّر ذلك بأنه يعني سوريا حصراً وليس خروج إسرائيل من مزارع شبعا مثلاً، ونزع سلاح الميليشيات، لبنانية وغير لبنانية، ويعني ذلك سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني.
يحتوي القرار 1559 كذلك على لغة مفادها منع إعادة انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا يعتبر تدخّلاً في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وهو أمر يحرّمه ميثاق الأمم المتحدة (2/7). فالتشكيك في شرعية إعادة انتخاب رئيس الجمهورية التي لها سابقة في عهد الهيمنة السورية بمباركة أميركية، يندرج في ضرورة تجريد المقاومة من كل حليف أو نصير. فالرئيس لحود كان ولا يزال يقول إنّه لا يرى في سلاح المقاومة تهديداً لسيادة الدولة أو أمنها، بل على العكس من ذلك يعتبر أنه سلاح مساعد في استكمال السيادة الوطنية ويعطي لبنان قدرة فعلية للدفاع عن نفسه.
قرارات مجلس الأمن يمكن أن تكون وسيلة فعّالة في إخراج السوريين من لبنان، إلاّ أنها محدودة الفعالية في ما يتعلّق بالوضع الداخلي في لبنان وضرورة نزع سلاح المقاومة وإزالتها كمصدر قلق لإسرائيل. فكان لا بد من اللجوء الى السلاح الأفعل وهو سلاح الفتنة الداخلية. لذلك لا يزال هذا السلاح مجرّداً ويفعل في إطالة عمر الأزمة وتفاقمها بعدما انتهت اسرائيل من عدوانها المسلّح على لبنان في منتصف شهر آب الماضي. فتفعيل سلاح الفتنة الداخلية لم يتوقف في كل مراحل الحرب على المقاومة اللبنانية، لكنّ التركيز عليه بضراوة حصل بعد فشل توسّل مجلس الأمن الدولي وقراراته، وخاصة بعد فشل المغامرة العسكرية لإسرائيل في لبنان الصيف الماضي.
(غداً حلقة ثانية وأخيرة)
* أستاذ محاضر في القانون الدولي بجامعة جورجتاون في واشنطن

اجزاء ملف "الحرب الإسرائيليّة على لبنان: متى بدأت وهل‎ ‎انتهت؟ ":
الجزء الأول | الجزء الثاني