كم نفتقدك اليوم أيها المفتي الشهيد!
  • الأب إبراهيم سروج

    جاء في الإنجيل الشريف: كان إنسانٌ مرسلٌ من الله اسمه يوحنا، أي يحيا. هذا كان يقول لهيرودس الملك: لا يحقّ لك أن تأخذ امرأة أخيك وهو حيّ... وكان يوبّخه على جميع الشرور التي كان يصنعها. ومات يوحنا بسبب ذلك شهيداً بحدِّ السيف.
    وجاء أيضاً في التاريخ اللبناني الحديث، النظيف والشريف: كان إمام لسنّة لبنان اسمه حسن خالد... هذا كان يقول لحكام بلاده: لا يحقّ لكم أن تعقدوا صلحاً مع العدو الإسرائيلي. وكان يوبِّخهم على كل انحراف يقومون به وعلى كل محاولة لجرِّ البلاد إلى الفتنة والاقتتال. وباختصار لم يَحنِ هامته للناس، بل كان يُشدِّد على أنه لا إله إلاّ الله وأن الناسَ سواسية كأسنان المشط، ولذا سقط الإمام شهيداً بالديناميت.
    واليوم، نحن يا أحبّة نستذكر إمامنا الشهيد، بعد ثمانية عشر عاماً من استشهاده، فماذا تُرانا نقول فيه؟ كلّكم تعرفون نشأته في بيت متواضع، متمسكاً بالفضائل ومكارم الأخلاق. كان شغله الشاغل منذ طفولته هو أن يتعلَّم الإسلام وأن يعيش بحسب الإسلام. ولذا ما إن أنهى تعليمه الابتدائي حتى التحق بالكليّة الشرعية (وهو ما يُعرف اليوم بأزهر لبنان)، ليقضي ستّ سنوات يتفقّه فيها علوم الدين. ولكن الشاب حسن لم يشبع ممّا بلغ وكأنه يقول في أعماقه «ربي إني ما أوتيت من العلم إلا قليلاً»، ولذا يمَّم شطر أرض الكنانة إلى الأزهر الأصيل ليتابع الخوض في بحار علوم القرآن والشرع الحنيف.
    تخرَّج عام 1946، وعاد إلى لبنان ليطبّق ما قد تعلّم في التدريس وفي القضاء الشرعي في بيروت وطرابلس وجبل لبنان، إلى أن اختاروه بالإجماع عام 1966 مفتياً للجمهورية اللبنانية، وبقي في الإفتاء ثلاثة وعشرين عاماً إلى يوم استشهاده، ليلة السابع عشر من أيار عام 1989.
    لو كان المفتي حسن خالد يطلب راحته ومجد نفسه، لآثر الاستكانة والخنوع والتسبيح بحمد السلطان وحمد الناس. ولكنه آثر بالفعل حمد ربّه وأن يكون هو لا شيء، بينما تكون كلمة الله هي العليا، فكان لها شاهداً وشهيداً. ومن هنا التقى المفتي حسن خالد مع يحيا النبي الذي كان يقول: «حسبي أنا أن أنقص وهو أن يزيد» كما التقى معه في الشهادة من أجل كلمة الحق.
    ولذا ليس من الصدفة أن يكتب المفتي حسن خالد، كتاباً عن «الشهيد في الإسلام». من عادة الأدباء والمفكّرين أن يكتبوا عمّا يقلقهم، عما يعتمل في أعماقهم، وعمّا يؤمنون به ويريدون نشره وإذاعته بين الناس ليؤمنوا هم بدورهم به.
    قال المفتي حسن خالد: «إن الأمّة التي لا يكثر فيها المستشهدون دفاعاً عن العقيدة والشريعة والآداب والمثل (العليا) التي أمرهم الله بالدفاع عنها، والتي تنظم الحياة وتحفظ الهيبة والكرامة والحق والحريّة والعدالة، أمّة غير جديرة بالعزّة.. ويتابع مرتقياً «الشهداء من الأمة بمثابة القاعدة من البناء... والروح من البدن... ودم الشهيد هو وقود حياة الأمة».
    فهل تتوقعون أحبائي من المعلِّم الأول والإمام الأوّل في سنّة لبنان، أن يدعو للشهادة وألاّ يكون لندائها مُلبّياً؟ معاذ الله! لم يكن المفتي حسن خالد داعياً للشهادة وحسب، بل محرِّضاً عليها. ها هو يؤكد، في الكتاب نفسه، «أن فلسطين ومقدساتها لن تعود للعرب والمسلمين بالكلام يُطرح هنا وهناك، ولا بتفضّل الناس الأباعد ومناصرتهم المشروطة أو غير المشروطة، بل إن عودتها مرهونة بفضل جهاد أبنائها وجهاد إخوتهم المسلمين ونضالهم حتى الاستشهاد». ويؤكد أيضاً لنا اليوم وخاصة للذين يتّكلون على أميركا فيقول: «إن الأراضي العربية المكرَّمة التي احتلتها جيوش إسرائيل في سينا والجولان ولبنان، لن تتحرَّر بوعود سخيّة يجود بها الأميركيون وأحلافهم، ولا بقرارات مجلس الأمن صدرت بالأمس أو تصدر غداً، ولكن بنضال أبنائها وكفاحهم المرير حتى الشهادة».
    فيا مفتينا ويا إمامنا، نحن نفتقدك اليوم كثيراً في لبنان، حيث يتسارع كثير من المشايخ والأئمة والقساوسة والأساقفة ليكونوا أزلاماً وأبواقاً للسلطان وللأميركيين. فسلامٌ عليك وعلى روحك الطاهرة يا من كنت قدوتنا وسلكت في طريق الأنبياء الشهداء فليكن ذكرك يا إمام، يا حسنُ، خالداً ومؤبّداً.