نزار صاغيّة *
برزت المحكمة ذات الطابع الدولي منذ بدء التداول في شأنها كمحطة مهمة في الخطاب العام الدولي والخطاب العام الوطني على حدّ سواء، علماً بأنّ الإشكاليّات المطروحة اختلفت هنا وهنالك. وهذا ما سأحاول تبيانه في جزءين اثنين كمقدّمة للتفكير لا في تفاصيل نظام المحكمة فقط، بل أيضاً في مبدئها، بعيداً من التابوات أو المقدّسات. وأسارع الى القول بأنّ مقاربتي لهذا الموضوع ترتكز أساساً على الأبعاد القانونية والأخلاقية المرتبطة أو التي يراد ربطها بالمحكمة بمعزل عما لها من انعكاسات سياسية أو أمنية.
1 ــ محكمة «الحريري» في الخطاب العام الدولي:
جريمة عالمية، ومحاكمة نموذجية!
إذا شهد خطاب المحاكم الدوليّة تحوّلاً أساسيّاً في مجال محاكمة الجرائم خلال التسعينيات، فإن تدخّل مجلس الأمن لإنشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة مَن وراء اغتيال قائد سياسيّ، يبقى سابقة على صعيد القانون الدولي. فعلى الرغم من تضمين المعاهدة الخاصة بالإبادة الجماعية بنداً صريحاً بوجوب إنشاء محاكمة دوليّة لمحاكمة جرائم مشابهة لما ارتكب خلال الحرب العالمية الثانية، ارتقب العالم عقوداً عدة قبل أن يتبنّى مفهوم الادّعاء العام الدولي. وقد حصل ذلك تدريجاً بدءاً بإنشاء محاكم خاصّة في قضايا معيّنة كمحكمة يوغوسلافيا ومحكمة رواندا، توصّلاً الى إنشاء محكمة جزائية دوليّة بموجب المعاهدة الموقّعة في تموز 1998.
وتشاء الصدف، لسوء طالع اللبنانيين أو لحسنه، ألا تستيقظ هذه المفاهيم قبل انتهاء حروبهم الأهلية، بحيث أمكن أمراء الحرب اقتناص قانون عفو تمييزي من دون أي خطاب دولي من شأنه تعكير صفو ما سمي آنذاك زوراً المصالحة الوطنية(!).
أما لماذا تشكّل محكمة الحريري سابقة دولياً؟ فليس السبب أن المشكلة لم تطرح من قبل، ولا أن العالم لم يشأ التصدي لما يماثلها بسبب انقسام سياسي، بل لأن العالم قرّر بنتيجة تفكير عقلاني معمّق إخراج قضايا مماثلة (قضايا اغتيال سياسيّين أو قضايا إرهاب) من اختصاص المحاكمات الدوليّة الجزائيّة، ما يجعلها سابقة لا بمعنى الواقعة فقط بل قبل كل شيء بمعنى الموقف القانوني منها.
وهذا ما نقرؤه في مقدمة المعاهدة حيث شُدّد على الجرائم الأكثر خطورة التي تمسّ مجموع الأسرة الدولية والتي لا يجوز أن تبقى بلا عقاب. وهذا ما كُرّر في المادة الأولى منها التي نصت على أن المحكمة مختصة في النظر في الجرائم الأكثر خطورة ذات الانعكاسات الدولية بمفهوم هذه المعاهدة. وإذا طلبت بعض الدول أثناء مناقشات المحكمة الدولية توسيع الاختصاص ليشمل جرائم الإرهاب أو تهريب المخدرات، تصدّت لها غالبية الدول بقولها إن الطابع الدولي لبعض الجرائم لا يجعلها بالضرورة ذات طابع إنساني، وهو الطابع الذي يبرر محاكمتها أمام محكمة دولية، وإن ملاحقة هذه الجرائم يتم بشكل أنسب من طريق التعاون بين الدول المعنية وفقاً لمعاهدات الإرهاب.
فالارهاب ــ مهما كان مداناً ــ لا يمكن عدّه جريمة ذات طابع عالمي (William Bourdon, la Cour Pénale Internationale, Seuil 2000).
وإزاء هذا الأمر، سعى الخطاب الدولي في مرحلة معينة الى تبرير هذه السابقة بنوعين من الحجج:
الأولى، الادعاء بأن الجريمة هي من نوع «الجرائم ضد الإنسانية»، أي من الجرائم الأكثر خطورة، الخاضعة أصلاً لاختصاص المحكمة الدولية الجزائية، ما ينفي حصول سابقة على صعيد المفاهيم في هذا الصدد. ولعل الرئيس الفرنسي كان أول المدّعين بذلك، ولو بعبارات غير قانونية، حين وصف الجريمة بأنّها من «زمن آخر»، تمهيداً للمطالبة بإجراء تحقيق دولي. وقد لقي هذا الادعاء في ما بعد أصداء عدة في أروقة مجلس الأمن، وخصوصاً في سياق الإعداد لمسودة نظام المحكمة الدولية، بحيث جهد البعض الى تضمين النظام تعريفاً صريحاً بهذا المعنى. واللافت في هذا الصدد هو أن بعض المنظمات التي تحترف القوانين الإنسانية، كمنظمة «هيومان رايتس واتش»، أشارت الى وجود احتمالات بتعريف الجريمة على هذا النحو، وخصوصاً إذا ثبت ان هنالك سعياً منتظماً لقتل مدنيين بسبب آرائهم السياسية! (كتاب المنظمة الى كوفي أنان بتاريخ 27-4-2006).
واللافت في الأمر أن هذه المنظمة تعدّ من أهم المنظمات دولياً خبرةً ومقدرةً وتعلم خير العلم أنّ لبنان كان قبل الجريمة بلداً آمناً وحتى اللحظة (وعلى رغم المخاطر الأمنيّة) لا أحد يقتل فيه مدنيين بسبب آرائهم السياسية بشكل منتظم! لا بل أكثر من ذلك، فإن موقفاً مماثلاً، على غرابته، يبقى مبنياً على افتراض أن الحريري اغتيل بسبب رأيه السياسي، ما يعكس الاتهامات المسبقة الشائعة ويشكل استباقاً آخر للحكم، لا يليق بمؤسسة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان! وما يزيد هذه الفرضيّة غرابة، هو أن أيّاً من الدّول أو المنظّمات الدّاعمة لهذا الرأي لم يثر فرضيّة مماثلة ــ ولو من باب الاحتمال ــ حين استباح العدوان الإسرائيلي خلال تموز 2006 «القرى والأحياء الشيعيّة» مدمِّراً ومهجِّراً في أحد أبشع مظاهر العقوبات الجماعيّة!
ولعل أسوأ ما في الأمر، هو أن الدّول والمنظّمات الدّاعمة لهذا التعريف هدفت منه، لا الى الدفاع عن وجهة نظر مبدئيّة ولا عن مدى انسجام اندفاعها في فرض محكمة «الحريري» مع أصول المنظومة الدوليّة وحسب، بل أيضاً وربما أساساً الى تحقيق منافع قانونية مرتبطة عرفاً بهذا المفهوم، وأهمها رفع حصانات الرؤساء وعدم قابليتها للعفو. وعلى رغم غرابة هذا الادّعاء ومخاطره على الصّعيد القانونيّ، استُبعد فقط بفعل معارضة دولتي روسيا والصّين اللتين نجحتا بذلك في صون مفهوم «الجريمة ضد الإنسانية» في منأى عن التسييس! وهذا ما عبّر عنه الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان في بيان مؤرخ في 16-11-2007 بقوله إنه لا أدلة كافية على وصف الجريمة على هذا الوجه، ما فسّره البعض على أنه تسوية سياسية بهدف الحؤول دون رفع حصانة الرؤساء! هذا مع العلم أن مسودة الاتفاق تضمّنت موادَّ من شأنها تقييد صلاحيات العفو عن الجناة.
الثاني، وهو مبنيّ على دور مجلس الأمن في صون السّلم، مفاده أنّ إنشاء المحكمة مبرّر برغبة المجتمع الدولي في مساعدة لبنان على حماية سيادته في مواجهة السّاعين الى التدخّل في شؤونه أو أقلّه السّاعين الى ضرب الاستقرار فيه، علماً بأنّ بعض الدول لا تتردّد في وضع النظام السوري في قفص الاتهام. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تكون المحكمة مختلطة وأن تنشأ بموجب اتّفاق بين الحكومة (طالبة المساعدة) ومجلس الأمن (الذي يساعدها)، دونما حاجة إلى اللجوء الى الباب السابع. وكان من الطبيعي أن يزيد مطلب إنشاء محكمة الحريري مشروعيةً مع تزايد جرائم التفجير والاغتيال في لبنان، بما يوحي بأنّها الباب الأوحد لردع الجناة ولاستعادة الاستقرار الأمني. وإذا توالت المفاوضات ومسودات مشروع المحكمة على هذا الأساس، فإنّ تطوّر الأحداث في لبنان، وخصوصاً لجهة اصطدام الأكثرية النيابيّة بعقبات إقرار المشروع، طرح تساؤلاً كبيراً عن مدى مشروعية المجتمع الدولي في قبول طلب المساعدة، ما دام اللبنانيون منقسمين في شأن تقديم هذا الطلب.
في ظل هذا التساؤل بالذات، وفي موازاة اعتراض الأكثرية النيابية على العراقيل التي تفرضها المعارضة، جرى تحوّل أساسيّ في مواقف بعض دول مجلس الأمن بحيث استُبدلت عبارة «مساعدة لبنان ضدّ الذين يهدّدون أمنه وسيادته» بعبارة «مساعدة القوى الديموقراطيّة في لبنان» (بولتون)، ما يوحي أن بعض الدول تبرّر لنفسها ولمجلس الأمن التدخّل ــ ليس فقط في نزاع دولي لنصرة لبنان ــ بل أيضاً في نزاع داخلي لنصرة بعض القوى اللبنانية (المصنّفة ديموقراطية) ضد قوى أخرى. وإذا كان القانون الدولي أتاح التدخّل في الشؤون الداخلية لبعض الدول تصدّياً للانتهاكات الكبرى (جرائم ضدّ الإنسانيّة أو الإبادة الجماعية) كما حصل في دارفور مثلاً، فإنّ التدخّل في هذه الحالة (أي في خلاف سياسي لا تشوبه أي جريمة) بحجّة حماية القوى الدّيموقراطية إنّما يشكّل بالواقع سابقة خطيرة على الصّعيد الدولي. ومن هذا المنطلق، إذا تشكّك البعض في إمكانيّة اللجوء الى الباب السّابع، فإن آخرين سعوا الى نقل البحث من زاوية مساعدة لبنان أو القوى الديموقراطيّة فيه الى زاوية حماية السّلم العالميّ!! والواقع أنّ هذا الطّرح مشابه في أهدافه (تحويل الضّرر اللبنانيّ الى ضرر عالميّ) تماماً للطرح الآيل الى عدّ الجريمة جريمة ضدّ الإنسانية (تحويل الضّرر اللبنانيّ الى ضرر للإنسانيّة جمعاء)، خلافاً للمنطق ودونما أيّ دليل، ولا سيّما في ظل جهل هوية الجناة والدوافع الحقيقية الكامنة وراء الجريمة. فأين هي مخاطر هذه الهجمات بما يتجاوز الحدود اللبنانية؟ وألا يؤدي بالواقع التوسّع في تفسير السّلم الدوليّ على هذا الوجه تمهيداً لتطبيق الباب السابع الى إيجاد سابقة خطيرة في المجتمع الدولي من شأنها تشريع التدخّل في شؤون الدول بطرق ملتوية؟ ثم هل تشكّل هذه الهجمات خطراً على السلم العالمي أكثر مما هي حال العدوان الإسرائيلي أو اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا؟
وإلى ذلك، يجد الخطاب الدولي متّسعاً لإعلان مبرّرات إضافيّة مفادها أنّ المحكمة ذات الطّابع الدوليّ ستكون رافعة للعدالة في لبنان وتحديداً فرصة «تثقيفيّة تربويّة»، أولاً للبنانيّين المشاركين فيها (قضاة وقوى أمنيّة)، وثانيّاً لكل مواطن يعاين «إحقاق الحقّ»، وثالثاً للمشرّع الذي سيتبيّن في نظام المحكمة أو خلال عملها ثغرات القانون اللبنانيّ بالنسبة الى المعاهدات والمعايير الدوليّة. أفليس نظام المحكمة المختلطة محاولة للتوفيق بين القوانين اللبنانية والمعايير الدولية، ولا سيما في قضايا الإجراءات والعقوبات، بحيث ذهب هذا النظام الى انتقاء مواد من قانون العقوبات والإجراءات الجزائيّة والى وضع العقوبات الممكنة على أن تخضع المسائل الأخرى للمعايير الدولية؟ وهذا ما عبّرت عنه في أيّة حال مجموعة من بيانات الأمم المتحدة وأيضاً منظمة هيومان رايتس واتش، وأيضاً المحقّق ميليس الذي ذهب الى حدّ تنقيط القضاة والقوى الأمنية، مشيداً بالقضاة الذين تجاوبوا مع توصياته بتوقيف الجنرالات الأربعة! لا بل إن البعض اعتقد أنّ وضع نظام المحكمة سيؤدّي بحدّ ذاته الى إطلاق ورشة تشريعيّة في اتّجاه إلغاء عقوبتيْ الإعدام والسجن مع أشغال شاقة مثلاً، أو تعديل الإجراءات الجزائية ضماناً لحقوق الدفاع. ومن هذا المنطلق، بدا كأنما للمحكمة وظائف تتعدى حدود الضّرورة الأخلاقيّة أو السّياسيّة.
والواقع أنّ هذا الاعتقاد يقارب أحياناً حدّ السّذاجة، فلو كان ثمّة نيّة لإصلاح القضاء اللبناني، فلماذا خلا البرنامج الإصلاحي المعلن عنه في باريس ــ3 (والمدعوم دولياً) من أي إشارة الى استقلالية القضاء أو إصلاحه؟ ولو كان ثمة نيّة لإلغاء عقوبة الإعدام أو تعديل الإجراءات الجزائية، فلماذا لم يبادر البرلمان تلبية لرغبة المجتمع الدولي (وهو محكوم بغالبية نيابيّة مريدة للمحكمة ذات الطابع الدوليّ) إلى إقرار قوانين في هذا الاتّجاه كباب ضروريّ لإقرار هذه المحكمة؟ وألا يوحي بالمقابل استبعاد هذه الأحكام حصرياً في قضية الحريري بوجود نوايا قوية للتعامل مع هذه القضية تعاملاًَ خاصاً ومنعزلاً تماماً عن سائر القضايا أو أكثر من ذلك عن مجمل المناخ القضائي والتشريعي السائد في لبنان والذي يذهب هو في اتجاهات معاكسة تماماً؟ ولو كان الأمر خلاف ذلك، فكيف نفسر تعاون الدول الأكثر تمسّكاً بالمحكمة مع أبرز الشخصيّات اللبنانيّة تورّطاً في جرائم حرب (وبعضها لا يزال مستمرّاً كما هي حال ملفّ المفقودين)، كما حصل مثلاً أخيراً عند استقبال الرّئيس شيراك السيّد جعجع من دون أيّ تحفّظ وبمعزل عن أيّ ضرورة سياسيّة، بما يشبه عمليّة تبييض وتجميل؟ لا بل إنّ التّساؤل في هذا المضمار يبلغ مداه إذا عرفنا أنّ الاهتمام الدولي بمحاكمة المتورّطين في اغتيال الحريريّ الى درجة عدّها غير قابلة للعفو (بموازاة اللامبالاة إزاء جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة المرتكبة فيه)، جاء بمثابة إعلان صاخب فحواه «أيها اللبنانيون، إنّ لقادتكم قيمة عليا تفوق سائر القيم الأخرى، بما فيها القيم الإنسانيّة التي جهد العالم في استنباطها على مدى القرون الماضيّة». وهو بهذا المعنى يبدو إعلاناً ساذجــــــاً ما دام اللبنانيّون «مسكونين»، بكلّ ما للـــــــكلمة من معنى، بهذه القيمة العليا، وهم تالـــــــياً أحوج ما يكونون ليس إلى من يذكّرهم بأهـــــــمية قادتهم بل بأهمية القيم الإنسانية التي سهوا عنها إبان حروبهم وما فتئوا يسهون، وخصوصاً في تنكّرهم لقضية المفقودين.
أفلم تولِ الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة (حتى في خضمّ الحرب) للجرائم المرتكبة ضدّ القادة السياسيّين والدينيّين أولوية فائقة حين أحالتها بشكل منتظم على المجلس العدلي بخلاف سائر الجرائم؟ أوَلم يذهب المشرّع اللبنانيّ في الاتجاه نفسه حين استثنى هذه الجرائم من العفو بحجّة أنّ القادة رموز وطنيّة، وذلك بخلاف جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة التي هي استفادت من عفو غير مشروط؟
هذا مع العلم بأنّ بروز المصالح السياسيّة الدّوليّة دافعاً لإقرار المحكمة في موازاة الصمت الدوليّ إزاء العدوان الاسرائيلي على لبنان في تمّوز 2006، إنما يظهر بوضوح للبنانيّين كافّة أن المسألة لا تعدو كونها مسألة انتقائيّة. فهل يُؤمل من المحكمة ذات الطّابع الدوليّ أن تصالح اللبنانيين مع فكرة العدالة الانتقائيّة، ما ينسف مبرّرات العفو عن السيد جعجع، أم يراد منها فقط توجيه رسالة سياسيّة دوليّة مفادها أن العدالة سلاح للأقوياء أو لمن يحظى بدعمهم، بمعزل عن أي مبادئ أو قيم؟
* محام وباحث قانوني