عبد الحليم فضل الله *
يُطرح الحياد من البعض كحل للمعضلة الكيانية التي يعيشها لبنان، وهذا يتضمن ربطاً غير مصرّح عنه بين البعدين الداخلي والخارجي للأزمة التي تجدد نفسها كل عقد أو عقدين، ويتضمن أيضاً تمييزاً بين الحلول الدائمة والحلول المؤقتة.
والحياد غير المتفق على تحديد معناه حتى الآن، هو الخيار المضاد لفكرة الانضواء إلى المنطقة، ويُنظر إليه على أنه انسحاب تدريجي من البيئة الإقليمية المتهمة بأنها مسؤولة عن الطور الراهن للأزمة، لكن هذه البيئة كما يعرف الجميع تشكل محيطاً هلامياً تختلط فيه النزاعات والمحاور والمشاريع والإيديولوجيات بقضايا الانتماء والهوية والاستقلال والتحرر، وبالتالي فإن الانسحاب منها أو مجرد الرغبة في ذلك لن يكون إلاّ تبديلاً لاتجاه السير وتلاعباً خطراً وانتهازياً على حبال تناقضاتها وأوهامها.
يتعارض مبدأ الحياد كذلك مع «الخصوصية اللبنانية» التي تَلازم القول بها مع أسطرة الصيغة اللبنانية واعتبار لبنان «دعوة عالمية» ورسالة حضارية. لكن ما يجب تذكّره هو أن دعوى الخصوصيّة نبتت في سياق تشديد مفكري ميثاق 1943 على قيم الحداثة والليبرالية، لا من أجل هذه القيم نفسها، بل لمساعدة النظام السياسي الناشئ على استيعاب مفارقاته، والتعويض عن ضعف القيم المشتركة. وقد استغلت فكرة الخصوصيّة لجعل انفتاح لبنان على العالم في بعض الأحيان أقوى من ارتباطه بالمشرق العربي، وفي أحيان أخرى بدا صعباً الجمع بين هذه الفكرة التي لها تأويلات متطرفة عدة، وبين تبنّي تحديد سهل ومقبول ومستقر لطبيعة لبنان وانتمائه.
لقد كان الحياد الجيوسياسي للبنان جزءاً من تسوية الاستقلال، ما يؤكد الترابط بين مسألتي الحياد والهوية، وليس من قبيل الصدفة أن يحسم اتفاق الطائف انتماء لبنان العربي ويستعيده في الوقت نفسه من الغموض المرير الذي أفقده مكانته الاستراتيجية ولم يقدم له بالمقابل الحماية اللازمة. ولعلنا نقف اليوم مجدداً على مفترق الطرق نفسه بين وطن بهوية صلبة ومستقرة، ووطن بهوية رخوة مترددة كالتي هددت استقراره طوال النصف الثاني من القرن العشرين. فمنذ عام 1943 ظل لبنان حائراً بين المجال المتوسطي الذي أثار اهتمام ميشال شيحا وسبق لطه حسين أن التفت إلى أهميته في تسريع التحديث... والمجال الأطلسي الذي اعتبره البعض رمز الانفتاح الأقصى على العالم... والمجال الشرق أوسطي الذي يلهب مخيّلة آخرين لإنتاج عروبة مخففة هي مجرد ملحق بهوية شرق أوسطية مستمدة من المصالح الاقتصادية المتبادلة، أما المجال العربي الذي لا يمكن فصله عن القضية الفلسطينية، فيعاني اليوم عبء المجالات الأخرى وشلل النظام الإقليمي العربي.
وعلى أي حال، فإنّ إعادة النظر في علاقة لبنان بمحيطه القريب أو البعيد، وتقرير موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي ليس أمراً عابراً، بل إنها تتصل بمستقبل نظامه السياسي وتمس بطريقة ما التسويات التاريخية التي أنتجت نسيجه الخاص. ولا يبدو أن فكرة الحياد ستساعد على تحقيق استقرار دائم إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود عوامل خارجية قوية يصعب تجنب تأثيراتها. فالاضطرابات التي مر ويمر بها لبنان تسير على وقع أمرين متزامنين: قوة الانقسامات الداخلية وبعضها يرتبط بتباين نظرة اللبنانيين إلى ما يدور حولهم، وقوة حراك التسويات أو النزاعات في المنطقة المتأثرة باتجاهات السياسة الأميركية التي لم يغير من ثوابتها استبدال الحرب الباردة بالحرب على الإرهاب، وعلى رأس هذه الثوابت كما هو معروف: توفير تدفّق النفط والهيمنة على منابعه، والحفاظ على تفوق إسرائيل على الدول العربية بما فيها المتحالفة بقوة مع الغرب.
وبالاستناد إلى ما تقدم فإن التقارب أو التباعد ما بين العالم العربي وجواره، ودينامية الحرب والسلام في المنطقة، والتورط أو الحياد في النزاعات الإقليمية، إنما يرتبط بهذه الطريقة أو تلك بالخيط المشدود بين واشنطن وتل أبيب، أي بين سياسات أميركا الشرق أوسطية وبين استعداد إسرائيل للاتجاه نحو التسوية أو نحو الحرب. وهذا يجعل حق اتخاذ القرار محصوراً بهاتين الدولتين على تفاوت بينهما، ولم يسجل منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن خرق لهذه الحصرية حتى من قبل الدول الإقليمية الكبيرة، بل إن تطوراً عكسياً حدث مع وصول جورج بوش إلى البيت الأبيض عام 2000، وأدى إلى ضمور سيطرة هذه الدول حتى على قراراها الوطني، وتعرُّض إيران لتهديدات خطيرة لمجرد أنها تتبع سياسات مستقلة تجاه قضاياها الوطنية (الملف النووي..)، أو تجاه قضايا المنطقة (احتلال العراق، القضية الفلسطينية...)، وفي مثل ظروف الهيمنة الراهنة سيغدو معروفاً من سيقرر الحياد ومن سيضع شروطه.
ثلاثة أبعاد للحياد:
أدى تشعّب النقاش اللبناني إلى كشف وهن التضامن الداخلي، وقد ذهبت الحماسة ببعض القوى التي باتت أخيراً موالية لأميركا، إلى الخلط بين الأبعاد السياسية والثقافية والأيديولوجية للأزمة، وهذا يهدد اتفاق اللبنانيين حتى أثناء الحرب الأهلية، على منع تناقضاتهم الاجتماعية والعقائدية العميقة من أن تطفو على سطح الخطاب السياسي كي لا تزيد من تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية، أما اليوم فتتم تنمية الأوهام النرجسية التي تلامس حد العنصرية السافرة (تحدث البعض عن صراع حضارات!).
وجرياً على هذا الخلط يمكن الاستنتاج أن هناك ثلاثة أبعاد للحياد ربما يودّ أنصار الفكرة مزجها في سياق واحد:
البعد الأول: الحياد الاستراتيجي، ويطال أساساً الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، لكنه يشمل مروحة أكبر من النزاعات التي تقود الولايات المتحدة الأميركية معظمها، ويفترض أن يشمل الخلافات العربية ــ العربية. بالنسبة إلى هذه الخلافات فإن المطروح على لبنان اليوم هو الانتقال من معسكر عربي إلى آخر، ومع أن كليهما أعلن في مدريد الرغبة في «السلام»، فإن أحدهما يرى أن التسوية العادلة هي ما ترغب الولايات المتحدة في إلزام إسرائيل به، والثاني يرى أنها نتيجة لامتلاك القوة التفاوضية وغير التفاوضية التي تكفي لإجبارها على تقديم التنازلات.
البعد الثاني: الحياد السياسي، بمعنى أن لا يكون للعملية السياسية الداخلية تأثير في سياسة لبنان الخارجية، أو بكلمة أخرى أن لا يكون للبنان سياسة خارجية تتضمن شراكةً ما في صناعة القرار الإقليمي. الحياد السياسي هو أيضاً حياد أيديولوجي، فلا يكون للنظام السياسي مرجعية ذاتية تساعده على التماسك، وتكفل له تجاوز أزماته من دون تدخّل من خارجه..، وتمنحه القدرة على تطوير نفسه وتجديد قيمه وثوابته.
البعد الثالث: الحياد الثقافي، وهذا مرتبط بإشكالية الهوية اللبنانية، ومعنى الحداثة وحدود الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، والوصل والقطع بين الهويات الكبرى والصغرى. يشجع هذا البعد الاتجاهات التي تفضّل إبقاء المفاهيم السياسية التي نادى بها فلاسفة الاستقلال على حالها، على الرغم من أنها تحولت مع مرور الزمن إلى قيود صارمة تمنع من توفير الشروط اللازمة للتغيير، وتسلّط العناصر المناوئة للتقدم والمحفورة في اللاوعي الجماعي نتيجة الخوف المتبادل، على الرغبة الجامحة الموجودة في وعي اللبنانيين ومعاشهم للمضي إلى الأمام وتحدي المبادئ الموروثة. وعلى الرغم من أن اتفاق الطائف أوجد تسوية قوامها أن الاعتراف الصريح بالجماعات اللبنانية هو المدخل إلى تخفيف هواجسها وإدماجها في مشروع الدولة، فإن سطوة أدبيات الاستقلال أعادت توظيف هذا الاتفاق في المنطق الذي يُعلي من قيمة الطائفية، ويعتبرها إلى جانب الانفتاح والوساطة من مقومات الكيان اللبناني.
في المجال الثقافي تتصارع الهويات اللبنانية على السلطة بينما تستعمل ذخيرة ثقافية واجتماعية وأخلاقية لترجيح كفة الميزان لمصلحتها. والغريب أن الانقسامات الثقافية والأيديولوجية في لبنان تتبع الخط البياني للانقسامات التقليدية الجامدة بدلاً من أن تشكل جسر عبور إلى الانقسامات المدنية الحديثة، المرنة والمتحولة.
الحياد كنزعة محافظة:
هذا الفهم المركب للحياد يعني أن المطالبين به هم في الوقت نفسه أصحاب نزعة محافظة مضادة للتغيير، فتفكيك البنية الطائفية للنظام السياسي يستدعي وجود دولة قوية، والدولة القوية تتطلب في الداخل عقداً اجتماعياً جديداً يحفظ حق المشاركة للجميع، وفي الخارج قدرة على المشاركة في صناعة القرار الإقليمي، وحماية السيادة مهما كانت خياراتها... وهذا ما لا يمكن الحياد توفيره.
يُظهر هذا الفهم المركب وجود تيارين: الأول يجمع ما بين الانضواء إلى المنطقة وإصلاح النظام السياسي وتبنّي تجربة حداثوية لاطائفية وفي الوقت نفسه غير معادية للدين، والثانية تقوم على العزلة عن المحيط الأقرب لمصلحة الاندماج بالبيئات الأبعد، وجمود التعريف التقليدي للنظام السياسي، وتبنّي ثقافة هجينة تجمع على نحو انتقائي الطائفية مع ليبرالية استعلائية شكلانية.
هل يمكن تجربة الحياد أن تنجح...
تضع البيئة العاصفة التي تشهدها المنطقة حالياًً، لبنان أمام خيارين: الحياد الشامل أو عدم الحياد. إذا كان الحياد شاملاً فهو إذاً دعوة إلى صوغ الهوية اللبنانية من جديد، إذ لا يمكن أن يكون لبنان محايداً وفي الوقت نفسه ملزماً بشروط الشراكة مع العالم العربي، ومساهماً في مواجهة التحديات العربية المشتركة السياسيّة والاقتصادية... وإذا كان الحياد انتقائياً فهو دعوة للانحياز إلى فريق إقليمي دون آخر. في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون مثلاً، أنتج حياد لبنان غير المعلن تجاه العالم العربي انحيازاً إلى حلف بغداد، ما مهّد في حينه لحرب 1958. وعام 1969 سدد لبنان دفعة واحدة فاتورة عدم المشاركة المباشرة في أي من الحروب العربية الإسرائيلية، باضطراره إلى إبرام اتفاق القاهرة الذي يُرى فيه واحد من أسباب اندلاع الحرب الأهلية.
على أن المشكلة هنا ليست حياد لبنان أو عدمه، فلم يسبق للبنان أن انخرط في فترات استقراره في سياسة محاور إقليمية، بل المشكلة في رغبة الدول الكبرى في تحييده عن مشاريعها في المنطقة والعالم، والكف عن اعتباره «دولةً حاجزاً»، لها مهمات محددة ومؤقتة في أثناء الأزمات.
ولو سلمنا جدلاً بصوابية الحياد، فلا بد من أن يتم في إطار نظام إقليمي ذاتي الدفع متعدد الأطراف، قادر على إدارة واحترام أصول اللعبة... وفي ظل نظام سياسي مستقر وقوي يحد من «الطلب الداخلي» على الوصاية. على أنّنا نستنتج أخيراً أنّ استقرار لبنان يزداد رسوخاً كلما زادت مساهمته في رسم السياسات العامة في المنطقة، بينما يهتز استقراره كلما نأى بنفسه عن الشراكة لأنه سيكون، كما بيّنت التجربة، ضحية لهذه السياسات.
* نائب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق