عصام نعمان *
عاد اللاعبان الأميركي والإيراني إلى التفاوض. هل يعني التفاوض العزوف عن التحارب؟ ليس بالضرورة. فالتفاوض طريق قد تقود إلى التحارب. والعكس يصحّ أيضاً.
واشنطن جادة في مفاوضة طهران. يهمّها أن تتوصل معها الى اتفاق في شأن مستقبل العراق بعد انسحابها منه. تريده اتفاقاً أمنياً وسياسياً تنحصر مفاعيله ببلاد الرافدين وبأقل حساسية ممكنة لدول الجوار. طهران لا تمانع في ذلك شرط مراعاة مصالحها الأمنية والسياسية. في مقدم هذه المصالح يأتي برنامجها النووي. واشنطن ترفض الربط بين المسألة العراقية والمسألة النووية الإيرانية. ماذا لو تعذّر الاتفاق؟
لعل ما تبحث عنه واشنطن، بالدرجة الأولى، هو جواب عن هذا السؤال. فاجتماع السفيرين الأميركي ريان كروكر والإيراني حسن كاظمي قمي في بغداد اخيراً، ما كان ليتمّ لولا فضول أميركي مشبوب لمعرفة مآل الاجتماع الذي تمّ قبله في دمشق بين محمود احمدي نجاد وبشـار الأسد. ذلك أن الرئيسين الإيراني والسوري أوحيا للعالم بأن التحالف بين بلديهما قائم وثابت. واشنطن تريد أن تعرف حدود هذا التحالف، وهل ينطوي على التزام إيراني بنجدة سوريا عسكرياً إذا ما تعرضت لهجمة إسرائيلية، وما طبيعة ردة الفعل الإيرانية ومداها؟
التفاوض، إذاً، ليس مؤشراً للتهدئة، ولا هو بالضرورة بديل من التحارب. هل بات التحارب خياراً جدياً؟
ثمة أدلة وقرائن تشير إلى أرجحية ذلك، وإن بدا زمان الحرب ومكانها ملتبسين. تصريحات المسؤولين الإسرائيليين ومعلّقي الصحافة الصهيونية والمعلومات المتسربة عن مناورات الجيش الإسرائيلي وتدريباته في صحراء النقب وهضاب الجولان، تشير كلها إلى أن حكومة إيهود أولمرت في صدد التهيؤ لعمل جلل. في المقابل، لا تخفي دمشق تخوفها من ضربة عسكرية إسرائيلية قبل نهاية السنة. إنها تتخوّف ولا تخاف. التخوّف ستار للتحسّب ومبرر لاتخاذ تدابير وقائية واسعة النطاق.
لكن، ماذا عن أميركا؟ لا يعقل أن تقدم إسرائيل على خطوة عسكرية مؤثرة من دون علم أميركا وموافقتها. ماذا، إذاً، تريد أميركا في هذه الآونة؟
بات واضحاً أن موازين القوى السياسية في العراق وداخل الولايات المتحدة تحديداً لا تسمح لإدارة بوش بمجازفة كبيرة. الخطة الأمنية الجاري تنفيذها تبدو محدودة المردود، وحكومة نوري المـالكي تبدو عاجزة عن الوفاء بالمتطلبات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي اشترطتها إدارة بوش. فوق ذلك، يتزايد عدد قتلى القوات الأميركية وجرحاها، ومعه تتصاعد المعارضة الساخطة في الولايات المتحدة ضد الرئيس الأميركي وإدارته وسياسته. ذلك كله حمل الأغلبية الديموقراطية في الكونغرس على اتخاذ خطوة لافتة: التبكير برفع جلساته لمناسبة العطلة الصيفية من دون إقرار ميزانية القوات المسلحة!
إذْ تتعثّر سياسة بوش في كل بلدان الشرق الأوسط الكبير، تصدر عن البيت الأبيض دعوة مفاجئة الى عقد مؤتمر دولي للسلام في الخريف من أجل إحياء العملية السياسية، وذلك «بالتأكيد على حلّ الدولتين ونبذ العنف الفلسطيني والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ودعم حكومة عباس ومناهضة حماس». كيف؟
يبدو واضحاً أن بوش تبنّى وجهة نظر هنري كيسنجر القائلة بأنه لا سبيل في عالم اليوم إلى تسوية قضية العراق، وقبلها قضية فلسطين، ومضاعفاتهما إلا من خلال تسوية دولية ينجم عنها نظام إقليمي دولي جديد لضبط المنطقة. هذا المطلب الجلل، هل يستطيع بوش تحقيقه في ظلّ موازين القوى السياسية والعسكرية الراهنة؟
الجواب، بالتأكيد، كلّا. من هنا يميل محللون وخبراء استراتيجيون إلى الاعتقاد بأن إدارة بوش تستعدّ لإحداث تعديل في موازين القوى السياسية والعسكرية في المنطقة غايته دعم الحلفاء وتطمينهم ومجابهة الأعداء وإضعافهم بل محاولة إخراج بعضهم من حلبة الصراع.
أبرز الحلفاء حكومات العراق وفلسطين ولبنان والسعودية ومصر. ابرز الأعداء حكومتا إيران وسوريا ومنظّمتا حزب الله و«حماس».
لعل دعم الحلفاء يكون على النحو الآتي:
• استمرار الرهان على نوري المالكي وتشجيعه على توسيع فريقه الحاكم لضمان المصادقة على قانون النفط، وتعديل قانون اجتثاث البعث، وتعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس وإسناد المنصب إلى شخصية سنيّة عراقية عربية، وإيلاء مهمة تدريب قوات الجيش والشرطة أهمية وجدية مضاعفة، والتشدد في ملاحقة تنظيم «القاعدة» ومتفرعاته، والموافقة على عقد اتفاق مع واشنطن لتمديد بقاء قوات محدودة لها في قواعد بعيدة عن المدن.
• إقناع إسرائيل بالانسحاب من بعض المستوطنات، ثم الانسحاب من أجزاء واسعة من الضفة الغربية. ذلك كله من أجل تشديد عزيمة محمود عباس على محاصرة «حماس» وإضعافها بوسائل شتى، وتمكينه من وضع يده على حصة السلطة الفلسطينية من الرسوم والمكوس التي تجبيها إسرائيل، ومباشرة محادثات معه حول آفاق حل الدولتين ومستلزماته السياسية والإدارية.
• مواصلة دعم قوى 14 آذار بشخص رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وتعزيز سلطتها بمحاولة ترتيب انتخاب رئيس جمهورية جديد يكون من «الآذاريين» أو من حلفائهم. ذلك كله لتكوين جبهة سياسية عريضة مناوئة لحزب الله وساعية الى تجريده من السلاح، ومعادية لسوريا ومستعدّة للانخراط في عمليات مناهضة لنظامها.
• تشجيع السعودية على رعاية حلفاء أميركا من المعتدلين العرب، سياسياً ومالياً، ومكافأتها بمعاملتها على أنها قائدة المرحلة إقليمياً بحمل إسرائيل على مباشرة مباحثات، ولو محدودة، حول مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز المعروفة باسم مبادرة السلام العربية.
• دفع نظام حسني مبارك إلى مساندة السعودية في دورها الإقليمي المار ذكره، وتشجيعه على ممارسة دور الضابط الإقليمي للقوى السياسية الراديكالية في السودان وسوريا وفلسطين، لا سيما في قطاع غزة.
لعل مجابهة الأعداء تكون على النحو الآتي:
• تكوين أوسع مجموعة دولية ممكنة لمحاصرة إيران والتضييق عليها بعقوبات اقتصادية وبعزلة مصرفية، وبتفعيل الأقليات الإثنية (العربية والكردية والأذرية والبالوتشية) ضد نظامها الإسلامي، ومحاولة فك تحالفها الاستراتيجي مع سوريا.
• مواصلة محاولات عزل سوريا سياسياً واقتصادياً بتأليب «عرب الاعتدال» عليها، وحجب المساعدات عنها، ودفع حكومة لبنان الى مطالبتها بترسيم الحدود وتبادل السفراء معها ، وتهديدها بمفاعيل المحكمة ذات الطابع الدولـي المختصـة بمحاكمـة قَتَلَة الرئيس رفيـق الحريري، وخلق الأجواء اللازمة مع إسرائيل لمحاولة نشر قوات دولية على حدودها مع لبنان، والضغط عليها لوقف تسلل العناصر الجهادية عبر حدودها الى العراق.
• التشدد في اعتبار «حزب الله» و«حماس» منظمتين إرهابيتين، ومواصلة الجهود الرامية الى عزلهما ولا سيما بالضغط على الأطراف السياسية، للامتناع عن إشراكهما في السلطة، وإجراء الترتيبات اللازمة للحؤول دون حصولهما على أسلحة ومعدّات وذخائر ، والعمل على مصادرة أو تعطيل ما بحوزتهما منها.
غير أن أخطر ما قد تلجأ إليه إدارة بوش، قبل مؤتمر الخريف للسلام أو بعده، سعيها لتعديل موازين القوى السياسية والعسكرية في المنطقة بالإيعاز الى إسرائيل، المهجوسة بطاقة سوريا المستجدة على إنتاج صواريخ متوسطة وأبعد مدى، لضربها بقصد تدمير قاعدتها الصناعية من جهة، وتهديد خاصرتها اليمنى باختراق وادي البقـاع الجنوبي لحملها على قبول نشر قوات دولية على طول حدودها مع لبنان، من جهة أخرى. بذلك تقطع أميركا وإسرائيل خط الإمداد اللوجستي من سوريا إلى حزب الله في لبنان، وتُضعف سوريا إلى درجة يفقد تحالفها مع إيران فائدته العملية والاستراتيجية.
بقدر ما يبدو إخراج سوريا من حلبة الصراع مفيداً ومجزياً لإسرائيل، يبدو في المقابل خطيراً ومحبطاً لإيران. ذلك أن سوريا القوية المتحالفة مع إيران قد تتحول في المستقبل قاعدة متقدمة لصواريخ إيران المتوسطة والبعيدة المدى ذات الرؤوس الكيماوية والبيولوجية وربما النووية أيضاً. من هنا تنبع خطورة ضربها وفك تحالفها مع إيران، إذ يجعل ذلك إسرائيل قوةً عظمى متفردة بالمنطقة، وبلدان المشرق العربي مجرد رقعة عازلة Buffer State بينها وبين إيران.
هذه الأسباب والعوامل والمضاعفات المحتملة، تقلل من إمكان قيام أميركا بدفع إسرائيل الى ارتكاب هذه الفعلة ذات العواقب البالغة الخطورة. فإيران لن تسكت، على الأرجح، إذا ما ضربت إسرائيل سوريا، وقد تلجأ الى الردّ بضرب الكيان الصهيوني مباشرةً ، مراهنةً في هجومها على تحرّج أميركا من نجدة إسرائيل مخافةَ ان تعود إيران الى الردّ بقطع مضيق هرمز وتدمير صناعة النفط بين سواحل البحر الأحمر وسواحل بحـر قزويـن، وهو ما يسبّب حريقاً هائلاً ينعكـس بدوره
كوارثَ وشروراً على الاقتصاد العالمي، إلا إذا كانت أميركا تبتغي مثل هذه النتيجة الكارثية القيامية ...
مع ذلك ، قد لا يتطلب هذا السيناريو كل هذه الكوارث والأهوال والتداعيات ، إذ سيكون في مقدور سوريا، التي تمتلك عشرات الآلاف من الصواريخ المتوسطة والأبعد مدى، إلحاق قدرٍ من التدمير الشديد والخسائر البشرية والمادية الفادحة بإسرائيل، الأمر الذي يجعلها تستدرك الأمر فتمتنع عن شن حربٍ غير مجزية بكل المعايير .
هل استوعب جنرالات إسرائيل دروس حرب تموز ؟
* وزير لبناني سابق