نهلة الشهال *
قال مرة روبرت ديسنوس، شاعر فرنسا الشهير «إن المهم ليس ما يبقى وإنما ما نحن (ما نكون)». وأزعم أن هؤلاء الذين صمدوا في عدوان العام الفائت على لبنان، مقاتلين منظّمين وبشراً، وكل من ساندهم، وهم كثر هنا في لبنان وفي الفضاء العربي والعالم، هؤلاء كانت تهجسهم تلك الكينونة. وهم في تلك اللحظة قرروا المعاندة وعدم الخضوع، مستعدين لدفع الثمن من حياتهم وحياة أحبّتهم وكل ما يملكون، من أجل إلحاق هزيمة بإسرائيل، ولو جزئية ولو موضعية. وقد كان ما يحركهم فعلياً هو التمسك بعالم أقل ظلماً.
أزعم أن هذا الحلم مشروع تماماً وواقعي جداً، وأنه يخترق البشرية من أولها إلى آخرها، تاريخاً وجغرافيا، أدياناً وفلسفات. مشروع واقعي لأن التخلي عنه يعني تحقق السيادة التامة لأقبح التصورات عن الاجتماع البشري، بينما الصراع من أجله يمنع على الأقل ذلك الإطباق، ويبقي على الجانب المضيء من تصور البشر عن أنفسهم قائماً، يبقي المجال مفتوحاً. لولا مشروعية هذا السعي وواقعيته، فما الذي كان ليدفع بأكبر المثقفين الفرنسيين مثلاً إلى الانخراط في مقاومة النازية، وقد مات بعضهم في معسكرات اعتقالها أو على الجبهات، بينما ترك لنا رينيه شار الذي يُحتفل هذه الأيام بمئوية ولادته، بعضاً من أروع كتاباته، وهو كان تطوّع إرادياً ليصبح أحد قادة المقاومة. هل من حاجة إلى مزيد من الأمثلة من كل زمان ومكان؟
وبالنسبة إلينا في المنطقة العربية، فإن رفض استبطان الهزيمة، التي جرى عمل حثيث ومديد لإقناعنا بأنها مصير حتمي، واقع، هو شكل المقاومة الأول. هو ما يقول عنه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك «إن مقاتلة العدو تبدأ بمقاتلة النفس» مما قد يجد له آخرون، يملكون مرجعيات فكرية مختلفة عن الماركسية، معادلاً يكاد يطابقه حرفياً. وبالتأكيد، فليس من السهل مقارعة تأثير ذلك التيار العارم العامل على ترسيخ استبطان الهزيمة، بجيش منظّريه وخبرائه المتنوعين الذين يستخدمون مبررات بعضها شديد التمويه، وبعضها يتم باسم التقدم والحرية، وسياسيّيه المتلاعبين بكل شيء من أجل تبرير علاقاتهم ومواقفهم «الواقعية»، علاوة على أصحاب السلطات القمعية والفاسدة التي تنهك ـــــ تنتهك ـــــ معيشة الناس فتحرمهم كراماتهم، وتحيلهم لقمة سائغة لأشكال أخرى من التسلّط.
المسألة الأولى إذاً هي في تعريف الموقع الذي تقف فيه، تنطق منه وتفعل. وهذا شرط لازم لإيضاح سياق الكلام وللحكم على الأشياء. إذ يتحكّم الموقع بالتأويل وبالنتائج. فإن كان «من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه»، وهي حالة قصوى، والفكرة قيلت بمناسبة قصوى، فالأحرى أن ينطبق ذلك على السعي الذي لم يصل بعد مؤداه. إن تأكيد، مثلاً، وجود أولوية ملحّة لمناهضة الجنوح الأميركي لإخضاع العالم واستنزافه بكل الوسائل وعلى رأسها الحرب، (كوسيلة للهيمنة ولكن كصناعة مربحة أيضاً)، وكذلك بواسطة الثقافة والفكر وأنماط السلوك، أي بالدخول إلى التكوين النفسي الحميم للناس، هذا التأكيد يشكل انتماء إلى موقع محدد يستجرّ على صاحبه نتائج، ويلزمه بضوابط. الموقع يجمع إذاً، ويمنح أصحابه سيماء معينة.
إلا أن الموقع شديد التضاريس. والانطلاق من المثال السابق يوضح التعقيد الهائل الذي يواجه هذا التحديد، وعدم كفاية أي تعريف له على كل حال، بمعنى عدم اكتماله، وحاجته الدائمة، المتصلة والمستمرة والتفاعلية، إلى إعادة سؤال نفسه، استطلاعها وسبر أغوارها فيما هو يبني إجاباته. فهل كل من قال إنه يناهض الإمبريالية شريك في الموقع عينه؟ وهل يكفي لتحديده عنصر واحد، مهما بلغ من الأهمية؟ ليست غاية الاستدراك استعادة تلك الهياكل البالية التي توزع الناس والحركات الفكرية والسياسية إلى معسكرات متكونة، تتقاذف التهم المتبادلة، بل بالعكس، التشديد على التعريف المركّب لـ«الموقع».
فـ«القاعدة»، مثلاً، تشبه بطريقة غير قابلة للتمويه أعداءها المفترضين: إنها تتبنّى وتمارس فكرة صدام الحضارات إطاراً لتأويل مشكلات العالم، وهي تستعيض عن عناء بناء الصراع في كل موضع بـ«عولمة» للمواجهة هي بوضوح نقيض التضامن والتشابك النضاليين العالميين المطلوبين: هي تصدر أوامر وتخطيطات مركزية تعتبر العالم ساحتها، وتفترض أن مقارعة الهيمنة الأميركية ـــــ إن كانت تلك فعلاً غايتها ـــــ تتم بواسطة الإرهاب الذي تقابل به الجنوح الإمبريالي لتحقيق الهيمنة بكل الوسائل، فتتغذى الدائرتان من بعضهما، وتبدوان صادرتين عن موقع واحد على رغم ما يباعد بينهما.
إلا أن مثال «القاعدة» هيّن. والسؤال يتعلق بالمحدّدات التي تتعلق بحالات ووضعيات أكثر التباساً. وفي هذا الصدد، فإن مساهمة الحزب الشيوعي اللبناني، العريق والمجرّب بقسوة، حتى نكتفي بهذا المثال، حاسمة. تمتلك بيئة هذا الحزب كل المزايا المطلوبة للعمل على بلورة إشكالية الموقع تلك، فهي على الأقل ما زالت «واقفة على قدميها»، بينما مزّق القمع العنيف والمديد وبؤس المواقف المتتالية قدرة بيئات أخرى على المبادرة، كاليسار العراقي مثلاً، على رغم إرهاصات تعتمل هناك. لا غنى عن مجلة فكرية منفتحة بلا محرمات، تصدر في بيروت وتكون منبراً لكل التساؤلات، محفزاً ومرآة لها في آن، ولا غنى عن دور تجميعيّ يؤديه الحزب الشيوعي اللبناني، وقد طال انتظار كل ذلك...
تقودنا هذه المسألة الأولى إلى تناول ما يليها مباشرة، ويعادلها في الأهمية. ومثلها، لا تخص المسألة الثانية هذه منطقتنا بل تشكل ملاحظتها والنقاش حولها ظاهرة عامة. فما معنى أن تكون اليوم يسارياً أو إسلامياً أو ديموقراطياً أو مستنيراً الخ... ثمة اضطراب كبير لحق بمضامين هذه التسميات، التي لم تعد تدل بذاتها، مجردة هكذا، على شيء. فكما أن الصفة الإطلاقية «إسلامي» لا تعني شيئاً لأنها قد تشير إلى بن لادن كما إلى شيخ الأزهر كما الى جماعة «إسلام أون لاين» كما إلى حزب الله كما إلى فضل الله كما الى ناديه ياسين كما إلى المالكي... وكل واحد منهم عالم قائم بذاته، فإن الصفة الإطلاقية «يساري» قد تعني حالات متناقضة تماماً. ولعل قائلاً يشير إلى عدم جدّة هذه الحالة، منذ أبي ذرّ بمقابل جيش من نقائضه، ومنذ جرائم بول بوت والخمير الحمر باسم الماركسية الصافية، إن لم نذكر سواهم. وهذا صحيح. ولكن ما يمكن اعتباره جديداً يبدو لي متجسداً بأمرين:
ـــــ تفكك بديهية الدلالات هذا يسير بالتوازي مع انفراط عقد الأطر والأساليب التي كانت تنْظُم عمل المنتمين إلى التيارات المطابقة لها. ويرافق ذلك بروز أساليب وأطر جديدة في ميادينها، أو وبدقة أكثر، وعلى الأغلب، إدراك الحاجة لمثل هذه الأطر والأساليب وإن لم يتم «اختراعها» بعد. ثمة في الوقت نفسه فوضى عارمة وعجز مشهود، كما ثمة مستجدات بعضها جنيني. نحن إذاً أمام حالة مخاض أو حراك جوهري.
ـــــ أما الأمر الآخر فيتعلق بمحاولات فكرية حالية، تطل برأسها في أنحاء مختلفة من العالم، من أميركا اللاتينية حتى الهند، بل في أوروبا نفسها، أو في الغرب الذي أطلق عصر الأنوار ومجموعة الفلسفات المنسلة منه، والذي بلور كل عناصر الفكر المهيمن وعاملها كحقائق مطلقة. أشير هنا إلى القلق الفكري القائم الذي يخفي مراجعة لا بد من أن تجري لمجموعة المفاهيم التي سادت يوماً كبديهيات تدّعي الموضوعية وتفترض بمن يتوسل الحداثة أن يتبنّاها، كالقول بوجود منظومة قيمية ومفاهيمية تمتلك صفة عالمية، تعرّف التقدم والحرية والعدل والمساواة، وينقسم الناس بمقتضاها إلى تقدميين
ورجعيين...
إن فكرة وحدانية مثل هذه المنظومة هي اليوم موضع شك كبير، وهي تترك المجال رويداًَ لفكرة وجود عدة مرجعيات قيمية ومفاهيمية، كلها عالمية، بمعنى التصور الفكري والأخلاقي لا امتلاك القوة، عوضاً عن مركزية الأولى المرتبطة بأوروبا الصاعدة، وهو صعود عنى أيضاً حلول الحقبة الاستعمارية. إن التفكيك وإعادة التركيب الجاريين يبيحان اليوم الكلام، من بين أشياء أخرى، على ظواهر ليست معزولة وليست فردية، ليسار إسلامي أو مسيحي كما على أخرى لإسلام يساري... أو على الأقل على تحالفات وائتلافات وجسور من هذا القبيل، من دون أن يؤدي جمع مفردات كهذه إلى مزيج متفجر. فهل في ذلك هرطقة؟ إن جريدة كـ«الأخبار» في موقع ممتاز لاحتضان بعض هذه التجربة وتعبيراتها. ولا شك أيضاً في أن هذا التجاور هو بصدد التأثير على بيئات كانت تعتبر نفسها مكتملة، عقائدياً على الأقل، وقد لمستُ ذلك في أكثر من موضع، فهل يمكن تجنّب الرهان على علامات له تتبلور في مكان كحزب الله، هائل الاتساع ويواجه تحديات من كل صنف.
وأخيراً وليس آخراً، فكل ذلك جميل ولكنه ما زال في طور التلمّس، وهو يحتاج إلى الاشتغال عليه من قبل المعنيين به. ليس ترفاً، بل لأن بلورته وإيفاءه حقّه من الخلاصات والتفاصيل شرط للتمكّن من مقارعة الطور الراهن من الموجة البربرية التي يواجهها العالم. أما من يظن أن بإمكانه القيام بذلك لوحده، وبما يملك من أدوات يعتقدها كافية أو جاهزة أو مؤهلة تلقائياً، ومن يريد تأطير النقاش في مجالات تحيط بها المحرمات من كل صوب، فهو يمهّد الطريق للهزيمة أمام تلك البربرية التي تمتاز بتعقيد وذكاء شديدين. أليس يقال أن الهجوم الشامل لتلك البربرية يتطلب امتلاك الذين قرروا التصدي له لجواب شامل؟ هل للشمول معنى سوى ذلك.
* كاتبة لبنانية