قاسم عز الدين *
إخاله فوجئ بملاكه. ضرب كفّاً بكفّ مذهولاً ثم أشاح بوجهه تبرّماً وذهب إلى سبيله مردّداً كعادته: «ما شاء الله!»، لكنّه هذه المرّة لم يعد. كان حسن يحتمي دوماً من المواقف الصعبة بالانسحاب الهادئ والعودة إلى ذاته. يقول كلمته بتهذيب محترف ويمشي إلى كتبه في خلوته.
حرص حسن على العشرة في ثلّة أصحاب. يدعو عبد الحسين وعقيل عبد اللطيف «لافتراس» دجاجة أعدّها وليمة وطقساً فرحاً في ممارسة «الملذات الصغرى»، إنما يلتقي أحمد بيضون ووجيه كوثراني وجاك أبنجي... حول فنجان قهوة وحكايات «أساطير الأوّلين»، لكنه ظلّ عنكبوتاً ينسج خيوطه حول نفسه ويرقّع خروقات شبكته في زيارة شبه يومية إلى المقهى يسمع صدى ما يبوح في ذاته.
لم يعش حسن على غرار مثقف لبناني يعطي نعمة الفكر استحقاقها، فوق «جهل» أترابه وقلّة حيلة بني البشر، إنما فكّر وتبصّر في أمور ما ينبغي أن يعيشه هو «مثل الأوادم». أطلّ على الثقافة يافعاً من الباب الخلفي لحيرته الذاتية. كان كبير أولاد أبويه في عائلة متعدّدة الزيجات كثيرة الإنجاب. ونشأ في الخمسينيات في حي فقير يضجّ بالحيوية ويدفق دماً جديداً في قلب بيروت. وقتها بدأت العاصمة تتخلّى عن سكونها الريفي وتجذب طلائع الهجرة الريفية الجنوبية للعمل في الميناء والإعمار والأسواق، فكان للهجرة يد طولى في نهضة العاصمة ثم كان للمهاجرين حياة في «حي اللجى» و«الباشورة» و«الوتوات»... فكان حسن يصفن طويلاً على صوت الجاروش في «حي اللجى» ولا ريب أنه كان يبحث عن ذاته الناشئة بين جماعة نقلت طقوسها وعاداتها من أمكنة وضيَع إلى المكان. حاول أن يحلّ لغز الاسم، أهو حي اللجوء وكيف كان ذلك ومتى فلم يجد جواباً.
انتظم والد حسن في سلك الدرك وكان متعلّماً في مدرسة قرآنية، قوي السطوة في عائلته وأبناء جلدته. يتشاوف مثل كثير من القبيسيين بالشعر والأدب العاملي والعلوم الدينية. أحسّ كأترابه النازحين بميل للجماعة الشيعية البيروتية إبّان مناخ متقلّب نحو إعادة تشكيل الجماعات البيروتية في أحزاب «حديثة» متمرّدة على العائلات السياسية «التقليدية». ذلك الحين، أسّس بيار الجميل «حزب الكتائب اللبنانية»، وأسّس عدنان الحكيم «حزب النجادة». وأسّس رشيد بيضون «حزب الطلائع» من الجماعة الشيعية البيروتية، وكاد الحزب المديني «الحديث» أن يغزو الريف الجنوبي، فردّ الزعيم الجنوبي العاملي أحمد الأسعد بتأسيس «حزب النهضة»، فاشتعلت الحرب بين الريف والمدينة وكان والد حسن أحد شعراء «الطلائع» ومفكّرها الشعبي في بيروت.
ولا شك أن حسن الطفل تأثّر بوالده وتباهى بأخبار قبيس في الجبل العراقي بين تلاميذ مدرسة «الشيخ علي» على باب «حي اللجى». تأثّر أيضاً بأخبار قريبه حسين قبيسي الذي شغل النازحين بـ«المرجلة والقبضنة» مع حسن اليتيم ومتري العقدي، لكن حسن الطفل راكم في نفسه مرارة عميقة من سطوة والده في البيت ومن سطوة الجماعة التي تكشف ستر الذاتيات الفردية والعائلية في العراء أمام جماعة الحي. لم يستطع حسن أن يتكيّف مع أولاد المدرسة والحي وهم ينقسمون إلى قطعان تختلط فيها عصبية الجماعة والقربى الريفية والشقاوة البريّة. لم يجد له مكاناً رائداً، على ما تربى عليه، وهم يبدعون ألعاباً صاخبة ترغم أهاليهم أن ينشغلوا بأخبارهم في أحاديث الصباح والمساء. انكبّ حسن الناشئ على القراءة وشق عصا الطاعة على المألوف بين الأولاد وأخذ يشاغب على جيله بالأسئلة الأوليّة. حاول لاحقاً أن يشتغل على هذه الفترة «من تطور الرأسمالية» حين تأثّر بالفكر السياسي الماركسي. وبينما كان يبحث عن قصائد والده «التي تعبّر عن البرنامج السياسي الشعبي»، كان والده يهدر دمه ويتبرأ من إلحاده أمام «سامعي الصوت» من مئذنة القرية في زبدين الجنوبية.
حاول بعدها أن يدرس «السلوك الجمعي» للجماعة الشيعية البيروتية حين تأثّر بالأنتروبولوجيا ولا أظنه قد أفلح. وفي حقيقة الأمر لم ينجز حسن تأليف عمل فكري انشغل به، فلم يكن الإنتاج الفكري في التأليف هاجسه ولم يكن يسعى إلى تراكم رأسماله الرمزي. لم يقتنع حسن بالتبشير ونقل «الجرثومة»، إنما كان باحثاً قلقاً عن المعرفة لذاته الحائرة في الثقافة. يصطاد الأسئلة ويعلق في شباك الصيد. إنه «المثقف المعزول» الذي اختار «العزلة» عقيدة وأتقن مهارة اللعب بالفكر والفلسفة مزاجاً وطريقة. كان «يتحسّس رأسه» بكرة وعشيّة بمناطحة أمّهات الكتب قديمها وجديدها. يغوص في شرك الفلسفة من مشرقها إلى مغربها ويتبحّر في التاريخ والتراث والتفاسير. يكتب أكواماً من التعليقات والنقد، «يخربش» الهوامش ويقارن بين التواريخ والأحداث والمقولات... لكنه لا يعرف ماذا يفعل بكل هذه المعارف وقد عرفها وانتهى الأمر. خطرت له خطرات «سويعاتية» في شبابه، فحاول جاداً أن يتلبّس شخصية «المثقف الذي يخون طبقته» في منظمة «لبنان الاشتراكي» ثم في تأسيس «منظمة العمل الشيوعي»، لكن لم يكن لحسن طبقة يخونها ولم يكن له طبقة ينتمي إليها وسرعان ما محا من ذاكرته زلّة تجربة في الجماعة الإسلامية ولم يذكرها «في نضجه» بخير أو شرّ.
حاول بعدها أن يطمئنّ في حضن «عائلة شرفية» وتأثّر بالمجالسة وبمقولة كاستورياديس حول «المثقف الثوري الحديث» التي عابت على غرامشي مقولة «المثقف العضوي»، لكن لم يأخذ حسن من كاستورياديس سوى جانب هامشي في تقريظ «الحياة الطبيعية». روى العجائب من أخبار «العيّارين والشطّار» في العصر العباسي وحفظ عن ظهر قلب أسماء غريبة من آلات استخدمها العرب في عربات الجر والنواعير والري والحرث والطب والعلوم... «أيام الغنى الثقافي في الحياة الطبيعية». ولعله داعب حيناً مقولة ميشال فوكو في «المثقف الأصلي» (Essentiel)، أو سرت عليه شائعة ما ظنّه صديقه علي حرب مفهوم «المثقف المعزول» في قراءة مزاجيّة لبيار بورديو، قبل أن يتعرف حسن بنفسه بكتابات بورديو.
لكن حسن وجد ضالته في البنيوية وفي الفكر البريّ لكلود ليفي ستروس. وشفى ستروس غليل حسن فقرأه بنهم ولذّة وتعلّم منه معرفة فهم الذات وحشرية التعلّم الفكري فحصل على الكنز وخبّأه بعناية ودراية. في هذه الآونة أراد أن يلعب بـ«بالون اختبار» رماه أمام نظير جاهل وكان هذا النوع من اللعب حادثة وحيدة في حياته أدّت إلى «اشتباك» مع مثقف لا تربطه به علاقة حميمة. لم يقصد وقتها الدفاع عن النص والترجمة، ولم يقصد مطلقاً التعرّض لنظير، إنما قصد فقط اللعب في ملعبه لحظة مزاح. أراد استعراض مهارته في التمايل بين جمال النقلة في الترجمة وإيقاعية الحركة في المعنى كمَن يلعب لعبة السيف والترس أمام نظير صاحب الحفل. ولم ترق هذه اللعبة لنظير فأخذها على محمل آخر وتدخّل الجمهور في «جوقة الزجل» على عادة الفرجة في معركة بين ديوك المثقفين. عكّرت هذه الحادثة مزاج حسن باللعب فلملم «المسرح» وتصافى مع نظير فكانت مناسبة تعارف وربما أكثر.
أصيب حسن في بداية حياته برهاب السلطة والسطوة سواء كانت هذه السطوة عارية على صورة دركي وزعيم، أو مبطّنة على صورة مبشّر أو مترسمل ومتنفّذ. خاف من سطوة المفكرين وكل غرائب «كبار القوم»، وخاف من سطوة «القطيع» والجماعة. كان يحلم دائماً بأن يخرج حاملاً عصاه ينادي في الأحياء «تحسّس رأسك»، لكنه لم يفعل. احتمى، ما أمكنه ذلك، داخل قوقعته ولم يبحث عن مريدين أو عن التسلّق في زيادة رأسماله الرمزي بين «النخبة». قضى به الأمر إلى مقاطعة التأليف متعمّداً الاستخفاف بتقليد «شيخ الطريقة» أو الهروب من التبشير
بدعوة.
اكتشف حسن لنفسه حيلة مواربة في اللعب بالفكر والفلسفة فترجم لنفسه أولاً وتعلّم على نفسه من «شيخه» في الكتب: اللغة وتقنيات الترجمة. فكتب صحيح النص وأجمله. تعلّم المعرفة من تجربته الذاتية في القراءة. فحكايته الشهيرة عن قراءة كتاب رأسمال ماركس أخذها من ترجمة دونجفيل لمقدمة الرأسمال حين ساق دونجفيل حكاية إسحق دوتشر. لكن حسن رمى الترجمة بعد إنجازها وتخلّص من الماركسية في تلك الحكاية ولم يترك لها في نفسه غير «حبّة» بينما قصّ دونجفيل الحكاية مبرراً تكريس حياته في ترجمة أعمال ماركس. نشر حسن بعض ترجماته على سبيل الحشرية في مشاركة الآخرين المعرفة العامة (ترجمة كتاب آلان تورين حول الديموقراطية) ونشر بعضها الآخر على سبيل الحشرية في مشاركة الآخرين المعرفة الخاصة (ترجمة كتابات ليفي ستروس)، ونشر بعضها الآخر على سبيل المقايضة (عندما يحتاج إلى قرشين في بناء بيت الضيعة). لكنه قدّم في هذه اللعبة حرفة ومدرسة في الترجمة. كان حسن أحد قلائل المترجمين العرب الذين يُركن إليهم في تعريب جميل ومتين للنص من غير تأليف وتأويل. ابتدع اشتقاقات لا تُحصى واشتغل عليها (دَقرطة سَستمة...)، لكن لم يمتهن مهنة الترجمة ولم يمتهن الفكر والثقافة مهنة عيش.
حاول أن يتعلّم من الفكر والفلسفة أسلوب العيش وطريقة في الحياة. كان يحلو له أن يردد أننا نحتاج إلى حيوات عدة كي نتعلّم كيف نعيش. نبذ عبودية الاستهلاك والمال والاستحواذ، فكان مهووساً في البحث عن الملذات الفطرية وبساطة العيش. احترم السويّة في بني البشر ولم يذكر عورة امرئ وحاول أن يستتر بين كتبه ومشاغله في البحث عن الأسئلة، لكن يبدو أن الإنسان لا يتعلّم كيف يعيش ما دام قادراً على العيش.
تولّه حسن بالمرأة فنغّص عيشها ونغّصت عيشه. كان طفلاً في السادسة عندما لسعه دفء امرأة وضعته في حرجها وداعبته بقبلات لم يذق طعمها في بيته. قضى بقية عمره مهووساً بلذة تلك اللسعة. قلّب بين النساء في شبابه باحثاً عن طعم الدفء في تلك الطفولة المتفتّحة على الحنان النسوي في الأم، ولا أظنه شفى غليله قبل الوداع. عشق حسن المرأة ولم يستطع أن يحب امرأة وظل يلعب و«يبحبش»، مراده المعرفة فأفاده نعيم المعرفة مرّة وأصابه جحيمها مرّة. عاش حسن قبيسي وحيداً ومات وحيداً. حملته ثلّة من الأصدقاء على عجل إلى مثواه الأخير قبيل العدوان على لبنان السنة الماضية وترك خلفه كنزاً معرّضاً للضياع في ركام الورق والدفاتر. السويّ أن تأخذ الجامعة اللبنانية على عاتقها الإفادة من معرفة تحتاج إليها ويحتاج إليها طلابها. والسويّ أن تهتم رابطة الأساتذة بهذا الأمر. لقد كان حسن أستاذاً جديّاً مهتماً بنقل المعرفة إلى تلاميذه ويكتب المحاضرات بقلمه، وكان ماهراً باللعب في الفكر والفلسفة حيث يكثر «الجدّيون» ويقلّ اللاعبون. ولعلّنا نفتقد بعض اللاعبين من زملائه في إحياء ذكراه والاستفادة من جهد معرفي ليس نشره والإفاده منه مجرد لعب.
* كاتب لبناني مقيم في باريس