ناصيف قزّي *
إلى متى سيبقى لبنان وطناً مشلوحاً على بساط المنافع والمصالح الإقليميَّة والدوليَّة؟ والى متى ستبقى أحلامنا مسكونة بالعفاريت؟
ألم يكفِ لبنان وشعب لبنان ما عاناه منذ عقود، من سياسات جائرة واحتلالات حاقدة ووصايات ظالمة ومؤامرات خبيثة، كادت تطيح مرتكزاته وبُناه، الوطنية منها والسياسية والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وحتى الأخلاقيَّة... ناهيك عن الهجرة التي أكلت بنيه؟
واللاجئون الفلسطينيون الى ربوعه، أمكتوب عليهم أن يظلوا، فوق بؤسهم وتعاستهم، سلعة في يدي هذا وذاك من أنظمة ومنظمات، قد لا يكون حل قضيّتهم في سلم أولوياتها؟
ثم، هل ما يجري على ضفاف نهر البارد، على مقربة من سهول الفيحاء، عند أسفل جبال الضنيّة، هو عود على بدء في مسار العلاقات اللبنانيَّة ــ الفلسطينيَّة... أم الزمن المشرقي متوقف هناك، في عقول قلة ممن أوكلوا الى أنفسهم مهمة تصنيف الأمم والشعوب والجماعات حسب ما تمليه عليهم فتاوى وشروحات واجتهادات... أم ما يجري يفصح بالقول والفعل عن حقيقة ما يرسم لنا من مخططات؟
ومهما يكن من أمر، فهل يعقل ألا يدرك أهل السلطة حقيقة ما يدور وعلاقته بمسارات السياسة الإقليمية والدولية... السياسة التي باتت حكومة السنيورة جزءاً منها؟
وبعد، فهل من عاقل لا يقع في الحيرة مما يجري على الساحة اللبنانية وفي دوائر السلطة، من أمور، ولا سيما أنَّ ما صُوِّرَ لنا مساراً استقلالياً سيادياً، تكشَّف أنه محض رياء؟
في أي حال... وبانتظار أن يتبدد دخان الحرائق فتنجلي الأمور، ووسط أجواء الحزن والخشية والترقب في كل مكان، لا بد لنا من وقفة إكبار وإجلال أمام أرواح أولئك الذين سقطوا دفاعاً عن لبنان.
فالتحيَّةُ... كلّ التحيَّة الى شهدائنا الأبرار... أولئك الذي أُخذوا في غفلة وهم نيام.
التحيَّة... كلّ التحيَّة الى كل الأبرياء الذين سقطوا فجر ذلك الأحد المشؤوم، ضحية الغدر الحاقد، العائد بحلّة القرون الوسطى الى وطن الرسالة، «رسالة الحريَّة والتعايش والتسامح في هذا العالم»... الوطن المنذور، أصلاً، للمحبة والتلاقي والسلام.
التحيَّة... كل التحيَّة لجيش وطني أبيّ، حمل على هامته منذ أن تشكَّل في أواسط القرن الماضي، راية «الشرف والتضحية والوفاء»...
التحيَّة... كلّ التحيَّة الى المؤسسة الوطنيَّة الجامعة التي طالما أرهقتها سياسات مبتورة على مدى عقود وعهود.
التحية الى الجيش الذي عرف، وعلى الرغم من كل المكائد والعثرات والصعاب، كيف يحمي الناس، كل الناس، أكانوا مسؤولين في موقع القرار، أم متظاهرين في الشوارع والساحات، أم مقاومين شرفاء في وجه الغزاة، أم إخوة آمنين في ظلمة المخيمات... وهذا ما لا يستطيع أن يوفره أي جيش في أوقات المحن والملمّات... إنه عن حق ضمانة لوطن في مهب الريح.
يبقى السؤال المؤرق عمّا إذا كان ممكناً أن يحدث ما حدث من غدر، لولا سياسة التراخي، كي لا نقول التواطؤ، تلك التي مارستها السلطة القائمة، تجاه أولئك الشذاذ الذي وضعوا البلاد على فوهة بركان. فهل أدركت الآن حكومة الفساد والإفساد، مدى تردّدات ما قامت به، إما مباشرة وإما من طريق وكلاء، من تحريض مذهبي لم يستثنِ أحداً، ولم يغب عنه أي من مصطلحات قاموس المفردات الجوفاء والتكفير المباح؟
والقوى الفلسطينيَّة، المفترض أن تكون عامل توازن وانضباط، أيعقل أن تلتبس مواقفها لتتبدل حيناً وتتمايز أحياناً في ما بينها؟
في أي حال، فالخطر المحدق بلبنان لا يستثني فلسطين ولا شعب فلسطين ولا حتى الأمة العربيَّة جمعاء.
ألم يكن الجنرال عون صائباً في أول إطلالة له في المجلس النيابي، حين طالب الحكومة بتحديد البؤر الأمنيَّة في لبنان وما يمكن أن يتأتى عنها من أخطار؟
أليس وجود لبنان اليوم على المحك... لبنان الذي ندافع عنه، لبنان الذي قرأناه في كتب البدايات والأسفار، منذ نشيد الأناشيد حتى اليوم؟
أمر اليوم... نعم للبنان...!؟ تلك هي صلاتنا صبح مساء...
وكي لا تكون تلك الأحداث الدامية التي تؤلمنا اليوم، علامة من علامات الأزمنة، تتفتّق معها كل أشكال الكوابيس عند الناس، وكي لا نقع في اليأس، فإننا مدعوون لأن نولد من جديد، من حقيقة ما نحن ومن نحن. إننا مدعوون لأن نولد من التاريخ، من قيم التاريخ، أن نولد من شرف الأمهات وعنفوان الآباء... من جذوع الشجر المتأبد اخضراراً وعطاء... من صخور نحتتها سواعد الأجداد... أن نولد من شجر الصنوبر ومن الزيتون... من الصعتر البري... من عطر الحقول... من الحفافي المرصوفة ومن الطيور... أن نولد من أعمق أعماق حقيقتنا التاريخية... تلك التي لا تموت.
نحن مدعوون، أكثر من أي وقت مضى، لنشبك الأيدي ونتحد معاً كي لا تسحلنا المؤامرات من جديد. أما السلطة فالمطلوب منها أن تستيقظ من سباتها قبل فوات الأوان... فتضع حداً لهذيانها وارتكاباتها كافة، لتفسح في المجال أمام قيام حكومة وحدة وطنية تعيد الأمور الى نصابها... فتسترجع لبنان من فم التنين.
وإذ نعي أن الفلسطينيين هم إخوتنا في المعاناة... وأن قضيتهم هي قضيتنا... وأنهم كانوا بدورهم ضحية المؤامرات عينها التي تزهق هناء عيشنا في كل دور... إذ نعي ذلك، فإننا نحذر من يطلق العنان لتصريحات من خارج الزمن، من السقوط في ما يرسم ويحاك لنا ولهم... وندعو الى العمل معاً على إنهاء تلك الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا... والخارجة من كهوف التاريخ.
لذا، وكي لا يتبخر حق العودة ويكرس التوطين القسري، فتضيع فلسطين هذه المرّة الى الأبد، وتضيع معها كل دفاتر الطابو، الصفراء منها والمهلهلة وصكوك البيارات... والذي هو مطلب اسرائيلي بالدرجة الأولى... علينا أن نعي أن ما يجري من اقتتال، إنما هو ضد لبنان وفلسطين معاً. فحذار... حذار هذا الاقتتال.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة