توفيق شومان *
كثيرة هي الصور الذهنية اللبنانية التي تقف على تخوم اليأس، مثلما يحلو للبعض أن يقول في معرض تأويله لانسداد أفق التسوية الداخلية، ولكن، قد يكون التمعن في استكناه معاني «اليأس»، ضرباً من ضروب حسن الظن، ذلك أن اليأس ونظيره الإحباط، قد يكونان نتاجاً لبحث مضن عن سواء السبيل.
غير أن النظر في استفحال الأزمة اللبنانية منذ صدور القرار 1559 في أيلول من عام 2004، لا يؤدي إلى القول، بنزول اليأس على اللبنانيين جراء انغلاق أبواب التسوية وانقفالها فاستسلموا لاستبداده، بل إن منظومة من الافكار العدمية، التي تم احياء بعضها من جديد، واستولد بعضها الآخر استيلاداً، وشاع بعضها الثالث نتيجة غياب ثقافة الحلول والمشاريع الخلاقة، باتت (المنظومة العدمية) متفشية في الحياة السياسية اللبنانية بصورة عضالية.
من ظواهر الفكر العدمي السائد لبنانياً في هذه الآونة، القول بأن الخارج، هو الناظم التقليدي لنزاعات اللبنانيين او صراعاتهم، والقول ذاك، بقدر ما يوغل في الابتسار والاختزال والتسطيح، فإنه يفلسف لعجز الجماعة اللبنانية عن التآلف السياسي وحتى الإلفة الاجتماعية، ويذهب الى فلسفة «النقصان» اللبناني والانصياع الى تلقي الأوامر، وكلها عوامل ناجمة عن خسران في الرؤية السياسية السليمة المفترض ان ترافقها على الدوام، ثقافة التسويات والحلول، فالانقسام اللبناني مهما بلغت تشابكاته، ليس قدراً ولا قضاء، ففي عالم السياسة وفعلها، يستحيل الحديث عن القضاء المقضي، وبناء عليه، ليس الحديث عن الخارج ناظماً للنزاعات اللبنانية، سوى حديث العدم، وهذا نقيض السياسة المفتوحة الابواب والآفاق والفضاءات، مع الاشارة هنا، الى نقطة بالغة الأهمية:
ـــ ان الاستسلام لمنطق الناظم الخارجي، فيه من الخطورة ما يدفع اللبنانيين الى الكفر بوطنهم، فيما «الكفر الحلال» يجب أن يأخذ طريقة الى الطبقة السياسية العاجزة عن صوغ الحلول، والمستقرة على نمط بدائي من الممارسة السياسية، عنوانها الغلبة.
الظاهرة الثانية وثيقة الاتصال بالاولى، لكنها تنزع الى القول، بأن اللبنانيين هم على هذه الصورة من الانقسام التقليدي والتنازع والتصارع، وبمعنى، أن الصراعات اللبنانية ـــ اللبنانية هي واقع الحال اللبناني منذ تأسيس الكيان في عام 1920.
هذا التكريس للتنازع اللبناني، يجعل من الجماعة اللبنانية استثناءً، واذا ما تم التسليم بمنطق التنازع، فالحديث عن الاستثناء يوجز أمرين:
أ ـــ الترويج للفكر العدمي.
ب ـــ التعبير عن قصور معرفي سياسي بواقع الحال العربي، وهذا ما يطيح الاستثناء، فوقائع التطاحن في العراق، وخطوط التماس «الاقليمية» في الأردن بين الفلطسيني والاردني، والتجاور الفلسطيني ـــ الفلسطيني مع الحرب الاهلية («فتح» و«حماس»)، والقبائل المتحاربة في اليمن منذ داحس والغبراء، والمذهبيات المحتقنة في السعودية منذ الفتنة الكبرى، والجهويات (شمال وجنوب وشرق وغرب) المتنابذة في السودان، والقوميات المتصارعة في الجزائر وكذلك في المغرب، هي صورة أخرى عن الواقع اللبناني، فلبنان المبتلى بطوائفه، هو شبيه اليمن المبتلى بقبائله، واذا كانت طوائف لبنان هي احزابه، فالانطباق عينه في العراق، والنسخة نفسها في السودان حيث الأحزاب الجهوية، ولا يخرج ما تبقى من الاقطار العربية عن الاطار اللبناني.
خلاصة القول في هذه الظاهرة، أن اقفال ابواب التسوية، ناتج من مراوحة العقل العربي على ولاءات ما قبل الدولة الجامعة، التي تفترض تقليص مساحة الذات الفئوية لمصلحة ذات الجماعة الكبرى (الوطن والدولة)، وهذا أمر غير متوافر في لبنان ولا في اي قطر عربي سوى مصر التي تحمل الكثير من عناصر الدولة وتقاليدها.
واما الظاهرة الثالثة، فخطورتها متأتية من الترحيب المذهل باحتمال الخراب، ومن دلالات ذلك القول بأن الخراب الآتي ليس أكثر خطراً وأفظع بشاعة من الخراب الماضي، اي أن الذبح على الهوية والقنص والتهجير والـ200 الف قتيل كناتج لسنوات الحرب الممتدة من لعنة نيسان في عام 1975 وحتى إقفال اشداق المدافع في عام 1990، لا بأس من استعادته (الناتج)، وذاك منتهى الاستهانة بالموت والخراب، وعند هذا الحدّ يصل العدم إلى ذروته، وبكل ما يحمل من نقيض بناء وحوار وتسوية وحلول وانشداد الى أناشيد القبور.
الظاهرة الرابعة تكمن في فقدان الثقة، وهذه قد تكون رأس الهرم في منظومة العدم، فحين تُطرح على احد اطراف النزاع اللبناني، فكرة منطقية طرحها الطرف الآخر، يصار الى استحضار التساؤلات الابليسية من هذا الطرف تجاه ذاك، وعلى قاعدة هل يمكن تصديقه؟؟ وهل يمكن الثقة به؟ وماذا يؤكد أنه يستظهر مثلما يسبتطن؟
وفق هذه المعادلة، لا يعود لجسور التواصل مكان ولا زمان، فالآخر تجسد شيطاناً رجيماً يناور ويتآمر ويوسوس ويدسّ الدسائس، مما يعني استحالة اللقاء معه حتى على طاولة مستديرة، بحيث رست الصورة على تحول اللبنانيين الى أبالسة بنظر بعضهم الى بعض.
وعلى هذه الحال، يصبح الحديث عن قيام حكومتين، وربما انتخاب رئيسين، وقيام مجلسين للنواب، حديثاً لا تقترب منه الغرابة ولا الاستغراب، وهكذا هي حال الحديث عن الفراغ الدستوري، اذ لا تقدير للعواقب، ولا قراءة سليمة لأبعاد حصول الفراغ الذي هو الفوضى بعينها.
وفي مجموعة الظواهر ايضاً، انعدام مراجعة السياق السياسي للأطراف المتنازعة، حيث الهروب الى الأمام، قاعدة ترسخت لدى هذا الطرف او ذاك، واذا كان ثمة مراجعة ، فأمرها يقتصر على عدم استغلال لحظات اندفاع العواطف واندلاعها لأجل مزيد من التصعيد والإمساك بزمام الأمور، يعني الندب على فوات لحظة الغلبة الكاملة.
إن منطق الغلبة، هو منطق العدم نفسه، وهو اذ يختصر سيطرة اللحظة يحمل في باطنه دورة جديدة من النزاعات والانتفاضات والجراحات، بالإضافة إلى استحالة سريان منطق الغلبة في الواقع اللبناني استناداً الى التوازن الدقيق في بنائه الاجتماعي، فكيف تكون الحال اذاً عندما تتحول الطوائف والمذاهب الى صفوف مرصوصة، وأكثر ما ظهر التوصيف السابق الذكر، في صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية في عام 2005.
ان شيوع الفكر العدمي في الواقع السياسي اللبناني، مردّه إلى الافتقار لسؤال «الما بعد»، فحين يصار الى الاستهانة باحتمال الخراب، يعمل القائلون به على الفرار من الاجابة عن سؤال ما بعد الخراب، وكذلك الحال مع منطق الغلبة، اذ لا جواب على مرحلة ما بعد الغالب والمغلوب، ولا جواب بالتالي عن حشو الطوائف والمذاهب وحقنها بالاناشيد الذاتية بدل النشيد الوطني. وأما الاجابة عن معنى فلسفة الانقسام اللبناني لتكريسه وترسيخه، فلا تخرج عن بساطة مفادها سؤال: وماذا نفعل؟ وما هو الحل؟
مثل هذه الاجابات التي لا تعني شيئاً، يفترض ألا تكون موجودة في معاجم اصحاب القرار، فالسياسة اولاً، هي تدبير الواقع وتسيير شؤونه، اي تفكيك تعقيداته، وعندما لا تنحو السياسة هذا المنحى، فلا هي من السياسة ولا هي من شيء.. وحينذاك يسود العدم.. وهذا هو واقع الحال...
* كاتب لبناني