علي الشامي *
عندما كتبت «الليدي سرسق» في بداية الحرب الأهلية 1975 ــــــ 1976، الخطوط العريضة للتقسيم، وعرضت خرائط الكانتونات الطائفية والمذهبية، اعتقد البعض أن دولة لبنان الكبير تسير نحو الزوال، وأن تحويل جبل لبنان من ثنائية طائفية إلى دولة متعددة تشبه فيدرالية طوائف قد انتهت مفاعيله، وبات اللبنانيون على موعد قريب من إعادة ترتيب بيتهم اللبناني بنوافذه الطوائفية على قاعدة كانتون ــــــ منطقة لكل مذهب، وهو ترتيب مهدت له حروب التهجير التي طالت المسلمين الشيعة في ضاحية بيروت الشمالية عام 1976، ثم طالت المسيحيين الموارنة في جبل لبنان الجنوبي بعد معارك الجبل والشحار عامي 1983ــــــ 1984. ومع ذلك لم يحصل التقسيم، ولم تنتج فظائع الاقتتال الأهلي والتهجير على الهوية، كانتونات من أي نوع، رغم أنها ــــــ أي الكانتونات ــــــ ظلت تتنفس من رئة الأمر الواقع الميليشياوي وامتداداته الإقليمية إلى لحظة اختناقها وإجهاضها في تسوية الطائف سنة 1989.
ومما لا شك فيه أن موازين القوى الداخلية والخارجية كانت غير مواتية لرياح التقسيم، كما كانت إعادة جمع الطوائف وتنظيم علاقاتها داخل الدولة ومؤسساتها باهظة الثمن ودموية في جميع مساراتها ولدى مختلف أطراف الحرب الأهلية. وفي نهاية الأمر انتصر مشروع التوحيد وتوارى خيار التقسيم من دون أن يزول، على الأقل في مخيلة ومشاريع أصحابه في الداخل والخارج.
ومنذ أن انتهت الحرب الإسرائيلية على لبنان في 14 آب 2006، شهدت الساحة اللبنانية استعادة لخطاب التقسيم، بدأت خجولة ومرتبكة، إلا أنها سرعان ما أخذت بالتحول إلى مفردة ثابتة في الإعلام والمواقف والتحالفات الخارجية. وقد طغت وسادت مقررات الفيدرالية والدولة داخل الدولة والمربعات الأمنية والأموال الطاهرة والقرارات المنفردة، وكلها مفردات تستبطن رغبة في إعادة ترتيب الجماعات الأهلية اللبنانية وتوزيعها في فيدراليات وأقاليم طوائفية ومذهبية، وكلها تتغذى من مآل دولة باتت مأزومة في إدارتها للشأن العام وتمثيلها الجماعات والطوائف كما في تطبيقها للدستور والقانون والأعراف. وفي سياق هذه الدولة المأزومة، يستعيد خطاب الفيدرالية أنفاسه تماماً مثل فعل خطاب التقسيم خلال الحرب الأهلية، غير أن الأول يفترق عن الثاني في أنه يعتمد على خطاب التهديد بالفتنة الأهلية على قاعدة أن الحل الفيدرالي الذي ستنتهي إليه الفتنة يمكن تحقيقه بمجرد التهديد بها وبدون دفع أثمانها قتلاً وتهجيراً وتدميراً...
بيد أن المسار الراهن للأمور والأحداث والمشاريع يكشف هزالة الخيار الفيدرالي للأزمة اللبنانية الحالية، ويكاد يحصره في القوى التي تستشرف هزيمتها وتتلمس عجزها في إدارة الدولة والمجتمع وفق رغبات سلطوية تفوح منها رائحة الغلبة في كل شيء أو الفوضى في كل شيء. وفي هذا السياق يمكن التوقف عند العوامل التي تجعل الحل الفيدرالي مجرد تهويل وتلطيف للتقسيم الذي جرّب حظه العاثر من قبل.
العامل الأول يرتكز على موازين قوى داخلية تحول دون التقسيم أو الفيدرالية، سواء أكانت طوائفية أم مذهبية أم مناطقية، وبالتالي فإن غالبية الشعب اللبناني مدعومة من أكثريات طوائفية ومذهبية تسد الطريق أمام خيار من هذا النوع وتملك القدرة على إجهاضه. التهجير السابق ومساراته الدموية لم يتمكنا من تحويل الدولة إلى دويلات مجهولة المصير، ودروس الماضي القريب التي نهلت من مقولة الهيمنة الطائفية أو التقسيم لا تزال ماثلة وترخي بكل أثقالها على خيارات اللبنانيين، وهم يواجهون مأزق سلطة لم تتعظ من دروس هذا الماضي القريب. ومثلما تؤثر موازين القوى الداخلية، فإن أصحاب خطاب التهديد بالفتنة لا يملكون القدرة على الحسم لمصلحتهم، والرافضون لخيار الفتنة يملكون القدرة على إخراج السلطة من مأزقها عبر تسوية سياسية تقوم على الشراكة والعيش المشترك، وبالتالي يملكون القدرة على إجهاض مشاريع التقسيم والفيدرالية. وللمزيد من التوضيح، يستحيل فرض أي مشروع تقسيمي تعترض عليه أكثريتان: شيعية ومارونية، مدعومتان من أقليات وازنة لدى الأكثريتين السنية والدرزية. وهذا الرجحان في موازين القوى الداخلية يبقي خطاب التقسيم في إطار التهويل ولا يسمح له، على الأقل حتى الآن، بالتحول إلى حل تاريخي أو مخرج وحيد للأزمة الراهنة. وإذا كان التهويل بالحل الفيدرالي قد ترافق مع فشل حلف حرب تموز 2006 في تحقيق أهدافه، فإن العلاقات الأهلية التي ترسخت خلال الحرب المذكورة عمقت الوحدة الوطنية وزادت من حاجة اللبنانيين إلى إعادة بناء السلطة على قاعدة تحفظ هذه الوحدة وليس العكس.
العامل الثاني، يرتكز على رفض القوى الإقليمية المؤثرة في الوضع اللبناني لأي نوع من أنواع الفيدرالية اللبنانية. وإذا وضعنا جانباً إسرائيل وحلمها التاريخي بإعادة تشكيل المنطقة كلها على شاكلتها العنصرية وتقسيمها إلى دويلات ضعيفة تدور حول مركز الثقل ــــــ أي إسرائيل ــــــ وتخضع لشروطها، فإن سوريا تخاف على وحدتها من تقسيم لبنان، وكذلك السعودية التي تخاف على وحدتها ومصالحها واستقرارها من كل فتنة مذهبية أو مشروع تقسيمي تستشعر وصوله إليها، بطريقة أو أخرى، ولا سيما أن خطاب الحل الفيدرالي في لبنان لا يتم بمعزل عن مشاريع إعادة تركيب الشرق الأوسط كله، وهي مشاريع لا تستثني أحداً، من لبنان وسوريا والخليج والعراق إلى إيران وتركيا. وبالتالي، فإن العامل الإقليمي المتداخل، بشكل أو بآخر، في الأزمة اللبنانية الراهنة لا يملك مصلحة في تبني خيارات تؤدي إلى تقسيم لبنان، هذا إذا لم يكن يتوجس خيفة من خيارات سرعان ما تحط في عقر دار كل طرف إقليمي مهما كانت حساباته ودرجة انحيازه لهذا الطرف اللبناني أو ذاك، الأمر الذي يعزز مواقع الأطراف اللبنانية الباحثة عن حلول للأزمة بعيداً عن مشاريع الفتن الأهلية والتقسيم إلى أقاليم أو كانتونات من أي نوع.
العامل الدولي ويرتكز أساساً على فشل المشروع الأميركي الهادف إلى إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير أو الجديد بما يتناسب والاستراتيجية الأميركية القائمة على إعادة تشكيل المنطقة تحت قيادة قطب واحد واستبعاد كل منافسة، سواء أكانت أوروبية أم روسية ــــــ صينية. وعليه، فإن فشل هذا المشروع وإرهاصاته الظاهرة في العراق سوف يدفع العامل الدولي ـــــ الأميركي إلى إعادة التموضع بشكل لا يلغي، بالضرورة، الرغبة في الهيمنة، بقدر ما بات يحصر اهتمامه بالسيطرة على ثروات المنطقة وطرق إمدادها حتى ولو تطلب ذلك طرق باب التسويات مع القوى المؤثرة في المنطقة، ولا سيما مع سوريا وإيران وصولاً إلى الأقطاب الفاعلة في الساحة الدولية. ويبدو من المسار الراهن لتحولات المشروع الأميركي أن الأزمة اللبنانية أصبحت ورقة مساومة على طاولة التسوية الإقليمية ــــــ الدولية أكثر مما هي قضية قائمة بذاتها، وبالتالي، فإن خطاب التهويل بالتقسيم والحرب الأهلية سوف يزداد سخونة كلما اقتربت ساعة التسوية، اللهم إلا إذا جنَّ جنون أحدهم في الإدارة الأميركية وقرر خوض المجابهة الكبرى التي لا يعرف أحد خطورة انعكاساتها على لبنان والمنطقة برمتها. وفي الحالتين، فإن الرهان اللبناني على الحل الفيدرالي لن يكون أكثر من مغامرة وضع مصير لبنان كله في أحضان المشروع الأميركي، مع ترحيب علني بحرب أميركية ــــــ إيرانية تؤدي إلى هزيمة مدوية ومأمولة للمعارضة، وخوف مقيم من تسوية أميركية ــــــ إيرانية ــــــ سورية تأتي على حساب غلبة داخلية مأزومة. بيد أن ما يثير هلع أصحاب خطاب الفيدرالية أو الغلبة، ليس فقط مجرد الحديث عن تسوية إقليمية ــــــ دولية، بل حرب أميركية ــــــ إيرانية قد تؤدي إلى نتائج غير هزيمة الشركاء في الوطن. وفي هذه الحالة سوف يصبح الحل الفيدرالي هباء منثوراً، هذا إذا لم يكن كذلك منذ الآن، لأن رياحه تجري وفق ما لا تشتهيه السفن الداخلية والإقليمية، فكيف إذا أضفنا إليه السفن الأميركية؟
* باحث وأستاذ جامعي